برامج التجسس أدوات إسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية في إفريقيا
كشف تحقيق نشرته موقع أوريان ٢١ الأوروبي، أن برامج التجسس الإلكترونية باتت عماد الدبلوماسية الإسرائيلية لإقامة علاقات في إفريقيا.
وذكر الموقع أنه وسط ملابسات مريبة، اشترت غانا برنامج التجسّس الحاسوبي “بيغاسوس” من المجموعة الإسرائيلية NSO.
وبحسب الموقع تؤكد صفقة شراء كتلك يبرمها بلد يُعدّ نموذجًا يُحتذى به في إفريقيا أن صناعة الأسلحة السيبرانية والرصد والمراقبة ترتبط بصورة وثيقة بسياسة تل أبيب الدبلوماسية وخطتها للتطبيع التي تستهدف إفريقيا، من توغو إلى المغرب.
وفي مايو/أيار 2021، أكد أوليفر باركر فورماور، أحد مؤسسي #FixTheCountry (أصلحوا البلد)، وهي حركة غانية تطالب حكومة الرئيس نانا أكوفو أدو بالمساءلة والحكم الرشيد وتحسين ظروف معيشة شعب غانا، أن وزارة الأمن الوطني في غانا تراقب بشكل غير شرعي هاتف أحد أعضائها.
وفقًا لأوليفر باركر فورماور، بدأ تحويل المكالمات الواردة إلى ذلك الهاتف إلى رقم مجهول عقب لقاء عُقد بين قيادات حركة “أصلحوا البلد” ومسئولي الأمن الوطني في مايو/أيار 2021. وقد وصف ممثلو الحكومة الغانية تصريحات باركر فورماور بأنها “غير صحيحة ولا أساس لها”، وقللوا من شأن تلك الادعاءات.
لم تنقضِ ستة أشهر حتى أعلنت مجموعة الصحفيين الاستقصائيين “فوربيدن ستوريز” Forbidden Stories (قصص ممنوعة) أن هواتف المواطنين الغانيين يجري بالفعل مراقبتها بشكل غير قانوني.
وغانا هي واحدة من 26 دولة يُستخدم فيها نظام المراقبة السيبراني “بيغاسوس” الذي طوّرته الشركة الإسرائيلية NSO Group للتجّسس على مكالمات بعض الأفراد الخاصة.
يستطيع نظام “بيغاسوس” اختراق المكالمات المشفرة لأي هاتف ذكي، وبالتالي تحويله إلى أداة تجسّس. ولا يمكن بيع برنامج التجسّس الإلكتروني إلا بإذن من الحكومة الإسرائيلية، ويقتصر على الحكومات ووكالاتها.
وقد أخطرت شركة “أبل” الأفراد الذين استهدفهم “بيغاسوس” في غانا بأن هواتفهم عرضة للهجوم من أشخاص يعملون لصالح الدولة.
أحدث ذلك الإعلان صدمة في غانا، والتي دائمًا ما يتم تقديمها باعتبارها نموذجًا في الديمقراطية يحتذى به في إفريقيا.
إذ أن الاستقرار السياسي ونظام الحكم الديمقراطي اللذان تنعم بهما تلك الدولة الواقعة في غرب إفريقيا يناقضان بشدة الواقع الذي تعيشه العديد من دول تلك المنطقة، والتي يتسم مناخها بالاستبدادية والصراعات الضارية على السلطة.
في ديسمبر/كانون الأول من عام 2015، وقّعت شركة “انفرالوكس المحدودة للتنمية” عقدًا بقيمة 5.5 مليون دولار مع مجموعة NSO لشراء “بيغاسوس”.
تعيّن على الشركة فيما بعد أن تعيد بيع البرنامج إلى “هيئة الاتصالات الوطنية”، وهي هيئة تنظيم الاتصالات في غانا، مقابل 8 مليون دولار.
ولكن لم يتأكد أي من NSO أو موظفي وزارة الدفاع الإسرائيلية – التي تصدر تصاريح تصدير “بيغاسوس” – ما إذا كانت الشركة موزعًا معتمدًا لـ“بيغاسوس” من عدمه.
