اتفاق الهجرة بين تونس والاتحاد الأوروبي يعزز قمع المهاجرين
قالت مؤسسة أوروبية إن اتفاق الهجرة بين تونس والاتحاد الأوروبي سيعود أولاً وأخيراً بتبعاتٍ سلبية على المهاجرين واللاجئين، سيّما وأنه قد يعزّز من الممارسات القمعية ضدهم.
ووقّعت تونس مؤخراً مذكّرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي حول “شراكة استراتيجية شاملة” قد تعود بنتائج وخيمة على المهاجرين الساعين للوصول إلى أوروبا.
ووفقاً للبيان الصادر عن الحكومة التونسية، فإن الاتفاق يركّز على عدة محاور أهمها الهجرة والاقتصاد ومجال الزراعة والتجارة والطاقة والانتقال الرقمي.
وتأتي هذه الشراكة في ظل وضعٍ اقتصادي حرج لتونس، وفي وقتٍ تحاول فيه دول الاتحاد الأوروبي بذل الغالي والنفيس للحد من تدفق المهاجرين إلى أراضيها.
وقالت مؤسسة “فنك” الأوروبية في تحليل إن الاتفاق الموقع سيعود أولاً وأخيراً بتبعاتٍ سلبية على المهاجرين واللاجئين، سيّما وأنه قد يعزّز من الممارسات القمعية ضدهم.
كما قد يقود إلى تنامي معاناة هؤلاء من الظروف غير الإنسانية التي يعيشونها، لا سيما على مستويات انعدام الحماية والأمان.
تحذير من الاتفاق
الرئيس التونسي قيس سعيّد وقّع الاتفاق دون مناقشته مع المكونات التونسية الأخرى. ويرى مراقبون أن توقيع الاتفاق لا يعدو عن كونه خطوةً جديدةً في المسار الذي يمضي فيه الرئيس التونسي لتعزيز سياسته الشمولية واحتكاره الحكم وقضائه على كل ممارسة ديمقراطية. وتجدر الإشارة إلى أنّ سعيّد يحكم قبضته بشكل كامل على السلطة في تونس منذ عام 2021 .
وقبل توقيع “الشراكة”، حذّرت العديد من الأحزاب والمنظمات والشخصيات التونسية البارزة من المضي قدماً بأي اتفاق من هذا النوع.
وصدر في هذا الخصوص بيانٌ مشترك شاركت فيه منظمات وأحزاب مستقلة مثل ائتلاف صمود، ومرصد الدفاع عن مدنية الدولة، والحزب الاشتراكي اليساري، وحزب آفاق تونس الليبرالي. ووفقاً للبيان، فإن اتفاقاً مثل هذا “مقايضة لوضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي بحزمة من المقترحات الاقتصادية”.
وأضاف البيان “إنّ أي اتفاق بين تونس والاتحاد الأوروبي، قوامه مقايضة وضعها الاقتصادي والاجتماعي الصعب بحزمة من المقترحات المذلة والمهينة، مقابل ترحيل اللاجئين من جنوب الصحراء لأوروبا لتوطينهم بمحتشدات (تجمعات) على أرض تونس وإرجاع التونسيين الذين دخلوا أوروبا عن طريق الهجرة غير النظامية رغم استقبالهم للخبرات والأدمغة”.
وطالبت الجهات الموقعة على البيان السلطة الحاكمة أن تكشف “فحوى المحادثات التي تمت مع الجانب الأوروبي” وأن تقوم بـ “إطلاع الرأي العام على ما تعتزم إبرامه من اتفاقاتٍ باسم الدولة التونسية”.
وبحسب البيان، فإن “معالجة ملف الهجرة غير النظامية بما يحمله من طابع إنساني وحقوقي لا يمكن التعاطي معه باعتماد مقاربة أمنية خالصة وذات طابع عنصري”.
من جانبه، قال وزير الثقافة السابق مهدي مبروك، قبل توقيع الاتفاقية، إنها تعتمد “نهجاً اختزالياً وأمنياً، يهدف فقط إلى كبح تدفقات الهجرة بطريقة صارمة ويمكن وصفها بالعنيفة”.
