العدوان الروسي والصراعات العربية وفشل النظام الدولي
يكشف العدوان الروسي على أوكرانيا عن اتساع الاختلالات البنيوية في الترتيبات المؤسسية والسياسية والقانونية للنظام العالمي، والفشل الذي يصل إلى حد الشلل في التعامل مع الأزمات الدولية، أو القدرة على التدخل المبكر لمنع انحدار هذه الأزمات إلى صراعات مسلحة ذات أثمان إنسانية باهظة، خصوصاً في سياق الأزمات التي تضم أطرافا دولية وإقليمية ذات مصالح جيوسياسية متعارضة.
يعاني المجتمع الدولي ومؤسساته من الشلل المتكرّر تجاه الأزمات الدولية التي تتداخل فيها عادة مصالح متعارضة للدول، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالدول دائمة العضوية في مجلس الأمن أو حلفائها.
وهو أمرٌ ليس جديدا، بل يمكن القول إنه يمثل القاعدة في المنظومة الدولية التي ولدت بتناقضاتها مع تأسيس نظام الأمم المتحدة في منتصف القرن العشرين.
وقد تمثل الاستثناء عن هذه القاعدة خلال حقبة التسعينيات، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. وهي الحقبة التي شهدت تصاعد التطلعات والتوقعات المرتبطة بخطابات العدالة والمحاسبة الدولية، ومفاهيم مثل التدخل الإنساني، ومسؤولية حماية المدنيين في سياق النزاعات المسلحة، خصوصاً بعد الفشل الذريع للمجتمع الدولي في مواجهة جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبت في رواندا عام 1994، ثم الفشل في وقف الجرائم واسعة النطاق التي ارتكبت في البوسنة والهرسك عام 1995.
وقد شهدت الساحة الدولية بعض الأمثلة المحدودة والاستثنائية لتطبيق مفاهيم التدخل الإنساني، ومسؤولية الحماية خلال تلك الحقبة في مناطق الصراعات المسلحة، كما حدث في كوسوفو نهاية التسعينيات، والتي قرّر فيها حلف الناتو التدخل عسكرياً بشكل منفرد بدون تفويض من مجلس الأمن عام 1999 لإنهاء الصراع.
لم يكن النظام الدولي في تلك الحقبة القصيرة قد دخل بعد في مرحلة الاستقطاب وتناحر النفوذ دولياً وإقليمياً بين قوى متعدّدة صاعدة، كما سيكون عليه الحال في العقدين الأخيرين، فقد تغيّرت بنية العلاقات الدولية، وأصبحت أكثر تعقيداً مع صعود النفوذين، الروسي والصيني، ومناطق نفوذ أخرى في العالم، مكّنت هذه القوى الصاعدة من التداخل مع أجندة المؤسسات الدولية، وإعادة توجيهها، وفي أحيان كثيرة إضعافها.
وقد تواكب ذلك مع تراجع النفوذ الأوروبي في الساحة الدولية بشكل متسارع خلال العقد الأخير، في ظلّ تحدّيات اقتصادية عصفت بمنطقة اليورو، فضلاً عن الانقسامات داخل أوروبا عن جدوى الاستمرار في مشروع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي توّج بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في فبراير/ شباط 2020.
وكانت مراكز بحوث أوروبية عديدة قد حذّرت خلال العقد الأخير من فداحة الثمن السياسي لهذا التراجع الأوروبي على الساحة الدولية، والذي تزامن مع تزايد قدرة روسيا على تحقيق اختراقات نوعية في الاقتصادات الأوروبية، وداخل الأوساط السياسية لبلدان أوروبية عديدة هامة.
وعلى الناحية الأخرى من الأطلنطي، تتوالى الهزائم الدبلوماسية للولايات المتحدة في إدارتها أزمات دولية عديدة، من أبرزها، أخيرا، انهيار نظام الحكم في أفغانستان، وعودة نظام حركة طالبان، بعد فشل محاولات بناء نظام سياسي مستقر هناك على مدار عقدين.
