توسّع الناتو ونهاية “الحالة الفنلندية”
يرمز مصطلح “الحالة الفنلندية”، في العلاقات الدولية، إلى حالة البلد التائب عن الصراع العسكري، وغير الراغب في الدخول في أي تحالفٍ لأغراض حربية.
تعود التسمية إلى قرار فنلندا النأي بنفسها عن أي انحياز خطر بعد تجربة حربٍ شرسةٍ مع الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن الماضي.
في العام 1948، وقعت فنلندا مع السوفييت اتفاقاً شهيراً تحت اسم السلام والصداقة، اعتبر كأنه يمثل مرحلة جديدة وصفحة تطوى بها جميع الخلافات.
كانت فنلندا جزءاً من السويد منذ القرون الوسطى وحتى القرن الثامن عشر، وهي فترةُ لم تكد تخلو من الحروب والتصعيد مع الروس، الذين كانوا يحاولون الاحتفاظ بحرية الوصول إلى بحر البلطيق.
كان آخر هذه الحروب وأكثرها أهمية حرب 1809 التي تنازلت بموجبها السويد لروسيا عن فنلندا، التي صار اسمها “دوقّية فنلندا الكبرى” داخل الإمبراطورية الروسية، وهو الوضع الذي بقيت عليه حتى حصولها على الاستقلال بعد الثورة البلشفية.
وكان من نتائج تلك الحرب أن السويد دخلت كذلك في حالة الحياد الاستراتيجي، بخلاف حربٍ قصيرة مع جارتها النرويج، وهو الحياد الذي استمرّت عليه حوالي قرنين.
اختارت فنلندا، وفق اتفاق السلام والصداقة، أو أجبرت بالأحرى، على اختيار الحياد العسكري والبعد عن مناوشات القرن العشرين بين المعسكرين الشرقي والغربي.
هكذا وعلى الرغم من وجودها في قلب القارّة الأوروبية، إلا أن فنلندا ظلت تتميز عقودا بوضع استثنائي وبالنأي عن أي تكتّل يستهدف الروس، سيما حلف شمال الأطلسي الذي كانت عقيدته بالأساس، وما تزال، مواجهة الخطر الروسي.
تشير “الحالة الفنلندية” أيضاً إلى ضرورة أن تراعي الدول الصغيرة مصالح جيرانها، سيما إذا كان ذلك الجار دولةً كبيرة، فهنا لا بد للصغير أن يكون أكثر عقلانية، لأن التهوّر يمكن أن يحرّض الأطراف الكبيرة على ابتلاعه، وهو ما تغفل عنه دولٌ كثيرة متواضعة القدرات حين تكون غير واقعية، وتدخل في تحدٍّ مع جيرانها من دون الأخذ بعين الاعتبار الفوارق في القوة.
جرّبت فنلندا في بداية القرن الماضي سياسة التحدّي، حينما رفضت تنفيذ المطالب الروسية، ما أدّى إلى دخولها في حربٍ انتهت بخسائر كبيرة، وبالاضطرار لتنفيذ تلك المطالب.
مع ما يقال عن الصمود الفنلندي، وعن تكبيد خسائر للطرف الروسي إبّان ذلك الصراع، إلا أن الحقيقة أن الحرب انتهت باقتطاع أراضٍ مهمة، وبالوصول إلى تفاهماتٍ مؤيدة ما كان الاتحاد السوفييتي طلبه منذ البداية.
وهو ما تكرّر بعد سنوات، حينما راهنت فنلندا على ألمانيا في مواجهة السوفييت، طمعاً في استعادة الأراضي المقتطعة، قبل أن تنتهي الحرب بهزيمة ثانية موجعة.
وقد جعلت هذه التجربة المريرة فنلندا شديدة الاستسلام لواقعها الجيوبوليتيكي، إلى درجةٍ وصلت حد التسامح مع التدخل السوفييتي في السياسة الداخلية بذريعة التأكّد من عدم وجود أي تحرّك ضار بالأمن الروسي، بما في ذلك الانتقاد الحاد للشيوعية.