ما يؤكّد المخاوف من الآثار السلبية لهذا الاتفاق على اللاجئين، هو خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 21 فبراير 2023. ففي هذا الخطاب، ورد على لسان سعيّد تصريحاتٌ وصفتها العديد من الجهات بـ”البغيضة والعنصرية والتي تغذي الكراهية ضد الأجانب”.
وقال سعيّد إنّ هناك “ترتيباً إجرامياً أُعِدَّ منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس”.
وأضاف: “هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس. هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها جعل تونس دولة أفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية”.
الرئيس التونسي شدّد في خطابه على “ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة، خاصة أن جحافل المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرة، مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة، فضلاً عن أنها مُجرّمة قانوناً”.
سياسة واحدة
وجد الاتحاد الأوروبي في خطاب سعيّد السابق الذكر فرصةً مناسبةً للمحاورة حول سياسات منع الهجرة غير الشرعية مع الحكومة التونسية.
واعتبر مبروك أن الرئيس التونسي يتشارك هذه الرؤية المعادية للأجانب والهجرة مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ورؤساء دول أوروبية أخرى. وقال مبروك: “إن تحوّل أوروبا إلى قلعة محروسة لا يجعل من البحر الأبيض المتوسط مساحة للتبادل، وفضاءً للمساعدة المتبادلة بين الحكومات والشعوب، بل يحوّله إلى مقبرة”.
وسبق لميلوني زيارة تونس لعدّة مرّات بهدف الوصول إلى هذه الشراكة. وسعت رئيسة الوزراء الإيطالية إلى التوصل لهذه الشراكة كجزء من سياستها الرامية للاستعانة بمصادر خارجية لإدارة حدود الاتحاد الأوروبي ومكافحة تفاقم أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين إلى الأراضي الإيطالية.
في المقابل، وجد سعيّد في الاتفاق، لا سيما فيما يخص قضية الهجرة، فرصةً لتحقيق مكاسب اقتصادية قد تخلّصه من أزمته المتمثلة في ضعف الإنتاج المحلي واختلال التوازن المالي للدولة.
كما أن الاتفاق يشكل بارقة أمل جديدة لسعيّد بعد توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بسبب الخلافات حول شروط الأخير للحصول على القروض.
حاتم المليكي، الناشط السياسي والنائب السابق، أرجع تفاوض سعيّد بمفرده مع الاتحاد الأوروبي إلى انشغاله “بتحقيق انتصارات داخلية”. وبحسب المليكي، فإنّ “أوروبا تتفاوض في ما يهمها ويخصها”.
وأضاف: “هذه المفاوضات يقودها اليمين المتطرف، وأولوياته معروفة، وهي ملف الهجرة. وطبعاً لا تهمّ اليمين المتطرف مسألة الحريات والحقوق في تونس”.
ويرى المليكي أنّ الاتفاقية بين تونس والاتحاد الأوروبي “تخلو من أي بند سياسي، لأن ما يهمّ أوروبا اليوم مرحلة تحديد أولوياتها”. وقد عبّر عن ذلك مسؤول السياسات الخارجية جوزيب بوريل منذ أشهر، عندما اعتبر أن انهيار تونس “ستكون له تداعياتٌ كبيرة على أوروبا واضطرابات، وتصبح تونس غير قادرة على حماية حدودها”.
وأضاف المليكي أنّ “آخر اهتمام رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وحزبها مسألة الحقوق والحريات، هما يريدان فقط ترحيل المهاجرين ومنع دخول القادمين إلى أوروبا”.
وسام الصغير، المتحدث باسم الحزب الجمهوري التونسي لم يستغرب “عدم إثارة مسألة الحريات في المبادئ العامة للاتفاقية، رادّاً ذلك إلى سعي أوروبا “لخدمة مصالحها وشعوبها ولو كانت هذه المسائل على حساب الشعوب الفقيرة ودول العالم الثالث”.
على الطرف الآخر، نشرت صحيفة الغارديان تقريراً لباتريك وينتور يعرض فيه الانتقادات التي تطول الاتحاد الأوروبي بسبب “تبييضه” صورة الرئيس التونسي، على أمل أن يتمكن من وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين الذين يتسللون إلى أوروبا عبر سواحل بلاده.