ويخبرنا واقعنا العربي جيداً، ونحن نتابع اليوم تداعيات العدوان الروسي على أوكرانيا، عن الثمن الإنساني الفادح لهذه الاختلالات الدولية، فتورّط أطراف مؤثرة إقليمياً ودولياً، بشكل مباشر أو بالوكالة، في الصراعات الأهلية العربية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، جمّد أفق التسوية السلمية لهذه الصراعات سنوات.
وقد اتجهت الأطراف نفسها لعرقلة (أو إضعاف) المحاولات الدولية لتطبيق آليات النظام الدولي لحقوق الإنسان التي من شأنها مواجهة آثار هذه الصراعات، ففي سورية نجحت روسيا، عبر آلتها العسكرية المباشرة، وفي ظلّ ارتكاب جرائم واسعة النطاق ضد المدنيين، في استمرار نظام بشار الأسد، بعد فشل أوروبا والولايات المتحدة منذ قيام الثورة السورية، في إدارة الأزمة، حتى تحولت الثورة إلى نزاع مسلح داخلي مع تدخل أطراف دولية وإقليمية ذات أجندات سياسية متضاربة.
وقد استخدمت روسيا والصين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن أكثر من 18 مرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2011 ضد قرارات تتعلق بحقوق الإنسان في سورية، ومنها محاولات لإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي ليبيا، أدّى الانقسام الأوروبي والتدخلات الإقليمية لإطالة أمد الصراع المسلح هناك، وتولدت صراعات داخلية جديدة تستمر آثارها السياسية والاجتماعية. وقد اجتمعت معظم الأطراف الدولية والإقليمية على الانتهاك المنهجي لنظام حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا.
وفي اليمن، حيث أدّى الاستقطاب الإقليمي الإيراني والسعودي، والتدخل العسكري من تحالف الإمارات والسعودية، والتواطؤ الغربي مع هذا التحالف، إلى استمرار النزيف الإنساني في اليمن، بل إحداث تدمير منهجي في الدولة اليمنية، ونسيجها المجتمعي.
ونجحت السعودية والإمارات في التأثير على مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لإنهاء عمل فريق الخبراء الدوليين والإقليميين المعني بالتحقيق في الجرائم المرتكبة في اليمن، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بعد مطالبات للفريق بإعمال العدالة الجنائية الدولية ضد الأطراف المتورّطة في الانتهاكات الجسيمة في اليمن.
من ناحية أخرى، استمر التواطؤ الأميركي والأوروبي تجاه جرائم إسرائيل وخروقها القانون الدولي عقوداً، الأمر الذي جعلها فوق المساءلة الدولية.
لقد حذّرت الأمم المتحدة مما اعتبرته فشلاً منهجياً لمؤسساتها وللمجتمع الدولي في التعامل مع الصراعات المسلحة وتداعياتها الإنسانية، في أعقاب التحقيقات الداخلية الموسّعة الشهيرة التي أجرتها لجان مستقلة بمبادرة من المنظمة الدولية حول مسارات الصراعات المسلحة في كلّ من سريلانكا عام 2009، وميانمار بين عامي 2010 و2018.
في كلا الصراعين، كان للتفاعلات الإقليمية والدولية المحيطة بهما أثر كارثي أدّى إلى توسع نطاقهما، وتقييد قدرة المجتمع الدولي في وقف آثارهما واحتوائها.
لكن سنواتٍ مرت بعد هذه التحقيقات الأممية، ولم يتغير شيء في واقع الصراعات والأزمات الدولية، فالتهديد الذي تمثله روسيا، اليوم، للسلام العالمي والقانون الدولي من واقع عدوانها على أوكرانيا لا يمكن اعتباره سوى أنّه عرض لاختلالات مستمرة ومتجدّدة في بنية نظام دولي لم يعد قادراً، بشكله ومؤسساته الحالية، على احتواء أزمات سياسية داخلية أو دولية تتضارب فيها مصالح الأطراف الرئيسية المشكلّة هذا النظام، أو بين الأطراف القادرة على بناء تحالفاتٍ مع القوى الأكثر تأثيراً ونفوذاً في العالم.
ويبدو أنّ الشعوب ستتعايش مضطرّة مع مثل هذه الأوضاع وتداعياتها الإنسانية والاجتماعية سنوات مقبلة.
للكاتب: معتز الفجيري