بوضع ذلك كله بعين الاعتبار، ما حدث في الرابع من إبريل/ نيسان الحالي يعدّ تحولًا كبيراً على صعيد توازن القوى في المنطقة.
فبعد ما يقارب العام من التفكير والتفاوض، وبعد تجاوز الاعتراض التركي، الذي مثل عائقاً لأشهر، أعلن عن انضمام فنلندا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لتصبح بهذا العضو الـ31، والأكثر احتكاكاً بروسيا عبر حدود تمتد إلى أكثر من ألف وثلاثمئة كيلومتر.
وقد ساهمت الحرب الأوكرانية في إقناع كل من القيادة السياسية والمواطنين بضرورة الانتماء للحلف، على اعتبار أنه يمكن أن يكون طريقة الدفاع الأكبر ضد أي محاولةٍ روسيةٍ للتوغل أو التدخل العسكري، على غرار ما حدث في أوكرانيا.
على الجانب الروسي، لم يكن هناك ردّ فعل قوي، على الرغم من أهمية الحدث، وعلى الرغم من أن أحد أسباب الأزمة مع أوكرانيا كان اتجاه الأخيرة إلى الدخول في حلف شمال الأطلسي ورفضها الاستسلام على طريقة “الحالة الفنلندية”.
ربما كان في ذلك دليل على أن روسيا أصبحت أكثر ضعفاً وتشتتاً بشكلٍ يمنعها من الردّ العنيف أو محاولة فتح جبهة جديدة في ظل الصعوبات على الساحة الأوكرانية.
جعل ذلك كثيرين، في مقدمتهم الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، يذهبون للقول إن الحرب لم تؤتِ ثمارها، إن كان على رأس تلك الثمار المنتظرة ردع الدول الأوروبية ومنع الحلف من التمدّد شرقاً، لأن ما حدث كان العكس تماماً. بالنسبة للفنلنديين والراغبين الأطلسيين الآخرين في توسيع الحلف، بدت هذه اللحظة هي الأنسب للانضمام.
سوف تستفيد فنلندا بالتأكيد من انضمامها للحلف، لكن الحلف أيضاً سيستفيد، فهو سيوسّع من حائط صدّه الكبير على الحدود الروسية، كما أنه سيستفيد من القدرات العسكرية الفنلندية، التي تعتبر مميزة بالمقارنة مع جاراتها، سواء من ناحية العتاد العسكري والمدفعيات أو أعداد المقاتلين الذين يمكن الاعتماد عليهم في وقت الذروة العسكرية.
ستقدّم فنلندا، الدولة الغنية والقليلة السكان، والتي تخصّص ميزانية كبيرة من مواردها للدفاع، إضافة للخبرات العسكرية التقليدية، وتلك التي اكتسبتها من خلال شراكتها وتنسيقها مع الحلف، خبرة إضافية في ما يتعلق بحروب الشتاء والثلوج، كما ستستطيع في حالة الحرب وبالتنسيق مع العضو الآخر، إستونيا، غلق المنفذ البحري والحيوي المؤدّي إلى بحر البلطيق.
ستكون فنلندا داخل حلف الناتو قريبة من وجهة النظر الأميركية التي كانت تحثّ الدول الأعضاء على الاستثمار أكثر في الحلف، والسخاء في تخصيص نسبة من الدخل القومي لصالح الجهود الدفاعية، وهو الأمر الذي لم تكن أغلب الدول الأوروبية تتعامل معه بجدّية.
ويتطلع الأعضاء في الحلف إلى ضمّ السويد أيضاً خلال الفترة المقبلة، لكن الاعتراضين، التركي والمجري، على ذلك يبقيان من أهم العوائق، ففيما لا ترحّب المجر بالسويد، التي كثيراً ما تتدخّل في شؤونها موجّهة لها انتقاداتٍ لاذعة، تتهم تركيا بدورها السويد بإيواء أعداد من الإرهابيين والعناصر المطلوبة أمنياً.
للكاتب/ مدى الفاتح