ووفقاً لوينتور، فإنّ “أطفال وأسر القضاة والسياسيين التونسيين المحبوسين يتهمون الاتحاد الأوروبي بخيانة القيم التي يعتنقها من خلال تبييض وجه نظام سعيد على أمل قد لا يتحقق إلى حد كبير في أن يتمكن الرئيس التونسي من التصدي لتدفق المهاجرين إلى أوروبا”.
وعلى الرغم من ممارسات طمس معالم الديمقراطية التي تقوم بها حكومة سعيّد، فإنّ الاتحاد الأوروبي قرر منح تونس مليار يورو في شكل مساعدات مالية.
وينتور نقل أسف كوثر فرجاني، ابنة القيادي سعيد الفرجاني المحبوس في سجون تونس، لغياب قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بتونس.
ورجحت كوثر أن يتم إنفاق المنحة على قوات الأمن ومعداتهم وأجور الموظفين المدنيين الذين يعملون في خدمة قيس سعيّد، وليس لمنع المهاجرين من التسلل إلى أوروبا.
تدعيم الأنظمة الديكتاتورية
بعد الاتفاق مع تونس، أشار مسؤولون أوروبيون إلى سعي الاتحاد الأوروبي لإرساء اتفاقيات شراكة مع مصر والمغرب لمكافحة الهجرة غير النظامية.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إنّها تريد أن تكون الشراكة مع تونس نموذجاً لاتفاقيات مستقبلية مع دول المنطقة.
الاتحاد الأوروبي سيستفيد إذن من تهدئة منصة الانطلاق التونسية للمهاجرين، ما يتيح للاتحاد الوقت والجهد لمواجهة بقية نقاط الانطلاق مثل المغرب وليبيا وتركيا.
يؤكد كلّ ذلك السياسة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي. وعوضاً عن التفكير بحل لمشكلات اللاجئين، أو تقديم الدعم لبلاد اللاجئين كي تلتزم في مسارات ديمقراطية داعمة لحقوق الإنسان ولا تخرقها، يدعم الاتحاد أنظمة سلطوية.
ويوفر الاتحاد الأوروبي بسياسته هذه دعماً سياسياً واقتصادياً للأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في الدول التي يعقد معها اتفاقات.
وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي يساهم بذلك في تراجع ملفات حقوق الإنسان والإصلاح السياسي في المنطقة.
ولا يمكن النظر إلى دعم الاتحاد الأوروبي لنظام سعيّد باعتباره دعماً اقتصادياً وحسب، سيّما وأن هذا الدعم يحمل في طياته جانباً سياسياً يمكّن هذا النظام من مواجهة المعارضة الداخلية.
من جانبها، شجبت منظمة لهيومن رايتس ووتش سعي الاتحاد الأوروبي لعقد مثل هذه الاتفاقات مع دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وبحسب هذه المنظمة الحقوقية، فإن توقيع هذه الاتفاقات لا يخاطر فقط بتكريس وجود هذه الأنظمة فحسب، بل أنه يقود أيضاً إلى “تقوية الحكّام القمعيين”.
وتضيف المنظمة أنه بات في مقدور هؤلاء الحكام “التباهي بعلاقاتٍ أفضل مع الشركاء الأوروبيين وفي الوقت نفسه ادّعاء الفضل في تأمين الدعم المالي لاقتصادات بلدانهم المتهاوية”.
يأتي ذلك في الوقت الذي انتقد فيه برلمانيون أوروبيون توقيع الاتفاق مع “الديكتاتور القاسي”.
وبحسب هؤلاء، فإن الاتفاقية تتناقض مع القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي وستعزّز التراجع الديمقراطي المستمر في تونس. وقالت عضو البرلمان الأوروبي بيرغيت سيبل: “نحن الآن نمول مرة أخرى حكماً مستبداً بدون تدقيق سياسي وديمقراطي هنا في البرلمان الأوروبي. هذا لن يكون حلاً. إنه سيعزّز مستبداً في تونس”.
