تحليل أوروبي: انسداد كامل بعد مرور 13 عاما من الأزمة السورية
تعيش سوريا واقعاً معقّداً ومأساوياً مع دخول الأزمة السورية عامها الثالث عشر في منتصف مارس 2024.
ويبدو أنّ سوريا تسير بالاتجاه الخاطئ سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بحسب ما ذكره غير بيدرسن، المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، مؤخراً من دمشق.
والزاوية التي يرى من خلالها بيدرسن الحالة السياسية في سوريا هي تعطّل مسار اجتماعات اللجنة الدستورية، وهو المسار الوحيد الذي أنجز فيه بيدرسن عدّة جلسات.
ومع ذلك، فإن هذه الجلسات لم تثمر عن خطوات عملية باتجاه إعداد دستور جديد للبلاد، بحسب تحليل نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية.
أما الآن، فقد بات مجرّد انعقاد الجلسات قضية شائكة بعد أن رفضت روسيا، الراعي الأول للنظام السوري، عقد هذه الجلسات في جنيف. ويأتي الموقف الروسي على خلفية تعامل الكرملين مع سويسرا كبلد غير محايد فيما يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا.
وعلى هذا، فقد رفض الأسد دعوة بيدرسن لدمشق من أجل استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف.
أما الزاوية الأخرى، فهي القرار الأممي رقم 2254. وهذا القرار ما زالت بنوده، وأبرزها تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، حبرا على ورق. وتأتي هذه الحالة رغم محاولة الدول العربية مد حبل تعويم النظام وفق صيغة “الخطوة مقابل خطوة” التي طرحت في اجتماع عمان.
إلا أن هذا المبدأ لم يُلحظ إنجازه أي خطوات، لا سيّما في مجال وقف تهريب المخدرات باتجاه الأردن أو إعادة اللاجئين السوريين.
ويلاحظ الصحفي محمد العويد جانبين في سياق إعادة تعويم النظام السوري ومبدأ الخطوة مقابل خطوة.
ويتمثل الجانب الأول في تشكيل خلية اتصال مشتركة لمكافحة تهريب المخدرات عبر الحدود بين الدول بين الأردن والعراق وسوريا ولبنان في منتصف فبراير 2024.
ورغم اجتماع اللجنة، التي انضمت إليها مصر لاحقا، لمرتين، إلا أنّ عمليات تهريب المخدرات ما زالت مستمرة وبشكل كثيف. ويشير إلى ذلك ما تصدره الجمارك الأردنية من بيانات ضبط لمحاولات تهريب كميات كبيرة من المخدرات، لاسيما مادة الكبتاغون.
أما الجانب الثاني الذي يراه العويّد فهو قرار النظام السوري بدمج الأجهزة الأمنية. ولا يستبعد العويد، في حديثه إلى فنك، أن يأتي هذا القرار في سياق مبدأ “الخطوة مقابل خطوة” الذي اعتمدته الجامعة العربية في اجتماع عمّان التشاوري.
وللمعلومية، فإنّ قرار دمج الأجهزة الأمنية يعتبر مطلباً شعبياً بالدرجة الأولى، ففي سوريا أكثر من 14 جهازاً أمنياً. وكلّ جهاز من هذه الأجهزة معزولٌ عن الآخر.
وكثيرا ما كان المواطن السوري ينجز ملفا معينا مع أحد هذه الأجهزة، ليجد نفسه مطالبا بإجراءات أخرى، بل وربما ملاحقاً من جهاز أمني آخر في الموضوع نفسه.
في هذا السياق، أوضحت مصادر إعلامية أنه تم دمج شعبة المخابرات العسكرية وشعبة المخابرات الجوية في جهازٍ واحد يحمل اسم مخابرات الجيش والقوات المسلحة.
كما يعتزم النظام دمج الأمن الجنائي، وقوات حفظ النظام، وشعبة الأمن السياسي، في جهاز واحد يحمل اسم الأمن العام السوري.
وبحسب المصادر، فإنّ تحرّك النظام هذا يأتي في سياق خطة روسيّة لإعادة هيكلة وزارة الداخلية التابعة للنظام السوري. وهذا أمرٌ يرى فيه العويد حالة من ذر الرماد في العيون، فالفكرة الأساسية ليس بالهيكلة بقدر ما هي بالدور الذي تقوم به هذه الأجهزة وتوغلها في المجتمع وهي صاحبة الأرشيف المرعب من المجازر.
