دلالات افتتاح الناتو أول مكتب اتصال مع العرب في الأردن
ناقش تحليل أوروبي دلالات الإعلان عن في شهر تمّوز/يوليو 2024، وخلال قمّته المنعقدة في واشنطن، عن قرار حلف شمال الأطلسي “الناتو” افتتاح أول مكتب اتصال له في المنطقة العربيّة، في العاصمة الأردنيّة عمان.
وذكر التحليل الصادر عن مؤسسة “فنك” الأوروبية، أن اختيار هذا الموقع لمكتب الاتصال، ارتبط بدور الأردن، الذي “يُعتبر شريكًا طويل الأمد وذا قيمة عالية بالنسبة لحلف الناتو”، كما أشار الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ. أمّا دور المكتب، فسيكمن بتعميق هذه الشراكة أكثر بين الطرفين، بما يشمل “الحوار السياسي والتعاون العملي”.
قبل أقل من شهر من هذا الحدث، شهدت الأردن تدريبات “الأسد المتأهّب” العسكريّة المُتعدّدة الجنسيّات، بمشاركة 33 دولة من أعضاء حلف “الناتو” أو شركائه حول العالم.
يومها، لم يعلن الجيش الأردني عن أعداد العسكريين المشاركين في هذه التدريبات، لكنّه أكّد أنّ هذا التمرين كان الأكبر حجمًا منذ أن بدأت البلاد باستضافة هذا النوع من التمارين قبل 13 سنة. وكان الهدف المُعلن من تلك المناورات “إيجاد فهم مشترك” بين القوّات المشاركة، لمجابهة التهديدات “العابرة للحدود”.
تعميق شراكات الأردن الدفاعيّة مع الغرب
سلّط الحدثان الضوء على الخطوات التي اتخذتها السلطات الأردنيّة خلال الفترة الماضية، والتي ذهبت باتجاه تعميق الشراكات الدفاعيّة الأردنيّة مع الدول الغربيّة، وخصوصًا الولايات المتحدة. وهذا الاتجاه تكامل مع الشراكات والتحالفات السياسيّة التقليديّة التي حافظت عليها الأردن، مع الدول الخليجيّة.
في وقتٍ سابق، وخلال شهر نيسان/أبريل 2024، اشترك الجيش الأردني مع الجيوش الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة في إسقاط عشرات المسيّرات التي أطلقتها طهران باتجاه إسرائيل، ردًا على استهداف القنصليّة الإيرانيّة في دمشق.
لاحقًا، تبيّن أنّ هذه الجهود كانت جزءًا من منظومة تنسيق أمني ومخابراتي أشرفت عليها الولايات المتحدة، بهدف تبادل المعلومات بين “الشركاء الإقليميين” وتعقّب المسيّرات والصواريخ الإيرانيّة قبل وصولها إلى الأجواء الإسرائيليّة. وبالفعل، نجحت تلك الجهود في إسقاط معظم المقذوفات بعيدًا عن الحدود الإسرائيليّة.
وفي شهر يناير/كانون الثاني 2024، تعرّضت قاعدة الدعم اللّوجستي عند “البرج 22” شمال الأردن لهجومٍ بمسيّرات أطلقتها جماعات مسلّحة عراقيّة متحالفة مع طهران، وهو ما أدّى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح العشرات منهم.
في البداية، حاولت الأردن نفي حصول الهجوم على أراضيها، معتبرةً أن القاعدة المُستهدفة تقع داخل الأراضي السوريّة. وبذلك أرادت السلطات الأردنيّة تفادي الإحراج والنأي بالنفس، وتجنّب الاعتراف بوجود قواعد عسكريّة أميركيّة ضخمة غير مُعلن عنها داخل حدود الأردن.
غير أنّ صور الأقمار الصناعيّة التي جمعتها وسائل الإعلام سرعان ما كشفت أنّ القاعدة المُستهدفة تقع ضمن معسكرٍ أميركيّ كبيرٍ، يضم أكثر من 70 مبنى، داخل الحدود الأردنيّة، وليس خارجها.
كما تبيّن أنّ هذا المُعسكر هو جزء من منظومة مراقبة وسيطرة مشتركة بين الجيشين الأميركي والأردني، تم نشرها على جانبي الحدود السوريّة الأردنيّة. وهذه المنظومة تتكامل مع مواقع سيطرة الجيش الحر المدعوم من الولايات المتحدة، في مخيّم الركبان، الواقع عند الجهة السوريّة من الحدود.