بالرغم من تلك التجاوزات الجسيمة، وصل فريق عمل شركة NSO إلى غانا في يونيو/حزيران 2016 – أي بعد ستة أشهر فقط من توقيع العقود – من أجل تنزيل وتشغيل “بيغاسوس” وتدريب الموظفين المحليين على استخدام النظام.
وفي حين تم إدراج “هيئة الاتصالات الوطنية” بوصفها المشتري، تم تنزيل البرنامج في شقة مستشار الأمن الوطني في غانا. في واقع الأمر، كان امتلاك تكنولوجيا التجسس رغبة وزير الأمن الوطني.
وقد قاد ذلك إلى تكهنات بأن الحكومة، التي كان يرأسها آنذاك حزب “المؤتمر الوطني الديمقراطي”، أرادت استخدام “بيغاسوس” للتجسس على عناصر المعارضة قبيل انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2016.
وبسبب فساد المسؤولين الحكوميين المتورطين في الصفقة، جرى فضح عملية الشراء السرية لنظام “بيغاسوس”.
وأعلنت شركة NSO أنها لم تتقاضَ سوى نصف النقود المستحقة لها، وبناءً عليه حذفت البرنامج الإلكتروني الذي كان من شأنه تشغيل النظام. ولعدة سنوات، تبنّت كل من شركة NSO والسلطات الغانية تلك الرواية.
وفي مايو/أيار 2020، حكمت محكمة أكرا العليا بأن شراء “بيغاسوس” عمل غير قانوني وغير مصرّح به. كما أدين مسؤولان من “هيئة الاتصالات الوطنية” ومستشار الأمن الوطني آنذاك بالفساد. وقد ورد ذكر غانا لأول مرة كدولة مستخدمة لـ“بيغاسوس” في التحقيق الذي نشرته “فوربيدن ستوريز”.
يقول إيمانويل دوجبيفي، رئيس تحرير Ghana Business News، والذي تابع عن كثب تلك القضية: “فتح ذلك التحقيق صندوق”باندورا“حول مسألة التحقّق من امتلاك غانا لهذا النظام من عدمه”. حيث أصابه اكتشاف استخدام غانا “بيغاسوس” بالفزع، إذ أكّدت السلطات مرارًا أن برنامج التجسّس لم يتم تشغيله.
رفض جميع المتورطين في التحقيق الجنائي الإدلاء بتصريحاتهم إلى الإعلام. كما ظلت الأسئلة التي أرسلت إلى “المؤتمر الوطني الديمقراطي” ووزارة الأمن الوطني دون إجابة.
ويُعزى صمت القيادات السياسية في غانا إلى مصلحة كل من “المؤتمر الوطني الديمقراطي” – الذي كان الحزب الحاكم وقت إتمام صفقة شراء “بيغاسوس” غير الشرعية عام 2016 – والحزب الحاكم الحالي، في التستّر على القضية. فكلاهما لا يرغب في إثارة المسألة.
كما التزمت السلطات الإسرائيلية هي الأخرى الصمت. يقول إيتاي ماك: “في إسرائيل، هناك صمت شبه تام من قبل الحكومة ووزارتي الدفاع والشؤون الخارجية”. يعمل ماك محاميًا ممثلًا عن خمسين أستاذ جامعي وناشط إسرائيلي – من بينهم رئيس برلمان سابق – طالبوا النائب العام الإسرائيلي بفتح تحقيق في واقعة بيع “بيغاسوس” إلى غانا، وتواطؤ وزارتي الدفاع والشؤون الخارجية في إسرائيل.
إن صفقة بيع برنامج التجسس “بيغاسوس” المشبوهة في غانا ليست الواقعة الوحيدة لقيام شركة إسرائيلية بصفقات غامضة في إفريقيا.
فصناعة الأسلحة السيبرانية وتقنيات المراقبة في إسرائيل ترتبط بصورة وثيقة بسياسة تل أبيب الدبلوماسية وبرنامجها للتطبيع في الخارج.
إذ تعد أنظمة التجسس ورقة دبلوماسية ثمينة بالنسبة لإسرائيل التي تسعى إلى تطبيع علاقاتها والتصدي إلى حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات العالمية (BDS) ضد احتلالها للأراضي الفلسطينية، وهي ممارسة كثيرًا ما يجري تشبيهها بسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ومن المرجّح أن تكون برامج التجسس قد لعبت دورًا في حصول إسرائيل على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، وهو منصب ظلت تطمع فيه قرابة عقدين.