ويمكن القول إن تشكيل خلية الاتصال الإقليمية وعملية دمج الأجهزة الأمنية خطواتٌ لم تلق صدى لدى الإدارة الأمريكية. وجدّد السفير الأمريكي البديل للشؤون السياسية الخاصة روبرت وود أن “العقوبات ستظل قائمة ضد النظام السوري إلى أن يتم تحقيق تقدم قابل للقياس نحو التوصل إلى حل سياسي”.
وأضاف وود في كلمةٍ ألقاها أمام مجلس الأمن: “نظام الأسد نظامٌ وحشي لا يعرف إلا لغة العنف لمعالجة المعارضة”.
المسؤول الأمريكي أشار إلى الاحتجاجات السلمية في محافظة السويداء الجنوبية والتي تطالب بالانتقال السياسي وتطبيق القرار 2254. وشدّد على أن بلاده ستواصل دعم وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العاملة على توفير الحماية والخدمات للمحتاجين في سوريا.
يذكر أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أكدت في فبراير 2024 أنّ 16.7 مليون سوري يحتاجون إلى المساعدة. وهذا يمثل ارتفاعا مقارنة بتقرير المفوضية لعام 2023 وكان الرقم حينها 15.3 مليون سوري.
تعيش سوريا حالة من الانهيار الاقتصادي. وتؤكد هذه الحالة مؤشراتٌ كثيرة أبرزها انخفاض قيمة الليرة السورية. وبلغ سعر صرف الدولار حوالي 11.500 ليرة سورية في السوق الرسمي.
أما سعر الدولار في السوق السوداء فيقترب من 14 ألف ليرة. وبطبيعة الحال، فإنّ تضخم الليرة السورية المخيف يترتب عليه ضعف القوة الشرائية وتعطّل العجلة الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحد الأدنى للأجور لا يزيد عن 280 ألف ليرة، أي ما يتراوح بين 17 و19 دولاراً أمريكياً. ومثل هذا الأجر لا يغطي إلا الرمق القليل من تكاليف المعيشة الراهنة.
ومن المؤشرات الأخرى الموازنة العامة التي أقرها البرلمان السوري لعام 2024. وتضمنت هذه الموازنة مبلغاً إجمالياً قدره 35.5 تريليون ليرة، أي ما يعادل نحو 3.1 مليار دولار.
في المقابل، فقد وصلت موازنة عام 2023 إلى 5.52 مليار دولار، ما يعني أن موازنة العام الحالي تشهد انخفاضاً يتجاوز الأربعين بالمئة عن العام الماضي.
الأوضاع الاقتصادية تترك تداعياتها السلبية على معظم مجالات الحياة في سوريا. وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن نحو 90 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر.
كما أن قرابة 31 بالمئة من سكان البلاد المقدر عددهم بـ 24 مليون يعيشون حالة نزوح داخلي ويعانون نقص أو فقدان وثائق والأراضي والممتلكات والإسكان.
وفي هذا السياق، أكدت مصادر فنك أن هناك مطالبات داخل البرلمان بطرح الممتلكات التي صادرها النظام باعتبارها لأشخاصٍ معارضين للبيع أو عرضها للاستثمار الخاص. وهذا يعني أن الكثير من الملكيات الخاصة ستنتقل إلى أشخاص آخرين من دون علم أصحاب المالك الأصلي.
جملة الوقائع الاقتصادية التي تشهدها البلاد أطاحت بالطبقة الوسطى، الحامل الرئيس للمجتمع. والآن، بات المجتمع السوري يعيش تحت رحمة اقتصاد الحرب والفساد وانهيار منظومة القيم الاجتماعية. كما انتشر تعاطي المخدرات في أوساط الشباب بشكل غير مسبوق.
ومن مخاطر انتشار هذه الظاهرة ما يترتب عليها من عمليات ابتزاز لدفع الشباب نحو الاتجار بالمخدرات واستخدامهم في عمليات تهريب. كما أن هذه الظاهرة قادت إلى تنامي عمليات الاختطاف للحصول على فدية مالية.
