دروس جنازة الملكة إليزابيث الثانية
شكلت جنازة الملكة إليزابيث الثانية التي ودعتها المملكة المتحدة والعالم، يوم الاثنين، إلى مثواها الأخير، حدثا إعلاميا دوليا بامتياز، قد لا يتكرّر.
ذلك ليس فقط بسبب صرامة التنظيم وضخامة الحشود التي اصطفت عدة أيام بلياليها الباردة لتقديم الاحترام الواجب لملكة محبوبة في رحلتها الأخيرة نحو الأبدية، ولا بعدد الرؤساء والملوك الذين حضروا قدّاسها الأسطوري، وإنما بسبب شخصية صانعة هذا الحدث الملكة الراحلة التي طبعت بشخصيتها المتميزة والفريدة من نوعها سبعة عقود من الحكم المتواصل.
منذ إعلان وفاة الملكة شهدت بريطانيا احتفالات جنائزية تاريخية متواصلة، أشبه بكرنفال جنائزي طويل وبإخراج سينمائي متقن جدا بلغ أوجه الدراماتيكي في أثناء القدّاس المهيب تحت أقبية كنيسة قلعة وندسور المهيبة.
وأسدل عليه الستار بلقطةٍ سينمائية مؤثرة عندما كانت الكاميرا في لقطة زوم تظهر عازف القربة وهو يختفي خلف النعش داخل سراديب القلعة التي اختيرت إنارتها بعناية كبيرة لتعطي الانطباع بأن العازف كان يسير ببطء نحو ظلام سرمديٍّ يبتلعه.
وذلك في إشارة إلى ظلام الأبدية الذي لفّ جثمان الملكة تاركا خلفه صوت مزمار القربة الحزين يأتي من بعيدـ حتى كاد لا يُسمع في لحظة وداع شديدة التركيز وجدّ مؤثرة أسدلت الستار على عشرة أيام من الحزن المتواصل.
أكدت هذه الاحتفالات الجنائزية التي واكبت تشييع جنازة الملكة بما لا يدع أي مجال للشك أن الملكية في بريطانيا هي أيضا مملكة الرموز المركّزة والمكثفة التي تصعب قراءتها وتفكيكها.
ومع ذلك سنحاول أن نقف هنا عند بعض تلك اللحظات القوية التي استوقفتني شخصيا، بمثابة دروسٍ يمكن أن يستخلصها المرء في أثناء متابعته هذا الحدث التاريخي بكل امتياز.
أكبر هذه الدروس وأولها حقيقة أن الموت لحظة رهيبة يتساوى أمامها الجميع لا فرق عندها بين الفقير وصاحب الصولة والصولجان، فقد كانت لحظة مؤثّرة تلك التي كان فيها كاردينال الكنيسة يدعو من أجل “أختنا” وليس ملكتنا، بالرحمة.
فأمام رهبة الموت تسقُط كل الألقاب، حتى لو كان فوق النعش المسجّى عند عتبة المذبح أغلى تاج وصولجان إمبراطوري في العالم.
وهو ما عبّرت عنه بتكثيف كبير تلك الآية المقتبسة من الكتاب المقدّس التي تلاها أحد المؤبنين، وتؤكّد على أهمية القيامة في الإيمان المسيحي، وتقول إن الموت هو العدو الأخير الذي سيهزمه في نهاية العالم السيد المسيح، حسب النص المقدّس.
فالموت هو النهاية الحتمية التي لا مفرّ منها، وهو اليقين الوحيد الذي لا يمكن التشكيك فيه، والحقيقة الساطعة التي يتواضع أمامها البشر في جميع الأزمان، مهما اختلفت معتقداتهم ودياناتهم وثقافاتهم.
الدرس الثاني الكبير الذي نستخلصه من أسبوعٍ مكثف من الطقوس المصاحبة للاحتفالات الجنائزية الملكية أن المؤسّسة الملكية البريطانية هي أكبر علامة تجارية لبريطانيا.
وكما كتبت وكالة الأنباء بلومبيرغ، النظام الملكي الحديث هو أنجح اختراع بريطاني، من بين كل الاختراعات البريطانية، يفوق في قوته وتأثيره كل العلامات التجارية البريطانية الأخرى.
لقد نجحت المؤسّسة الملكية العريقة في بريطانيا في أن تجعل من التمسّك بطقوس وتقاليد بالية تعود إلى نحو ألف سنة حملة علاقات عامة هائلة لجلب تعاطف بريطانيين كثيرين وإثارة مشاعر الحب والافتخار لديهم بإرثهم التاريخي.
وقوة تأثير هذه العلامة لا تكمن فقط في كثافة الطقوس وثقل التقاليد العريقة، وإنما في نمط الحكم وشخصية الجالس على العرش.
