صفقات فاسدة لبيع الأصول العامة في لبنان لاعتبارات سياسية
حذرت مؤسسة “فنك” الأوروبية من أن الأصول العامة اللبنانية في خطر نتيجة السير بمشاريع الخصخصة بعقود وشروط مجحفة بحق الدولة والمال العام، وبصفقات مبنية على المصالح السياسية.
وقالت المؤسسة إن المخاطر بالأصول العامة اللبنانية تتزايد أكثر من أي وقت مضى، بدءًا من ضغط اللوبي المصرفي اللبناني باتجاه بيع الأملاك والمرافق العامة، أو تلزيم استثمارها للقطاع الخاص، لعقود طويلة، من خلال صناديق استثمارية معينة، بهدف استخدام العائدات لإطفاء خسائر القطاع المصرفي.
وبحسب المؤسسة تتقاطع هذه المخاطر مع سعي العديد من الدول الأجنبية، وأبرزها فرنسا، لتوظيف علاقتها وصفقاتها مع الطبقة السياسية اللبنانية، لوضع اليد على الأصول والمرافق العامة اللبنانية واستثمارها، من قبل الشركات الفرنسية.
أما الأكثر إثارة للقلق، فهو ضعف أطر الحوكمة وفقدان الشفافية في مؤسسات الدولة، ما ينذر بالتفريط بهذه الممتلكات مقابل عوائد زهيدة، ولأهداف ملتبسة لا تصب في مصلحة المقيمين في لبنان.
تجدر الإشارة إلى أن اللجوء إلى الشراكة مع القطاع الخاص، لاستثمار مرافق أو أصول عامة معينة، يمثل أداةً استثمارية طبيعية تلجأ إليها الدول في العادة، لتحفيز النمو وتأمين الخدمات العامة بنوعية جيدة وأسعار تنافسية.
لكن في حالة لبنان، تكمن الإشكالية في أن هذه المشاريع لا تستهدف استعمال العائدات –التي هي أموال عامة- للنهوض بميزانية الدولة أو تأمين شبكات الحماية الاجتماعية، التي تفيد جميع المقيمين.
بل وعلى العكس تمامًا، يجري طرح هذه المشاريع بهدف تعويم قطاع خاص، هو القطاع المصرفي، وإعفاء المساهمين من تحمل نصيبهم من الخسائر، على حساب المال العام.
كما تكمن الإشكالية الثانية في أن البلاد تمر حاليًا بانهيار مالي واقتصادي قاسٍ، ما يعني أن الخصخصة في الوقت الراهن، ستعني بيع الأصول العامة بأثمان بخسة، في ظل إحجام المتمولين عن التنافس للاستثمار في لبنان.
وسيعني ذلك أن الشراكة مع القطاع الخاص في هذا الوقت، لاستثمار مرافق عامة معينة، ستُلزم لبنان لعقود طويلة باتفاقيات لا تؤمن أفضل العائدات الممكنة للدولة، بالنظر إلى حجم التنازلات المطلوب تقديمها لاستقدام المستثمرين في ظل الأزمة المالية.
وفي الوقت الراهن، يعاني العديد من أحزاب الطبقة السياسية اللبنانية من تزايد عزلتها الدولية، ما يدفعها الى تقديم المزيد من التنازلات للدول الأجنبية المهتمة باستثمار المرافق العامة اللبنانية، في محاولة للحصول على غطاء دولي منها.
وهذا ما سيعني تكبيد المال العام كلفة تعويم الطبقة السياسية اللبنانية، المسؤولة أساسًا عن الهدر وسوء إدارتها الدولة. وبدل الاعتماد على مبدأ محاسبة المسؤولين عن هدر المال العام، ستؤدي هذه التطورات إلى تكريس ثقافة الإفلات من العقاب.
أطماع اللوبي المصرفي
يعاني القطاع المصرفي من كتلة من الخسائر، تقارب قيمتها حدود ال73 مليار دولار، كما قدرتها آخر خطط الحكومة اللبنانية المالية للعام 2022.
