دراسة أوروبية ترصد تمدد مجموعة فاغنر في الدول العربية
تتمدد مجموعة فاغنر الروسية في الدول العربية مستغلة النزاعات والبؤس في وقت حظيت المجموعة مؤخرا بشهرة عالمية غير مسبوقة، بسبب قيادتها المعارك بالنيابة عن النظام الروسي في مدينة باخموت الأوكرانيّة.
ونبهت مؤسسة “فنك” الأوروبية في دراسة تحليلية، إلى أنه في تلك المعارك، ظهرت المجموعة كميليشيا ضخمة تمتلك الموارد البشريّة الكافية لفتح جبهة واسعة بمفردها، إثر استعانة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخدماتها، بوصفها شركة عسكريّة خاصّة تقدّم خدمات مدفوعة الأجر.
وبحسب الدراسة غالبًا ما وصِفت المجموعة الروسيّة ومقاتليها في معظم وسائل الإعلام الغربيّة بالمرتزقة، بسبب امتهانهم القتال المأجور، من دون التمتّع بأي خلفيّات أو ولاءات عقائديّة أو مبدئيّة.
وخلال المعارك في باخموت، اشتهر مؤسس الشركة يفغيني بريغوجين، المقرّب من بوتين، بفعل خطاباته التي تجرّأ فيها على توجيه النقد اللاذع لمسؤولين روس بارزين.
وبينما رأى البعض في هذه الخطابات شحنًا للخلافات بين الفئة المقرّبة من بوتين، رأى فيها البعض الآخر مؤشّرًا على نفوذ الرجل داخل روسيا، وهامش الحريّة الواسع الممنوح له للتحرّك والمبادرة والظهور الإعلامي.
لكن وبمعزل عن شهرة فاغنر العالميّة المستجدّة، عرفت المنطقة العربيّة بالتحديد هذه الميليشيا من خلال العديد من الأدوار الملتبسة التي لعبتها في كل من سوريا والسودان وليبيا.
فمنذ سنوات طويلة، استغلّت هذه الميليشيا حالة البؤس، والفوضى الأمنيّة التي شهدتها هذه الدول الثلاث، لتتغلغل فيها عسكريًا وسياسيًا، ولتحقق مكاسب مشبوهة لحساب رجال الأعمال الروس.
والعودة لدراسة تجربة فاغنر في هذه الدول، تسمح اليوم بفهم طبيعة الأعمال التي ترتكز عليها هذه المجموعة، اقتصاديًّا وأمنيًا، كما تسمح بفهم نوعيّة المصالح التي تخدمها داخل الفئة المالية المقرّبة من بوتين في روسيا.
المهمّات القذرة في سوريا
بدأ تدخّل مجموعة فاغنر في سوريا رسميًا خلال العام 2015، بالتوازي مع اتخاذ بوتين قرار التدخّل العسكري لصالح الرئيس السوري بشّار الأسد.
وفي تلك المرحلة، تم تقدير عديد المقاتلين الذين استعانت بهم المجموعة بنحو 3 آلاف مقاتل، جرى استقطاب جزء كبير منهم من الميليشيات الموالية لموسكو، التي قاتلت في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا، قبل أشهر قليلة من قدومهم إلى سوريا.
وكان من الواضح في تلك المرحلة أنّ بوتين أراد محاكاة تجربة شركة بلاك واتر الأميركيّة السيّئة السمعة في العراق، والتي تم الاستعانة بخدماتها هناك كشركة أمنيّة خاصّة على نحو مماثل، للقيام بالمهام الدمويّة بعد الغزو الأميركي للعراق.
وتمامًا كشركة بلاك واتر الأميركيّة، استقدمت مجموعة فاغنر الروسيّة مقاتليها كمتعاقدين مأجورين، كي لا تتحمّل الحكومة الروسيّة المسؤوليّة المباشرة عن الأعمال التي يقومون بها في سوريا.
وبهذا الشكل، استفاد بوتين من وجود مجموعة عسكريّة قادرة على القيام بالمهام والصفقات القذرة ذات الطابع التجاري، التي لا يرغب بتوريط الجيش الروسي بشكل مباشر فيها.
وفي الوقت عينه، استفاد بوتين من المجموعة للقيام بعمليّات عسكريّة بريّة محدودة النطاق، من دون تحميل الجيش الروسي خسائر بشريّة قد تثير امتعاض الرأي العام.
فطالما أنّ متعاقدي فاغنر غير مسجّلين في قيود وزارة الدفاع الروسيّة، فموتهم لن يُعد عمليًّا خسائر بشريّة يفترض أن يتم التصريح عليها بشكل علني وشفّاف. مع الإشارة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من هؤلاء المقاتلين لم يكونوا من حملة الجنسيّة الروسيّة أصلًا.
