بريطانيا وخطة ترحيل طالبي اللجوء
لا يكاد يمر أسبوع من دون تغطية إعلامية لحدث يتعلق بطالبي اللجوء أو المهاجرين في أوروبا وحوض البحر المتوسط.
في منتصف الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وفي مأساة جديدة ومتكررة في حوض البحر المتوسط، لقي مئات الأشخاص من المهاجرين وطالبي اللجوء من جنسيات عربية وأفريقية حتفهم بعد غرق مركب متهالك كان ينقلهم إلى سواحل اليونان.
في الوقت ذاته، تواصل الحكومات الأوروبية التعهد بمساعدات مالية سخية لدول جنوب المتوسط لتشديد الرقابة الأمنية على الحدود والسواحل مع دول جنوب أوروبا، بحيث أصبح ملف السيطرة على حركة الأفراد أكثر الملفات أولوية عند التعامل مع قضايا العالم العربي.
وفي زيارتها لتونس في الأسبوع الأول من الشهر الماضي (يونيو)، تعهدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بتقديم دعم سخي لحكومة قيس سعيد وللاقتصاد التونسي نـظير التعاون في مكافحة الهجرة غير النظامية.
وفي المملكة المتحدة، تدور معركة قضائية شرسة منذ عام في المحاكم البريطانية بدرجاتها المختلفة في لندن، وفي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، بشأن قانونية الخطة الجديدة التي تتبناها الحكومة الإنكليزية لتكليف دولة أخرى شريكة لها وراء البحار لاستقبال طالبي اللجوء وترحيلهم إليها من بريطانيا.
لم يكن في مخيلة مجموعة من طالبي اللجوء من سورية والعراق وإيران أن القدر سيقودهم إلى أن يكونوا ضمن المجموعة الأولى لطالبي اللجوء الذين تنفذ فيهم مقررات مذكرة التفاهم المكتوبة والتفاهمات الدبلوماسية الشفوية التي أبرمتها الحكومة البريطانية مع حكومة رواندا في 13 إبريل/ نيسان 2022.
وتخول تلك المذكرات الحكومة البريطانية خلال خمس سنوات بنقل طالبي اللجوء الذين قدموا إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني إلى القارة الأفريقية في دولة رواندا للبت في طلبات لجوئهم تمهيدا لتوطينهم بعيداً عن الأراضي البريطانية.
تصدر هؤلاء الذين فروا من اضطهاد السلطات في بلدانهم الأخبار في الإعلامين البريطاني والدولي عاما خلال سلسلة من المعارك القضائية التي خاضوها وما زالوا لإلغاء قرار الحكومة البريطانية ترحيلهم إلى رواندا.
ولد التفكير في هذا الترتيب مع رواندا خلال حكومة حزب المحافظين، برئاسة بوريس جونسون، في أعقاب انسحاب المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي، وفي إطار وعود هذه الحكومة بالحد من تسلل طالبي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين إلى بريطانيا.
رأت حكومة جونسون أن هذا الترتيب كفيلٌ بردع طالبي اللجوء بعدم دخول المملكة المتحدة بشكل غير شرعي، عبر عبور القنال الإنكليزي بالقوارب من شمال فرنسا، لتقديم طلبات اللجوء في الأراضي البريطانية.
ومن المفارقة أن أكثر المتحمسين لهذه الخطة المثيرة للجدل، والمتوقع أن تعرض حياة عشرات الآلاف من طالبي اللجوء في بريطانيا وحقوقهم للخطر في السنوات المقبلة، هم قياديو حزب المحافظين من ذوي الأصول المهاجرة، في مقدمتهم رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، ووزيرتا الداخلية السابقة بريتي باتيل، والحالية سويلا برافرمان.
تلجأ الدول الغربية في السنوات الأخيرة، بصور مختلفة، إلى الاعتماد على علاقتها الثنائية مع دول الجنوب، لتشكيل ظهير حماية لأراضيها من وصول طالبي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين إلى أراضيها.
يهدف الدعم المالي والتقني المقدم لدول جنوب المتوسط، مثل ليبيا وتونس ومصر والمغرب، إلى تأمين الحدود، وبناء معسكرات إيواء لاحتجاز طالبي اللجوء، كما هو الحال قبل وصولهم إلى الأراضي الأوروبية.
وقد بدأت هذه السياسات تأخذ منحىً جديداً عبر تفكير بعض الدول الأوروبية في التوقف عن البت في طلبات اللجوء للأفراد الذين وصلوا بالفعل إلى الأراضي الأوروبية، وإرسالهم عبر البحار إلى دول أخرى خارج ولايتها القضائية، من خلال إبرام اتفاقات مع هذه الدول، وتقديم حزم من المساعدات المالية والدعم السياسي لتقوم هي بهذا الدور.
كانت الدنمارك من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي توصلت، هي الأخرى، إلى مذكرة تفاهم مع رواندا لإرسال طالبي اللجوء إليها، إلا أنها أعلنت تجميد تنفيذ هذا الاتفاق في يناير/ كانون الثاني هذا العام بعد تعرضها لانتقادات كثيفة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
تصر الحكومة الإنكليزية على تنفيذ اتفاقها مع رواندا وإنجاحه، وقد استثمرت فيه بالفعل على مدار عام عبر منح الحكومة الرواندية مبلغا أولا في إبريل/ نيسان 2022 بلغ 20 مليون إسترليني للتجهيز لاستقبال المبعدين من الأراضي الإنكليزية، ومبلغ 120 مليون إسترليني دعما اقتصاديا لرواندا، وتعهدت الحكومة البريطانية بمواصلة دفع مساعدات مالية لخمس سنوات مقبلة لتنفيذ مذكرة التفاهم.