المهاجرون واللاجئون: الضحايا دائماً
الركيزة الأساسية في الاتفاق التونسي الأوروبي هي الحد من الهجرة، بغضّ النظر عن الطرق التي يمكن اتّباعها من أجل ذلك.
ووفقاً لنجيبة بن حسين، وهي أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية، فإنّ ملف الاتفاقية كلّه يتمثل في “ردع الهجرة غير الشرعية” وقمعها.
وتضيف بن حسين: “ما بقية الملفات إلا مسكّنات وذرّ رماد في العيون، وإيهام بأن العلاقات الأوروبية المغاربية شاملة واستراتيجية، وتتجاوز قضية الهجرة والمسائل الأمنية المرتبطة بها”.
وتعرّضت الاتفاقية لانتقادات من منظمات حقوقية وإنسانية تونسية وعالمية، لا سيما أنّ الاتفاقية تستهدف المهاجرين غير النظاميين.
ويأتي ذلك وسط تقارير تتحدث عن معاناة هؤلاء بفعل “تضييق السلطات التونسية عليهم، ودفعهم نحو الهلاك، لا سيما ذوي البشرة السوداء القادمين من وسط أفريقيا”.
ووفقاً لهيومن رايتس ووتش، فإنّ قوات الشرطة والجيش والحرس الوطني التونسية، بما في ذلك الحرس البحري، “ارتكبت انتهاكات خطيرة ضدّ المهاجرين، واللاجئين، وطالبي اللجوء الأفارقة السود.
وشملت الانتهاكات الموثَّقة الضرب، واستخدام القوّة المفرطة، وفي بعض الحالات التعذيب، والاعتقال والإيقاف التعسفيين، والطرد الجماعي، والأفعال الخطرة في عرض البحر، والإخلاء القسري، وسرقة الأموال والممتلكات”.
كذلك اعتبرت المنظمة أنّ عقد الصفقة “يتعارض تماماً مع المقاربة الحقوقية للهجرة واللجوء، فهي تظهر أنّ أوروبا لم تتعلم الدرس من تواطئها في الانتهاكات الفظيعة ضد المهاجرين في ليبيا. نية تكرار الصفقة مع بلدان أخرى من المنطقة، خصوصاً مصر والمغرب، يؤكد الأمر أكثر”.
كذلك فقد قالت لورين سيبرت، الباحثة في حقوق اللاجئين والمهاجرين في هيومن رايتس ووتش: “ارتكبت السلطات التونسيّة انتهاكات بحق الأفارقة السود، وأذكت العنصريّة والعداء ضد الأجانب، وأعادت قسراً أشخاصاً فارين بالقوارب مهددين بالتعرض لأذى كبير في تونس. إنّ تمويل الاتحاد الأوروبي لقوات الأمن التي ترتكب انتهاكات أثناء مراقبة الهجرة يجعله يتشارك معها المسؤولية عن معاناة المهاجرين، واللاجئين، وطالبي اللجوء في تونس”.
تؤكد هذه الممارسات القمعية الموثقة أنّ اللاجئين والمهاجرين هم الضحايا لمثل هذه الاتفاقيات التي لا تضمن حريتهم أو عدم تعرضهم لممارسات قمعية عنيفة. كما أنّ هذه الاتفاقية والاتفاقيات المماثلة لها لن توقف محاولة هؤلاء الهجرة من بلدانهم إلى أوروبا.
ويعود ذلك في المقام الأول لعدم وجود خيار بديل لهم، إذ لا تستقبل دول الخليج وتركيا هؤلاء اللاجئين والمهاجرين رغم أن معظمهم من أبناء الدول العربية والإسلامية.
كما أن توقيع الاتفاقيات المماثلة لاتفاقية تونس لن يعني أنّ واقع الحال قد تغيّر في الدول التي من المفترض إعادتهم إليها.
وعلى هذا الأساس، سيبقى المهاجرون واللاجئون يدورون في حلقةٍ مفرغة يسعون فيها للعثور على مساراتٍ جديدة للوصول إلى القارة الأوروبية التي يتوقعون الحصول فيها على حقوقهم وحرياتهم الأساسية.