وفي يوليو/تموز 2021، حققت إسرائيل مأربها واعتُمدت كمراقب من قبل رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي محمد، في خطوة مثيرة للجدل أثارت الانقسام داخل الاتحاد الإفريقي.
وقد أكدت مصادر في “قمة رؤساء دول الاتحاد الإفريقي” التي عقدت في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في فبراير/شباط 2022، أن دبلوماسيين إسرائيليين عرضوا على بعض الحكّام الأفارقة دعمًا عسكريًا واستخباراتيًا في مقابل تأييدهم لاعتماد اسرائيل كمراقب في الاتحاد الإفريقي.
كانت غانا، بقيادة الرئيس نانا أكوفو أدو، أحد المدافعين بضراوة عن إسرائيل في الاتحاد الإفريقي، ومارست ضغطًا شديدًا لكي تحصل إسرائيل على صفة مراقب.
هل استخدمت إسرائيل أنظمة التجسس كورقة مساومة لغانا في مساعيها للحصول على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي؟ قد يطرح الصحفيون والنشطاء في ساحل العاج ورواندا والمغرب وتوغو وكينيا وغينيا الاستوائية ومصر والكاميرون وأوغاندا وأثيوبيا نفس التساؤل.
إذ استُخدِمت برامج تجسّس إسرائيلية في تلك الدول التي أيّدت – هي الأخرى – ترشيح إسرائيل لصفة مراقب في الاتحاد الإفريقي.
كنتيجة لجهود إسرائيل لاكتساب الشرعية في إفريقيا، وجدت أدوات التجسس القوية التي تمتلكها – والتي طوّرتها من خلال احتلالها للأراضي الفلسطينية واختبرتها ميدانيًا على الشعب الفلسطيني الخاضع لسيطرتها – طريقها إلى جيل جديد من الحكّام المستبدّين في إفريقيا.
حيث تُعد تلك التكنولوجيا مثالية بالنسبة لهؤلاء القادة الأفارقة المتعطّشين للسلطة. فهي رخيصة نسبيًّا، وسهلة التطبيق، ويمكن استخدامها دون تعرّض أنظمتهم لعواقب جمّة.
ويوفّر غياب المساءلة والشفافية والتنظيم فيما يتعلق بصفقات بيع وشراء أدوات المراقبة حمايةً إضافية لهؤلاء الحكّام القمعيين الذين يفاقمون المناخ الاستبدادي في إفريقيا – والذي غالبًا ما يتحمّل تبعاته الخطيرة الصحفيون ونشطاء حقوق الإنسان ومنتقدو الحكومة.
فرّ الصحفي كوملانفي كيتوهو من توغو العام الماضي، بعد أن تم توقيفه واحتجازه. وقد وضعت السلطات هاتفه الذكي، بالإضافة إلى هواتف العديد من الصحفيين الآخرين، تحت المراقبة.
وكانت الجريدة التي يعمل بها كيتوهو تغطي التظاهرات الوطنية المعارضة لنظام حكم الرئيس فور جناسينجبيه، كما أنه عضو في “رابطة توغو لحقوق الإنسان”.
وتعد المغرب أحد أهم عملاء شركة NSO، إذ استخدمت نظام “بيغاسوس” لمراقبة ما لا يقل عن عشرة آلاف هاتف، من بينها هواتف ناشطة حقوق الإنسان الصحراوية أميناتو حيدر والصحفي المغربي عمر راضي.
حيث خضع هذا الصحفي الاستقصائي المستقل، الذي يركز على قضايا حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية والحق في حيازة الأراضي في المغرب، للمراقبة ثلاث مرّات.
استخدمت السلطات الرواندية كذلك نظام التجسّس “بيغاسوس” لاستهداف 3500 ناشط وصحفي وسياسي محتملين، من بينهم كارين كانيمبا، ابنة البطل المعروف بول روزيساباجينا. أنقذ هذا الأخير حياة 1200 شخص أثناء الإبادة العرقية لقبائل التوتسي عام 1994، وهو معتقل حاليًا في رواندا بتهمة الإرهاب.