فالكيمياء الإنسانية تلعب دورا كبيرا في تقريب الناس من حكامهم بدون اللجوء إلى كل وسائل العنف الشرعية المتاحة لكل صاحب سلطةٍ شرعية لتخويف الناس، ومن دون الحاجة إلى إمكانات السلطة المادية لشراء ولائهم، فالكيمياء التي تربط ملايين البشر بشخص ما يصعب إخضاعها للتحليل العلمي.
كما لا يمكن تفسيرها لأنها مزيج غامض من الحب والتقدير والاحترام، وما رأيناه طوال عشرة أيام من اصطفاف الناس في الشوارع مددا طويلة في انتظار إلقاء نظرة أخيرة على نعش الملكة أو رؤية موكبها الجنائزي يختلف كثيرا عن الهستيريا الجماعية التي تجعل الناس يخرجون خوفا وتحت ضغط السلطة من أجل تحية موكب دكتاتورهم المحبوب قسرا.
الدرس الثالث، الآخر، الذي يمكن استنباطه من هذا الحدث، ما أكدت هذه الجنازة المهيبة والأسطورية، من أن القوة الرمزية للنظام الملكي أكبر بكثير من كل سلطة سياسية.
إنها نتيجة ابتعاد المؤسسة الملكية في بريطانيا عن السياسة وترفّعها عن الخوض في المواضع السياسية والشأن السياسي، ما أعطاها قوتها الرمزية وجنّبها ضغط مراقبة الرأي العام واختلافه حولها، وأكسبها حب ملايين الناس الذين تأثروا بفقدان الملكة الراحلة.
وللمفارقة، وإذا استثنينا بعض الشخصيات الرمزية، مثل امبراطور اليابان وملوك بعض الدول الأوروبية، فإن باقي الزعماء السياسيين الذين حضروا مراسم قداس الملكة داخل كنيسة ويستمنستر ربما شعروا بعبثية السلطة التي يتوهمون امتلاكها وهم يجلسون أمام تابوت امرأةٍ عاشت بلا نفوذ وماتت مخلّدة ذكراها في قلوب الملايين من محبيها، من دون أن ترهبهم أو تبحث عن شراء ولائهم.
الدرس الرابع، وليس الأخير لأن هناك دروسا كثيرة يمكن أن يلتقطها كل واحد منا حسب زاوية نظره ومتابعته الحدث، أن البروتوكول الصارم والثقيل والمكلف لم يبعد الناس عن الملكية، وإنما شدّهم إليها كجزء من ثراثهم المشترك.
وقد أظهرت لقطات التلفزيون لحظات مؤثرة لمواطنين بريطانيين عاديين يعبّرون بتلقائية عن عاطفةٍ جيّاشة تظهر التقارب الذي نسجته الملكة سبعة عقود مع رعاياها.
وبالرغم من مشاعر الحزن والتعاطف التي فرضتها ظروف اللحظة الحزينة، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الأصوات المعارضة للنظام الملكي من أن تعبر عن رفضها هذا النمط من النظام.
وتابعنا المقطع الذي كان يصرخ فيه أحد المشيعين في وجه الملك الجديد تشارلز الثالث، عندما كان يحيّي الجمهور الذي جاء لتوديع والدته الملكة، مخاطبا الملك باسمه الأول وبدون ألقاب ” تشارلز.. لماذا علينا دفع تكاليف موكبك.. دافعو الضرائب خسروا مائة مليون جنيه إسترليني من أجلك.. أنت لست ملكي”.
ومع ذلك لم يعتقل ذلك المواطن الذي لم تعرف هويته. وحتى عندما أوقفت الشرطة البريطانية مواطنين، بدعوى “عدم احترامهم الذوق العام” عندما رفعوا لافتات مناهضة للملكية أو ردّدوا شعارات معارضة لها، ارتفعت الأصوات في بريطانيا تدافع عن حق هؤلاء المعارضين، رغم قلتهم، في التعبير عن آرائهم بحرية حتى في لحظات الحزن العام.
وكتبت صحيفة الغارديان، المعروفة برزانتها وتقدّميتها، مدافعة عن حرية تعبير البريطانيين، حتى عندما يتعلق الأمر بالنظام الملكي، وفي مقام حرج مثل الموكب الجنائزي “حتى في وقت الحزن الوطني للعديد من الناس، يجب أن يكون البريطانيون قادرين على ممارسة حقهم في حرية التعبير.”.
هنا يكمن سحر الملكية البريطانية وقوة نظامها الديمقراطي الذي جلب لها حبّ الناس وتعاطفهم، ليس داخل بريطانيا فحسب، وإنما عبر العالم.
علي أنوزلا