هذا الواقع الاقتصادي السائد في مناطق سيطرة النظام لا يختلف كثيرا عن تلك المناطق الخارجة عن سيطرته. فالكلام ينطبق على مناطق شمال غرب سوريا التي تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا وأخرى تابعة لهيئة تحرير الشام.
كما أن الوضع نفسه يعيشه المقيمون في مناطق شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة قوات سوريّا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية.
“ارحل يا بشار.. ارحل يا جولاني.. سوريا حرّة حرّة الجولاني يطلع برا”. هذا النوع من الهتافات مثالٌ من عباراتٍ كثيرة رددها مؤخراً متظاهرون في مناطق محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام التي يتزعمها أبو محمد الجولاني.
ويبدو أن هذه المظاهرات خطوةٌ باتجاه كسر حاجز الخوف من قبضة الجولاني القوية على محافظة إدلب.
وكالة الأنباء الألمانية نقلت عن محمد عبد الرزاق، أحد منظمي المظاهرات قوله: “من كان يراهن على أن الثورة السورية انتهت وأن النظام استعاد السيطرة على البلاد واهم. نحن طلّاب حرية وطلّاب حق. انتفضنا ضد حكم الأسد، والآن ضد حكم هيئة تحرير الشام وقائدها الجولاني”.
أما في مناطق سيطرة الفصائل المقربة من تركيا، فقال محمد ياسين أحد منظمي مظاهرة مدينة إعزاز: “أغلب المشاركين أعمارهم تقل عن العشرين عاما. الجميع يحافظ على عهد ومبادئ الثورة وهي إسقاط النظام السوري وبناء دولة ديمقراطية والكشف عن مصير المعتقلين وعودة المهجرين الى مدنهم وقراهم”.
الطرح الجريء والحالم أيضا ضد الأسد والجولاني، لا يبدو أنه سيبقى في السياق “الوردي”، لا سيّما مع التصاعد التدريجي للاشتباكات بين قوات النظام وتشكيلات هيئة تحرير الشام.
ويوحي ذلك بأن منطقة شمال غرب سوريا ستشهد صيفا حارا، وخصوصاً أنها قد تكون منطقة إفراغ للغضب الروسي جراء الهجوم الذي نفذه تنظيم “الدولة الإسلامية” في موسكو والذي لم تتضح بعد كافة معالمه خلال كتابة هذه المادة.
السخونة نفسها قد تشهدها منطقة شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريّا الديمقراطية. بيد أنّ هذه السخونة تأتي هذه المرّة من الضفة التركية. وأعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مؤخرا أن بلاده ستؤمن كامل حدودها مع العراق وتكمل ما تبقى من عمل في سوريا بحلول الصيف.
وبهذا التصريح لا شك وأن إردوغان يشير لحزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من مناطق جبال قنديل شمالي العراق مقرا له. كما أنه يشير إلى قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها أنقرة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني.
في الشق العراقي، يبدو أنّ حكومة بغداد ومن خلفها إيران تناغمت مع الطروحات التركية. وهذا ما يفسر إعلان بغداد حظر وجود حزب العمال الكردستاني واعتقال من يرفع صورة زعيم الحزب عبد الله أوجلان.
ويأتي في هذا السياق إجراء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وقادة أمنيين مباحثات مع المسؤولين العراقيين ومع هيئة الحشد الشعبي، ذراع إيران الضارب في البلاد.
وإن كان ملف حزب العمال الكردستاني في العراق وضع على سكة الحل بالنسبة لتركيا، فإنّ الأمر يبدو أكثر تعقيدا بالنسبة لأنقرة عندما يتعلق الأمر بسوريا. ففي هذه الدولة تتواجد قوات سوريّا الديمقراطية التي تعتبر حليفة الولايات المتحدة.
بيد أن هذا التعقيد قد يأخذ طابعاً مختلفاً في حال قررت واشنطن مقايضة أنقرة بقسد مقابل موقف أكثر قربا من الناتو والابتعاد عن روسيا. وفي حال حدوث مثل هذا السيناريو، فإن السيناريو الأقرب يدفع بقسد باتجاه التحالف مع النظام السوري وبالتالي روسيا.
وبكلماتٍ أخرى، الوضع القائم في مختلف الجغرافيات السورية معقد ومسدود. ويبدو أن كلّ ملامح المشهد السياسي والاقتصادي والمجتمعي السوري لا تبشّر بحدوث أي انفراج قريب في المستقبل.