يعد اللجوء إلى موزّع مشبوه في غانا خير مثال على ما يدعوه مؤلف كتاب “إسرائيل في إفريقيا” يوتام جيدرون نهج “الوسطاء” الذي تتبعه إسرائيل في إفريقيا. على صعيد رسمي، لم تستثمر إسرائيل دبلوماسيا سوى القليل في القارة الإفريقية على مدار عقود.
بل تعتمد دولة إسرائيل في واقع الأمر على عدد من رجال الأعمال والوسطاء السرّيين الذين يستغلّون علاقاتهم بأصحاب النفوذ المحلّيين لخدمة مصالح سياسة إسرائيل الخارجية، من خلال توطيد علاقاتها مع الحكام الأفارقة.
وهو أحد أشكال “الدبلوماسية الموازية” التي تشهد ازدهارًا في القارة وتفتقر تمامًا إلى الشفافية، وفقًا لصحفي جريدة Africa Report فينسانت دوهيم.
تجيز وزارة الدفاع الإسرائيلية بيع “بيغاسوس”، وتلعب دورًا حيويًّا في نشره وتطبيقه. وإيمانًا من الحكومة الإسرائيلية بالمكاسب الدبلوماسية الناجمة عن تصدير برامج التجسّس، ترفض حظر بيعها رغم تاريخ أنظمة التجسّس الدامي والموثّق جيدًا.
وفق يوتام جيدرون، تعمدت الحكومة الإسرائيلية التعتيم على الإجراءات المتّبعة لمنح تصاريح تصدير الأسلحة وإبقائها سرًّا، من أجل تشجيع تصدير برامج التجسس. لهذا يتبنّى بعض مواطني غانا موقفًا حاسمًا تجاه المسألة: على الحكومة الإسرائيلية أن تتحمّل مسؤولية تواطؤها.
ويذكر إيمانويل دوجبيفي تحقيقًا إسرائيليًّا جاريًا حول استخدام برامج التجسّس ضد مدنيين إسرائيليين كـ“دليل دامغ على ضرورة تحميل الحكومة الإسرائيلية نفسها جزءًا من المسؤولية”.
ويضيف الناشط الحقوقي وعضو البرلمان السابق رودلف أمينجا إيتيجو قائلًا: “تقع المسؤولية على عاتق الحكومة الإسرائيلية بصفتها صانعة ومنظمة هذه السياسات. فهي بذلك مذنبة”. يعارض فصيل من المجتمع المدني الغاني مراقبة المدنيين غير الشرعية.
ويشير برنار مورنا، عضو الحركة المدنية “ارايز غانا” Arise Ghana الذي قام بحشد مظاهرات في شوارع أكرا، أن حركته ستطالب بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق بشأن استخدام “بيغاسوس” في غانا.
ووفقًا لأوليفر باركر فورماور، تعتزم حركة “أصلحوا البلاد” تقديم طلب بأحقيتها في الحصول على معلومات حول استخدام حكومات غانا المتعاقبة نظام “بيغاسوس”.
وتشيد أنجيلا كينتال، مسؤولة برنامج “إفريقيا” في “لجنة حماية الصحفيين”، بتلك المبادرات وبالنشطاء الإسرائيليين الذين يطالبون بالتحقيق في واقعة بيع “بيغاسوس” في غانا: “نرحب بالجهود الرامية إلى تسليط الضوء على تلك الصناعة المشبوهة.”
تلعب برامج التجسس دورًا محوريًّا في سعي إسرائيل إلى تلبية طموحاتها السياسية في إفريقيا؛ إذ مكّنت تل أبيب من فرض وجودها في قارةٍ كانت فيما مضى مهمّشةً فيها على الصعيد الدبلوماسي.
وفي حين تصدّر إسرائيل خبراتها في مجال المراقبة في مقابل تحقيق مكاسب دبلوماسية في إفريقيا، لم يعد من الممكن الوقوف مكتوفي الأيدي أمام محاولاتها ترسيخ الديكتاتوريات وإضعاف الديمقراطية في إفريقيا.