ولفهم معنى كتلة الخسائر، تكفي الإشارة إلى أنها تمثل اليوم الفارق بين ما يترتب على المصارف والمصرف المركزي من التزامات بالعملة الصعبة للمودعين، وما تبقى من سيولة أو موجودات قابلة للتسييل في القطاع المصرفي.
وهذه الخسائر الضخمة، التي توازي قيمتها 76% من الودائع الموجودة في المصارف، ونحو 3.6 مرات قيمة الناتج المحلي الإجمالي، هي ما يحول دون تسديد المصارف التزاماتها للمودعين.
وكتلة الخسائر المصرفية هذه، تختلف كليًا عن مشكلة الدين العام، التي نتجت عن توقف الدولة عن سداد سنداتها منذ شهر آذار/مارس 2020.
فالجزء الأكبر من هذه الخسائر المصرفية، نتجت عن الفوائد والأرباح الضخمة التي منحها المصرف المركزي لأصحاب المصارف وكبار المودعين، مقابل توظيف المزيد من أموال المصارف لدى المصرف المركزي.
كما جاء جزء آخر من الخسائر نتيجة قيام المصرف المركزي ببيع الدولارات بسعر الصرف الرسمي المنخفض، لتمكين بعض المودعين النافذين من تحويل أموالهم إلى الخارج، خلال الفترة التي اعتمد فيها لبنان سياسة سعر الصرف الثابت.
بصورة أوضح، توسعت هذه الفجوة في الميزانيات بفعل عمليات داخل القطاع نفسه، بين المصرف المركزي والمصارف التجارية.
مما بات واضحًا اليوم، أن هذه العمليات الملتبسة صبت في خدمة الفئة الأكثر نفوذًا داخل النظامين المالي والسياسي، وعلى حساب الغالبية الساحقة من أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة.
وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لوصف ما جرى بعملية احتيال شبيهة بسلسلة بوزني، مشيرًا إلى أن السرقة والفساد كانا من أبرز العوامل التي أدت إلى الانهيار المصرفي.
كان من المفترض أن تتم معالجة هذه المشكلة عبر إعادة هيكلة القطاع المصرفي بأسره، بداية من شطب رساميل المساهمين، الذين يفترض أن يتحملوا القسم الأكبر من الخسائر، نتيجة مجازفتهم بأموال المودعين مقابل الأرباح التي حصلوا عليها.
كما كان يجب توزيع معظم هذه الخسائر على باقي الدائنين، بحسب توزع المسؤوليات، ووفق درجة استفادة كل فئة من العمليات المشبوهة التي حصلت.
وهذا ما يفرض أولًا البدء بالتدقيق في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي، وهذا ما لم يحصل. وفي مرحلة لاحقة، كان يمكن إعادة رسملة القطاع، بدخول مساهمين جدد، ما يمهد لإعادة انتظام القطاع المصرفي.
كما كان متوقعًا، رفضت المصارف بشكل كلي هذه المقاربة للحل، لكونها كانت ستعني ببساطة فتح الميزانيات وكشف الارتكابات التي حصلت خلال السنوات التي سبقت الانهيار.
ولهذا السبب، لم يتم تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، التي نصت على تدقيق ميزانيات 14 مصرفًا من أكبر المصارف، تمهيدًا للدخول في عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
ورفضت المصارف بشكل قاطع فكرة شطب رساميل مساهميها ودخول مساهمين جدد، لكون هذه الفكرة ستؤدي إلى تغير هوية المهيمنين على القطاع المصرفي. وهكذا، حالت المصالح المصرفية دون السير بالحلول المطلوبة للأزمة.
تمثل الطرح البديل الذي قدمته جمعية مصارف لبنان منذ العام 2020، في تأسيس صندوق استثماري خاص، يضم أصول ومرافق عامة بقيمة 40 مليار دولار.