هكذا، كانت تلك الأحداث غير المتوقّعة تكشف مجددًا مدى عمق الشراكة الدفاعيّة الأردنيّة الأميركيّة، في الملف السوري أيضًا. وهذا ما دفع الحكومة الأردنيّة للاعتراف بأن تواجد القوّات الأميركيّة هناك يأتي في “سياق اتفاقية التعاون بين البلدين”، والتي تتضمن تعزيز “مجالات التدريب وزيادة منظومة أمن الحدود الفنية والتدريبية.”
تنامي الشراكة الدفاعيّة ما بين الأردن والولايات المتحدة، جرى التمهيد له منذ العام 2021، حين تم توقيع اتفاقيّة التعاون الدفاعي بين الطرفين.
إذ نصّت الاتفاقيّة منذ ذلك الوقت على السماح للطائرات والمركبات والسفن العسكريّة الأميركيّة بالدخول إلى الأراضي والمياه الإقليميّة الأردنيّة دون قيود، كما منحت العسكريين الأميركيين حصانة قانونيّة مطلقة داخل الأراضي الأردنيّة.
على هذا النحو، أعطت الاتفاقيّة منذ ذلك الوقت طابعًا قانونيًّا لتواجد القوّات الأميركيّة داخل الحدود الأردنيّة، وهو ما سمح بتوسعة التعاون الأمني بين الطرفين بعد اندلاع الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة.
هواجس النظام الأردني
ترتبط هذه الوجهة، التي اتخذها النظام الأردني، بجملة من الهواجس والمصالح السياسيّة التي تأثّرت بالتطوّرات الإقليميّة الأخيرة. فوكالة الأونروا تقدّر عدد اللاجئين الفلسطينيين المُسجّلين في الأردن بأكثر من مليوني لاجئ، ما يمثّل أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين في جميع أقاليم الأونروا.
وفضلًا عن اللاجئين المُسجّلين، تتضارب الأرقام والإحصاءات حول أعداد الأردنيين من أصل فلسطيني. إلا أنّ بعض الأرقام الرسميّة تقدّر نسبة الفلسطينيين في الأردن بنحو 42%، في حين ترتفع هذه النسبة إلى 65% بحسب تقديرات أخرى غير رسميّة.
بالإضافة إلى هذا العامل، لطالما احتفظت جماعة الإخوان المسلمين بحضور شعبيّ مؤثّر في الأردن، وإن تعدّدت الواجهات والأحزاب السياسيّة التي أسسها أعضاء الجماعة هناك، بفعل الانشقاقات المتكرّرة.
وعلى مرّ العقود الماضية، حاول النظام الملكي في الأردن إضعاف هذا النوع من الحالات الحزبيّة المنظّمة، باعتماد الأنظمة الانتخابيّة التي تشجّع التمثيل العشائري، وتُفتّت الكتل السياسيّة الوازنة.
لكل هذه الأسباب، كان لدى النظام الأردني ما يكفي من أسباب ليخشى من التعاطف الشّعبي مع حركة حماس، المنتمية إلى فكر الإخوان المسلمين، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة.
وبشكلٍ أدق، كان هناك خشية من تحوّل هذا التعاطف إلى قوّة ضغط سياسيّة مناوئة لتوجّهات النظام، الذي حافظ على العلاقات الدبلوماسيّة والاقتصاديّة مع إسرائيل خلال الحرب. ثم جاءت المظاهرات الشّعبيّة أمام السفارة الإسرائيليّة في عمان، بزخمٍ أكّد هواجس ومخاوف النظام.
في الوقت عينيه، تلمّس النظام الأردني التقارب الذي طرأ مؤخّرًا ما بين حركة حماس وبعض أجنحة تنظيم الإخوان المسلمين من جهة، والجماعات المتحالفة مع إيران في المنطقة من جهة أخرى.
وهذا التقارب على المستوى الإقليمي يكتسب أبعادًا حسّاسة ومُقلقة بالنسبة للأردن، الذي يُجاور –وبحدود صحراويّة ممتدة جدًا- العراق وسوريا، حيث تنشط بحريّةٍ الجماعات المُسلّحة المدعومة من طهران.