للحكومة الإنكليزية سابقة قديمة في مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول (2001)، في التوصل إلى اتفاقات دبلوماسية ثنائية مع دول ذات سمعة سيئة في حماية الحد الأدنى من حقوق الإنسان لاستقبال المشتبه في تورطهم في قضايا إرهاب بعيداً عن الأراضي البريطانية.
وقد مثلت القضية الشهيرة للداعية الأردني المتطرف عمر محمود عثمان (أبو قتادة) مثالاً نموذجياً على هذه السياسة التي عرقلتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وبقيت معلقة في المحاكم البريطانية سنوات، إلى أن قبل أبو قتادة بالرحيل إلى الأردن بعد تعهدات وتفاهمات معه مباشرة من السلطات الأردنية في يوليو/ تموز 2013.
لكن مؤسسات حكم القانون تقف في وجه إصرار الحكومة البريطانية على تنفيذ خطتها في ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، وتفعيل اتفاقها الذي إذا نجح سيمثل سابقةً مخيفةً سيتسع مجال تطبيقها في بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية.
فقد اعتبرت محكمة الاستئناف في لندن، أخيرا، أن ترحيل طالبي اللجوء لرواندا غير قانوني، نظراً إلى أنها دولة غير آمنة لاستقبال اللاجئين، نظراً إلى العيوب الهيكلية التي تصيب نظامها القانوني والمؤسسي المعني بحماية طالبي اللجوء واللاجئين مما يعرض حقوق الأفراد المرحلين إلى هناك إلى خطر جسيم إذا ما جرى تسليمهم إلى دولهم الأصلية.
لم توافق حكومة ريشي سوناك على تنفيذ الحكم، وقررت الطعن عليه أمام المحكمة العليا، والتي سيكون قرارها الفيصل في مدى قانونية خطة الترحيل إلى رواندا.
من ناحية أخرى، تلقت الحكومة البريطانية إخطاراً من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في إبريل/ نيسان 2023 بأنها تنظر قضيةً رفعها مواطن عراقي، وهو أحد طالبي اللجوء المهددين بالترحيل إلى رواندا بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
تبعث الحكومة الإنكليزية، وغيرها من حكومات أوروبية عبر تعاملها غير الإنساني مع قضية طالبي اللجوء، رسالة مفادها أن الكلفة الباهظة بما تحمله من آلام مادية ونفسية لمعارضة الاستبداد والوقوف ضد انتهاكات حقوق الإنسان لن تنتهي بمجرد الفرار من الدول السلطوية، لكنها ترافق أصحابها وتتجدد في رحلتهم من أجل إيجاد ملاذ أمن.
لقد غادر طالبو اللجوء، السوريون والعراقيون والإيرانيون الذين أصبحوا ضحايا سياسة الإبعاد إلى رواندا، بلدانهم بالذكرى المرة لتجربتهم فيها، وتعرضوا لمخاطر جمة من أجل الوصول إلى الأراضي الأوروبية استغرقت شهورا طويلة.
ثم وجدوا أنفسهم في خضم معارك قانونية أخذت نحو ست محطات قضائية منذ يونيو/ حزيران 2022 ولم تنته بعد.
خلال هذه المحطات، كان خطر ترحيلهم بالطائرة من لندن إلى رواندا وشيكا لولا القرار العاجل الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 14 يونيو 2022 الذي أجبر السلطات الإنكليزية على وقف ترحيلهم، قبل ساعات من تحرك أول طائرة إلى رواندا، حتى تنتهي كل الطعون القضائية أمام القضاء الإنكليزي.
وقد عبر واحد من طالبي اللجوء من أصول إيرانية، وهو قائد شرطة إيراني منشق رفض إطلاق الرصاص على المتظاهرين عام 2019، في تصريحات للإعلام، عن القلق النفسي الذي يعاني منه على مدار عام، نظراً إلى خوفه الجسيم على أمنه الشخصي، وتعرضه للقتل على يد عملاء للنظام الإيراني إذا ما رحل إلى رواندا، خصوصا في إطار العلاقات القريبة بين إيران ورواندا.
يهدف القانون الدولي لحماية اللاجئين إلى الإسراع في حماية الأفراد الفارين من الاضطهاد في الدول الآمنة التي يصلون إليها.
لكن السياسات التي تنتهجها الدول نفسها، المفترض أن تكون الأكثر حرصا على إنفاذ هذا القانون، تضاعف من المعاناة الإنسانية والنفسية لطالبي اللجوء، بل يمكن أن تؤدي بهم، كما هو الحال في خطة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، إلى الانتقال إلى دول أخرى ليست مؤهلة من النواحي القانونية والسياسية والحقوقية لحماية اللاجئين.
في الوقت الذي تبعث فيه مثل هذه السياسات غير الإنسانية والتجربة المريرة التي يعيشها طالبو اللجوء في الخارج بمضامين تحمل خيبة أمل وإحباط للمناضلين من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها تبعث رسالة دعم وتضامن مع الحكام السلطويين في منطقتنا العربية أن شعوبهم لا بديل لها سوى الرضا والتسليم بالقمع، أو استمرار المعاناة عبر التشتت والمعاناة سنوات للبحث عن الحماية عبر الحدود خارج بلدانهم.
للكاتب/ معتز الفجيري