فرنسا تخسر نفوذها في أفريقيا في ظل دعمها الديكتاتوريات
بعيداً عن جعجعة الحرب الروسية في أوكرانيا، تجري حربٌ صامتةٌ بين فرنسا ومستعمراتها القديمة في أفريقيا، ويبدو أن فرنسا في طريقها إلى فقدان آخر مواقعها في القارّة السمراء.
فقبل يومين، أعلنت سحب آخر جنودها من مالي بعد تسع سنوات من الوجود العسكري في هذا البلد الأفريقي، بعد أن خسرت حربها العسكرية على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وفي الوقت نفسه، أخذت تفقد دعم دول المنطقة.
وأظهرت جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيراً، مدى تقلص نفوذ بلاده في القارّة السمراء، عندما اختصر جولته في ثلاث دول صغيرة وفقيرة، هي بنين والكاميرون وغينيا بيساو، وكلها تحكمها أنظمة سلطوية، ترعاها باريس الساعية لإعادة نفسها إلى قلب اللعبة الجيوسياسية في أفريقيا.
ما تعيشه فرنسا اليوم في أفريقيا أسوأ مرحلة في علاقتها بمستعمراتها السابقة في القارّة السمراء، فمن كان يصدّق أن تجرؤ دولة، مثل مالي، على طرد السفير الفرنسي من بلادها، أو أن يخرُج متظاهرون في بوركينا فاسو يرفعون شعاراتٍ تتهم فرنسا برعاية الإرهاب وقيادة الانقلابات في أفريقيا؟!.
وجديد مظاهر الهلع الفرنسي من فقدان باريس نفوذها في مستعمراتها القديمة، ما عبّر عنه مقال افتتاحي نشرته صحيفة لوموند بداية شهر أغسطس/ آب الحالي، نصحت من خلاله الصحيفة ذات النفوذ الكبير في توجيه السياسة الخارجية الفرنسية، الرئيس ماكرون بإقناع حليفة السنغالي ماكي سال بمغادرة السلطة عام 2024، كي لا تتعرّض مصالح فرنسا للخطر في هذا البلد الاستراتيجي لباريس.
والسبب، حسب الصحيفة الفرنسية، أن منافس الرئيس السنغالي حالياً، يساري شعبوي مناهض للاستعمار، اسمه عثمان سونكو، ترى باريس في وصوله إلى السلطة في داكار إشارة إلى رفض شعبي للسياسة الفرنسية في هذا البلد الأفريقي الذي ما زال النفوذ الفرنسي فيه قوياً.
لذلك دعت الصحيفة الباريسية الرئيس السنغالي الحالي إلى عدم الترشّح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لفتح الطريق أمام وجوه تدعمها باريس، تكون قادرة على الوقوف في وجه من يريد قطع علاقاتها مع دولةٍ مركزيةٍ في غرب القارة الأفريقية، مثل السنغال.
وعلى المستوى الاقتصادي، تبدو خسارة فرنسا كبيرةً بسبب تراجع وجودها الاقتصادي في أكثر من دولة أفريقية، بما فيها تلك الفرنكفونية، أمام المدّ المتنامي للوجود الاقتصادي الصيني والبرازيلي والتركي.
وقبل أسبوعين، انضمّت دولتان، هما الغابون وتوغو، وهما عضوان ضمن الدول الفرنكفونية، إلى تجمّع الكومنولث لتلتحقا برواندا وموزمبيق اللتين سبقتهما إلى الانضمام إلى هذا التكتل الاقتصادي الأنغلوساكسوني الذي يضم المستعمرات البريطانية السابقة، ويفرض على أعضائه التزامها الواضح بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد.
أما جمهورية أفريقيا الوسطى، فتسعى إلى التخلص من الفرنك الأفريقي، وقد تتبعها عدة دول أخرى، تتعامل بهذه العملة التي أنشأتها باريس لمستعمراتها السابقة، وجعلتها مرتبطة بعملتها السابقة، الفرنك الفرنسي، ويجري تداولها اليوم في نحو 14 دولة أفريقية، 12 منها من مستعمرات فرنسا السابقة.
لقد شهدت صورة فرنسا في القارّة السمراء تدهوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، حيث ارتبطت هذه الصورة بالغطرسة وإعطاء الدروس.
ذلك لأن العقيدة القديمة للاستعمار التي تؤمن بالتفوق الحضاري والإنساني والأخلاقي للغرب ما زالت هي التي تتحكّم في قرارات فرنسية كثيرة بخصوص سياساتها الخارجية، خصوصاً مع مستعمراتها القديمة في أفريقيا.
وهذه العقيدة هي التي تدفع فرنسا، مثلاً، إلى عدم الاعتراف بجرائمها في حقّ شعوب القارّة السمراء، وتماطل في الكشف عنها، بل وتستمر في ارتكابها حتى في عصرنا الحالي، كما حصل في تسعينيات القرن الماضي، عندما سبّبت باريس الإبادة الجماعية في رواندا.
فرنسا اليوم أمام جيل جديد من الأفارقة أصبحوا واعين بتاريخهم، ومنفتحين على العالم، اكتووا بالحروب التي أشعلتها فرنسا في قارّتهم، وسئموا نهبها ثرواتهم لقرنين، وباتوا قادرين على تحمّل مسؤوليتهم بأنفسهم.
كذلك فإن الشعوب الأفريقية فطنت إلى ازدواجية المعايير التي تستعملها فرنسا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها. ففرنسا التي تدين الانقلابيين في مالي وغينيا وبوركينا فاسو هي نفسها التي تبارك الانقلابَين في تشاد ومصر وتزكّيهما، وتدعم دكتاتورية قيس سعيّد في تونس.
لقد أصبح النفوذ الفرنسي في مستعمراتها الأفريقية يواجه تحدّياً كبيراً نتيجة أزمة ثقة حقيقية، تراكمت طوال عشرات السنين، جعلت شعوب هذه الدول تكره “أمها فرنسا”.
فأغلب الدول الناطقة بالفرنسية، التي كانت مستعمرة سابقاً من فرنسا، تصنف اليوم من أكثر دول القارّة فقراً، وأقلها استقراراً، ما زالت تخضع لأنظمة سلطوية أو تتعاقب فيها الانقلابات العسكرية، فيما غالبية الدول الأفريقية الأكثر استقراراً، واقتصاداتها الأفضل أداءً، هي تلك الناطقة بالإنكليزية.
يضاف إلى ذلك أن ميزان القوى في أفريقيا في طريقه إلى التغير، وقد عجّلت الحرب الروسية الغربية في أوكرنيا بإحداث هذا التغير بدخول قوىً عظمى مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا، يجذبها التنافس على القارّة التي تقدّم أكثر الموارد المتجدّدة، وهذا أمرٌ لا يبشر بالخير لأفريقيا.
ذلك لأن دولها لن تتأثر وحدها، بل سيتأثر العالم كله سلباً عندما تصبح القارّة السمراء، على الرغم من إمكاناتها الزراعية والاقتصادية ومواردها الطبيعية والبشرية، مسرحاً لصراعات النفوذ المستقبلية.
للكاتب علي أنوزلا