وبعد أن تقدم الدولة اللبنانية هذه الموجودات للصندوق، يتم تلزيم استثمارها للقطاع الخاص، أو خصخصتها، بهدف استعمال أرباح الصندوق لإطفاء الخسائر المصرفية.
وقدمت المصارف هذه الخطة تحت عنوان تحمل الدولة مسؤوليتها في معالجة الخسائر، بدل أن يتم تحميل هذه الخسائر للقطاع المصرفي.
ومنذ ذلك الوقت، سعى اللوبي المصرفي بشتى الطرق لتسويق الطرح سياسيًا وإعلاميًا. مع الإشارة إلى أن لوبي المصارف يملك تأثيرا قويًا على المنظومة السياسية، التي تتشابك مصالحها مع مصالح كبار النافذين ماليًا في المصارف.
كما يملك تأثيرًا قويًا على الإعلام التقليدي، لكون المصارف تمثل الجهة الأكثر إنفاقًا على الإعلانات والحملات الدعائية المدفوعة، رغم الأزمة المصرفية القائمة اليوم.
خطورة طرح جمعية المصارف
لا يحتاج الأمر لكثير من التحليل لفهم خطورة طرح جمعية المصارف. فتأمين هذه القيمة من الأصول والمرافق العامة، سيعني تجريد الدولة اللبنانية من كل ما تملكه من مرافئ ومطارات وشركات اتصالات خليوية وأرضية، بالإضافة إلى المشاعات والأملاك البحرية وشركة الطيران العامة والبريد، وغيرها من المؤسسات التي تقدم الخدمات العامة.
وبدل أن تستعمل الدولة رسوم هذه المرافق العامة، أو عائدات استثمارها بالشراكة مع القطاع الخاص، لمعالجة الخسائر المجتمعية التي نتجت عن الانهيار المالي، سيتم استعمال هذه الإيرادات لمعالجة خسائر الفئة النافذة ماليًا في القطاع المصرفي.
ومن المعلوم أن المجتمع اللبناني تحمل أساسًا الكثير من الخسائر التي يفترض أن تتعامل معها الدولة، مثل تهاوي قيمة أجور وتعويضات موظفي القطاع العام، التي خسرت 95% من قيمتها، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة.
كما تحمل المجتمع كلفة تهاوي جميع أشكال شبكات الحماية الاجتماعية، وتدهور البنية التحتية ونوعية الخدمات العامة، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفقر.
باختصار، سيُجهز مشروع جمعية المصارف على أي إمكانية لنهوض الدولة، وقيامها بأبسط الوظائف المطلوبة من القطاع العام.
وبالنظر إلى حجم الخسائر المصرفية الضخم، مقارنة بحجم الاقتصاد اللبناني المحدود، سيستغرق الأمر عقودًا طويلة من الزمن، قبل أن يتمكن الصندوق الاستثماري المقترح من إطفاء هذه الخسائر. وبذلك، ستتحمل الأجيال المقبلة وزر التعامل مع خسائر الماضي، على نحوٍ مجحف.
في المقابل، سيؤدي هذا المشروع إلى تركيز الثروة بشكل كبير في المجتمع، لكونه سيحمل جميع المقيمين في لبنان كلفة تسديد الرسوم للمرافق التي سيتم استثمارها، من أجل السداد لحلقة ضيقة جدًا من النخبة المالية في المجتمع.
ولبنان أساسًا، يُعد من الدول التي عانت تاريخيًا من تركز كبير في الثروة، نتيجة السياسات المالية التي تم اعتمادها، وهذا ما جعل 1% من المودعين فقط يستحوذون على مجمل الحسابات المصرفية التي تزيد قيمتها عن 200 ألف دولار أميركي.
وفي الوقت نفسه، من الواضح أن الطرح لا يتسم بأدنى حد من بالعدالة. فبدل أن تستند عملية توزيع الخسائر الى مبادئ المحاسبة والمساءلة وتوزيع المسؤوليات، ستستند العملية –بحسب طرح جمعية المصارف- إلى مبدأ تحميل المجتمع بأسره وزر انهيار مصرفي تسببت به واستفادت منه الفئة الأكثر ثراءً من المقيمين.