وهكذا، باشرت فاغنر منذ اليوم الأوّل لتدخّلها في سوريا عمليّات السيطرة على حقول النفط والغاز، فيما فرضت روسيا على الحكومة السوريّة تلزيم مجموعة من الشركات النفطيّة الروسية، المملوكة من رجال الأعمال المقرّبين من بوتين، استثمار هذه الحقول.
وفي المقابل، تم الاتفاق على منح فاغنر حصّة معيّنة من أرباح استخراج النفط، لقاء المهام الأمنيّة التي قامت بها للسيطرة على هذه الحقول.
وعلى هذا النحو، سيطرت شركات الطاقة الروسيّة بالشراكة مع فاغنر على عقود استثمار حقول النفط والغاز في مناطق بادية البوكمال وريف دير الزور والرقّة وحمص، بالإضافة إلى كامل المناطق البحريّة المحاذية للساحل السوري.
كما استعانت شركات الطاقة الروسيّة بفاغنر لعقد صفقات أمنيّة، مع ميليشيات محليّة وعشائر خارجة عن سيطرة الدولة السوريّة، من أجل تأمين المناطق المحاذية لحقول النفط والغاز.
وفي بعض الأحيان، لزّمت الشركات الروسيّة ومجموعة فاغنر بعض العمليّات الاستثماريّة لشركات وهميّة، تقاسم ملكيّتها رجال أعمال سوريّون مقرّبون من بشّار الأسد، مقابل استقطاب مقاتلين محليين لحماية منشآت النفط.
وتوسّع نشاط مجموعة فاغنر ليشمل السيطرة على حقول الفوسفات في منطقة تدمر السوريّة، لاستثمارها بالشراكة مع شركة سويوز نفتغاز الروسيّة بعقود تمتد ل50 سنة.
مع الوقت، ومع توسّع نشاط مجموعة فاغنر خارج سوريا، بدأت المجموعة منذ العام 2020 باستغلال الظروف المعيشيّة السيّئة في سوريا، لتجنيد آلاف السوريين وإرسالهم للعمل لصالح المجموعة في عمليّات خارج سوريا، وخصوصًا ليبيا.
ولهذه الغاية، استعانت المجموعة بشركات واجهة محليّة، لنشر الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي وإجراء المقابلات، قبل أن تقوم المجموعة لاحقًا بفرز المقاتلين بحسب نوعيّة المهام التي سيقومون بها.
وكانت وسائل الإعلام السوريّة قد وثّقت عام 2021 مقتل ثلاث سوريين في ليبيا، خلال عملهم لصالح مجموعة فاغنر في مهام ذات طابع أمني.
الصراع على نفط ليبيا
ظهرت مجموعة فاغنر في ميدان المعارك الليبيّة لأوّل مرّة عام 2018، خلال الهجوم الذي شنّه الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، على معاقل الميليشيات الإسلاميّة شرقي ليبيا.
ثمّ ما لبثت أن شاركت قوّات فاغنر في الهجوم الذي شنّه حفتر للسيطرة على غرب ليبيا، بعد زيارة حفتر وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو.
ومنذ تلك الفترة، ارتبط وجود مجموعة فاغنر في شرق ليبيا بتحالفها مع حفتر، وبالتفاهمات التي عقدها الطرفان لاستثمار حقول النفط في تلك المنطقة.
وتشير التقديرات إلى أنّ فاغنر تملك تحت إمرتها ما يقارب ال3000 مقاتل في ليبيا، غالبيتهم من السلافيين وروسيا البيضاء وبعض المناطق المستقلّة عن أوكرانيا وسوريا.
أمّا الملفت، فهو أنّ قوّات المجموعة في ليبيا تضم اختصاصيين في مجالات عدّة، كالقنّاصة والمدفعيّين وخبراء المتفجّرات ومشغلي مضادات الطائرات والمسيرات وغيرها.
وهذا ما يشير إلى استفادة المجموعة من خبرتها في سوريا، لتطوير مستوى عمليّاتها في ليبيا. وكانت وزارة الدفاع الروسيّة قد وضعت منذ العام 2020 مجموعة من المعدات الثقيلة بتصرّف مجموعة فاغنر، مثل مركبات الدفاع الجوّي والرادارات والطائرات المروحيّة والمسيّرات.
واتسم أداء فاغنر في ليبيا بالبراغماتيّة المفرطة في التعامل مع الميليشيات المختلفة. فإلى جانب قربها الدائم مع حفتر، نسقت المجموعة مع ميليشات الجنجويد السودانيّة التي قاتلت في سرت الليبيّة، ضد قوّات حكومة الوفاق الوطني.
كما نسّقت فاغنر مع جبهة التغيير والوفاق التشاديّة، التي تتمركز في مناطق حدوديّة قريبة من أماكن تواجدها جنوب البلاد.