يُضاف إلى هذا المشهد عامل آخر يضع الأردن في قلب التوازنات الأمنيّة الإقليميّة. إذ أنّ الأردن هو البلد العربي الوحيد الذي يملك حدودًا مباشرة مع الضفّة الغربيّة، المُحاصرة تمامًا من قبل إسرائيل.
وهذا ما يجعله الممر المتاح، لمحاولة تمرير الإمدادات لخلايا المقاومة الفلسطينيّة الموجودة في مُدن ومخيّمات الضفّة، عبر منطقة غور الأردن.
وبطبيعةِ الحال، يخشى النظام الأردني نشوء خلايا أمنيّة على أراضيه تعمل باتجاه هذا الهدف، خصوصًا إذا كانت هذه المبادرات مُحاطة بتأييد شعبي وازن.
انطلاقًا من هذه الهواجس، يمكن فهم تشدّد الأردن في مسألة ضبط حدوده الشماليّة، بالتنسيق مع القوّات الأميركيّة الموجودة هناك، والتي تشرف بدورها على عمل الجيش الحر جنوب سوريا.
كما يمكن فهم العمليّات التي قام بها الجيش الأردني منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، لضبط أنشطة الجماعات المُسلّحة العابرة للحدود هناك.
أمّا عمليّات تهريب السلاح إلى الضفّة الغربيّة، فوضعها النظام إعلاميًا في خانة “المؤامرات” التي تستهدف استقرار المملكة، من قبل الإخوان المُسلمين وبعض حلفاء إيران.
من هذه الزاوية، تصبح الشراكات الدفاعيّة مع الدول الغربيّة مجرّد تعبير عن اتجاه النظام الأردني لتحصين وضعيّته، في مواجهة جميع هذه الضغوط الإقليميّة والداخليّة، ومنها عدم شعبيّة مقاربته للحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة.
الاهتمام الغربي والخليجي بالأردن
في المقابل، لدى الدول الغربيّة، وشركائها من دول الخليج العربي، أسباب عدّة للاهتمام بالشراكة الدفاعيّة والأمنيّة مع الأردن.
فالأردن دولة تتمتّع بحدود طويلة مع إسرائيل، تمتدّ من البحر الأحمر جنوبًا إلى حدود الجولان شمالًا. وفقدان النظام الأردني السيطرة على هذه الحدود لأي سبب من الأسباب، سيحوّلها إلى جبهة مشتعلة إضافيّة، في حين أنّ البيئة الشّعبيّة الأردنيّة تبدي أساسًا تأييدًا قويًا للمقاومة الفلسطينيّة.
كما سيفتح ذلك الباب أمام تهريب السلاح للمقاومة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، وهو ما سيزيد من سخونة هذه الجبهة المطوّقة حاليًا. وهذا ما يجعل الشراكة الدفاعيّة مع النظام الأردني أولويّة للدول الغربيّة، في منطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة إلى المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة، يُعتبر الأردن المدخل الشمالي لشبه الجزيرة العربيّة، من خلال حدود صحراويّة طويلة يصعب ضبطها.
بهذا المعنى، ترى هذه الدول الخليجيّة أن أي تغيير سياسي غير محسوب في الأردن قد يتحوّل إلى عامل ضاغط ضدها في المستقبل، تمامًا كما جرى بعد سيطرة الحوثيين على مساحات واسعة من اليمن خلال السنوات الماضية.
لهذا السبب، حرصت السعوديّة والإمارات خلال السنوات الماضية على تقديم الاستثمارات والمعونات الماليّة المباشرة والمساعدات العسكريّة، كجزء من شراكاتهما مع الأردن.
في نتيجة كل هذه التطوّرات، باتت الأردن تعطى أهميّة خاصّة للحسابات المتعلّقة بأمن نظامها وقدراته العسكريّة، عند مقاربة شراكاتها الإقليميّة والدوليّة.
وعلى النحو عينيه، بات شركاء الأردن الغربيين والعرب معنيين، ولأسباب مختلفة، بقدراتها الدفاعيّة.
وهذه المصالح والحسابات باتت جزءًا من الاستقطاب الذي طغى مؤخرًا على المشهد السياسي الإقليمي، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. وأخيرًا، من المفترض ترقّب الدور الذي سيلعبه مكتب الاتصال الخاص بحلف “الناتو” في عمان، كونه سيكون التجربة الأولى من نوعها في المنطقة العربيّة.