وتملص هذه الفئة من تحمل عواقب ارتكابات السنوات الماضية، سيفتح المجال أمام تكرار السيناريو نفسه في المستقبل.
طموحات فرنسية
تُعتبر فرنسا أبرز الأطراف الدولية الغربية المهتمة بالاستثمار في الأصول والمرافق العامة اللبنانية، وتوسيع رقعة هيمنتها الاقتصادية في البلاد.
كما تُعتبر أكثر الأطراف الغربية انخراطًا في الملف السياسي اللبناني، ما يمنحها القدرة على تحقيق هذه الطموحات.
وبذلك، تلتقي الطموحات الفرنسية اليوم مع فكرة جمعية المصارف، الهادفة الى تسريع عملية استثمار أو خصخصة المرافق والأصول العامة، لإطفاء الخسائر المصرفية.
من هنا بالتحديد، يمكن فهم حرص فرنسا على دعم رئيس الحكومة اللبنانية المقرب منها، نجيب ميقاتي. ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم براغماتيتها المفرطة في التعامل والتفاهم مع حزب الله، بوصفه أكثر الأطراف السياسية نفوذًا على الساحة اللبنانية، بخلاف سائر الدول الغربية الأكثر تشددًا في علاقتها مع الحزب.
نتيجة كل هذه المساعي الفرنسية، تمكنت شركة CMA CGM الفرنسية العملاقة، المملوكة من عائلة سعادة المقربة من الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، من الحصول على عقد استثمار قطاع البريد في لبنان لمدة 9 سنوات.
وحصلت الشركة على هذا العقد في أواخر شهر آذار/مارس 2023، من دون إجراء أي منافسة تُذكر، بعد أن تقدمت وحدها بعرض لتشغيل هذا المرفق العام.
وكانت الشركة الفرنسية عينها قد حصلت عام 2022 على عقد تشغيل واستثمار محطة الحاويات في مرفأ بيروت، لمدة 10 سنوات، في صفقة حصلت عليها أيضًا دون أي منافسة، بعد أن انفردت وحدها بالتقدم بعرض لتشغيل المحطة.
كما وسعت الشركة خلال السنوات الماضية أنشطتها في لبنان، إذ استحوذت على كامل عقد استثمار وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ طرابلس، فيما أنشأت مراكز لوجستية في عدة مناطق لبنانية لزيادة نطاق عملياتها على الأراضي اللبنانية.
وفي كل هذه الصفقات، استفادت الشركة من دعم الإدارة الفرنسية لها، ومن قرب رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي من ماكرون شخصيًا.
كما بدا من الواضح أن الشركة استفادت من الأزمة المالية الراهنة، للحصول على التلزيمات بشروط تناسبها، بغياب أي منافسة بسبب ابتعاد الشركات الأجنبية عن الاقتصاد اللبناني المأزوم.
وهذا ما يعني أن الدولة اللبنانية تعرضت للإجحاف عند تلزيم هذه المرافق الآن لفترات زمنية طويلة، بسبب عدم وجود منافسة تؤمن أفضل الشروط للبنان.
بين الطموحات الفرنسية لاستثمار المرافق العامة، وضغط لوبي المصارف لتلزيم أو خصخصة هذه المرافق لمعالجة الخسائر المصرفية، تنصاع الطبقة السياسية اللبنانية لضغوطات لوبي المصارف والتدخلات الفرنسية في الوقت عينه.
فالسير بهذه المشاريع، يحقق مصالح اللوبي المصرفي المؤثر والنافذ، ويسمح باستقدام الدعم الفرنسي الدولي للسلطة اللبنانية.
أما النتيجة، فهي التفريط اليوم بالأصول العامة، بعقود وشروط مجحفة بحق الدولة والمال العام، وبصفقات مبنية على التأثيرات والمصالح السياسية، بدل أن تتم على أساس المنافسة الجدية التي تحقق مصلحة لبنان.