ولتعزيز توسّعها في ليبيا، استعانت المجموعة بالمقاتلين السوريين، للاستفادة من خبرتهم القتاليّة وقدرتهم على التواصل باللغة العربيّة مع نظرائهم الليبيين.
وتمامًا كما فعلت في سوريا، استفادت فاغنر من هذا التواجد العسكري لفتح المجال أمام استثمار حقول النفط الليبيّة، من قبل الشركات الروسيّة ورجال الأعمال المقرّبين من بوتين.
كما استفادت من حضورها العسكري وتأثيرها على قوّات حفتر لفرض إقفال العديد من حقول النفط والغاز في بعض المراحل، للضغط على الدول الأوروبيّة التي كانت تستفيد من واردات هذه الحقول.
وفي الوقت الراهن، تحوّلت ليبيا وحقول النفط والغاز فيها إلى ساحة مواجهة، بين روسيا الساعية إلى استثمار حضور ميليشياتها هناك، والولايات المتحدة التي تسعى لتعزيز حضور شركاتها النفطيّة في ليبيا، للحد من التوسّع الاستثماري الروسي.
كما انتقلت الولايات المتحدة خلال العام 2023 لتصعيد ضغوطها باتجاه طرد ميليشيات فاغنر من ليبيا، كجزء من الحرب التي تخوضها ضد روسيا للسيطرة على مصادر الطاقة.
الاستحواذ على الذهب في السودان
بدأت علاقة مجموعة فاغنر بقوّات الدعم السريع السودانيّة في ليبيا، حيث قاتلت ميليشيات المجموعة الروسيّة إلى جانب القوّات السودانيّة في المعارك التي دارت في مدينة سرت الليبيّة.
وبالتوازي، كانت مجموعة فاغنر تؤسس منذ العام 2017 مجموعة من شركات الأمن في السودان، التي عملت بأسماء عديدة لتأمين وحماية حقول تعدين الذهب، لمصلحة مستثمرين مقرّبين من الكرملين.
ومنذ ذلك الوقت، كانت المجموعة توسّع من علاقتها مع ضباط الجيش السوداني وقوّات الدعم السريع، للحصول على امتيازات تشمل توريد الأسلحة وتصدير الذهب والقيام بعمليّات تجاريّة تلتف على العقوبات الغربيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ السودان يحتل المركز الثالث في إنتاج الذهب على مستوى قارّة أفريقيا، حيث يتجاوز قيمة إنتاجه السنوي ال90 طن من الذهب سنويًا، ما توازي قيمته نحو خمسة مليارات دولار أميركي.
ومن المعلوم أنّ روسيا بدأت منذ سنوات بتعزيز احتياطاتها من الذهب، لتقليص اعتمادها على الاحتياطات الماليّة التي يمكن أن تطالها العقوبات الغربيّة.
وهذا ما يفسّر اهتمام مجموعة فاغنر بإيجاد موطئ قدم للشركات الاستثماريّة الروسيّة، المهتمّة باستثمار مناجم الذهب السودانيّة.
وفي الوقت الراهن، يبدو أن فاغنر تحاول اللعب على التناقضات خلال الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوّات الدعم السريع.
فبالرغم من علاقة المجموعة الممتازة مع قوّات الدعم السريع، يبدو أن فاغنر لا ترغب حتّى اللحظة بالتورّط في مساندة طرف على حساب الآخر، ربما خوفًا من خسارة حضورها في السودان إذا راهنت على الحصان الخاسر في المعركة.
وهذا ما يدفع فاغنر إلى إبقاء خطوطها مفتوحة مع الطرفين في الوقت نفسه، بل وعرض وساطتها للحل وإنهاء النزاع المسلّح.
وهكذا، تسعى فاغنر إلى استثمار هذه التناقضات، والاستفادة من النزاع الراهن، للعب أدوار سياسيّة أكبر.
الخلاصة: تتشابه تجارب مجموعة فاغنر في سوريا وليبيا والسودان، عبر لعبها أدوارًا أمنيّة وعسكريّة تفسح المجال أمام توسّع فرص الشركات الاستثماريّة الروسيّة.
أما الأهم، فهو أن عمل المجموعة كشركة خاصّة، يفتح المجال أمام عقد صفقات ملتبسة مع الميليشات المحليّة في هذه الدول، من دون تحميل مسؤوليّة هذه الصفقات إلى الحكومة الروسيّة بشكل مباشر.
وأخطر ما في عمل فاغنر، فهو استغلال فقر شرائح اجتماعيّة واسعة، لتجنيدها وتوريطها في معارك عسكريّة في بيئات شديدة الخطورة، واستغلال المجتمعات المهمّشة الأخرى في تلك البيئات.
ببساطة شديدة، يمكن القول إنّ نموذج فاغنر يقوم على استغلال النزاعات العسكريّة وحالات البؤس الاجتماعي، لتحقيق مكاسب لدى رجال أموال مجظيين.