تداعيات الانتخابات الأمريكية 2024 على شؤون الشرق الأوسط والخليج
في مقاربة السياسة الخارجية الأميركية لملفات الشرق الأوسط، ثمة عناصر واضحة وثابتة لا تتبدل بسهولة، مع تبدل الإدارات المتعاقبة بعد كل انتخابات رئاسية.
وهذا ما يرتبط بشكل أساس بالتوجهات الإستراتيجية الأساسية الطويلة الأمد، التي دائمًا ما تنطلق من المصالح الأميركية الحيوية في الشرق الأوسط بحسب تحليل نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية.
لكن بالرغم من وجود هذه الثوابت العامة، تختلف الكثير من المقاربات الأميركية في المنطقة باختلاف توجهات الرئيس، خصوصًا عند تحديد الأولويات أو طرق الوصول إلى الأهداف الاستراتيجية.
لهذا السبب بالذات، تحبس العديد من الأنظمة في الشرق الأوسط أنفاسها، بانتظار الموعد المقرر لإجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
فهذه المرة، تأتي الانتخابات في ظل اشتعال المنطقة بنزاعات متعددة ومترابطة، بينما يلعب شكل التدخل الأميركي دورًا حاسمًا في تغيير وجهة الأحداث بهذا الاتجاه أو ذاك.
على أن حساسية هذه الانتخابات، بالنسبة إلى شعوب وأنظمة الشرق الأوسط، لا تقتصر على توقيتها فحسب.
إذ بات من الواضح أن فرص التأهل في الانتخابات التمهيدية باتت تتجه نحو الرئيس السابق دونالد ترامب من جهة الحزب الجمهوري، في مقابل الرئيس الحالي جو بايدن من جهة الحزب الديمقراطي.
وعلى هذا الأساس، من المرتقب أن تجري الانتخابات بين مرشحين، قد خبرت شعوب المنطقة سياستهما الخارجية في مرحلتين متباينتين، بينما كانت جلية للعيان درجة التفاوت الكبيرة بين السياستين، في مقاربتهما لجميع ملفات المنطقة.
في واقع الأمر، اختلفت أولويات بايدن وترامب، خلال ولايتهما، في جميع ملفات المنطقة تقريبًا: من برنامج إيران النووي، إلى مواضيع حقوق الإنسان، والعلاقة مع دول الخليج العربية، وصولًا إلى المسألة الفلسطينية التي تكتسب أهمية خاصة في هذه المرحلة.
ولهذا السبب، قد يكون من الممكن اليوم إجراء مقارنة لمستقبل توجهات الولايات المتحدة في المنطقة، في كل ملف، في حال فوز أي من المرشحين في الانتخابات المقبلة.
المسألة الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل
من المعلوم أن إدارة بايدن تلقت منذ تشرين الأول 2023 الكثير من السخط من جانب الأميركيين من أصول عربية وإسلامية، بالنظر إلى الدعم المالي والسياسي والعسكري الواسع الذي تلقته إسرائيل من الولايات المتحدة، منذ بداية الحرب على قطاع غزة.
وخارج الولايات المتحدة، كانت السفارات الأميركية في المنطقة العربية ترسل التقارير التي توثق نفور الجماهير العربية، من تعامل الإدارة الأميركية مع النزاع الدائر.
ولكل هذه الأسباب، ترقبت الكثير من التحليلات أن يوجه العرب الأميركيون ضربة انتخابية لبايدن، خلال السباق الرئاسي.
ومع ذلك، ولتبيان اختلاف توجهات بايدن عن سلفه ترامب، من المهم الإشارة إلى بعض خصوصيات علاقة الإدارة الأميركية الحالية مع الحكومة الإسرائيلية.
فعلى الرغم من دعمه الثابت والإستراتيجي لإسرائيل كدولة، انطوت علاقة بايدن برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على كثير من التوتر الواضح للجميع.
وبشكل عام، ظلت إدارة بايدن حتى اللحظة متمسكة ببعض الأولويات التي يرفضها نتنياهو بشدة، ومنها فتح المجال أمام قيام دولة فلسطينية على حدود العام 1967، وضرورة وقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية.
كما تحفظت إدارة بايدن في العديد من المراحل على خطط نتيناهو لما بعد الحرب على قطاع غزة، وخصوصًا حين كانت الحكومة الإسرائيلية توحي باتجاهها لإعادة احتلال القطاع، أو تقليص مساحته وإقامة منطقة عازلة داخله.
على المقلب الآخر، كانت إدارة ترامب قد ذهبت في سياستها الخارجية بالاتجاه المعاكس تمامًا.
إذ اعتبرت أن “الولايات المتحدة لا تعتبر أن المستوطنات في الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي”، كما ذهبت إلى حد الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وهو ما يتجاهل فكرة العودة إلى حدود العام 1967.
ولهذا السبب، كان من الطبيعي أن يتضاعف حجم الاستيطان في الضفة الغربية مرتين، في عهد ترامب، مقارنة بمعدلات السنوات السابقة.
أما صفقة القرن التي عمل عليها ترامب، فلم تأخذ بعين الاعتبار سيادة السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية، بل اقترحت منحها السيطرة على أرخبيل من الجزر الأمنية الصغيرة هناك.
مع الإشارة إلى أن إدارة ترامب أوقفت عام 2019 جميع أشكال المعونات التي اعتادت الولايات المتحدة على تقديمها للسلطة الفلسطينية. وهذا ما صب في إطار تهشيم هذه السلطة، وضرب إمكانية التفاوض على منحها السيادة الكاملة، في المناطق الفلسطينية المعترف بها دوليًا.
لذلك، تتجه التحليلات إلى إعتبار فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة السيناريو الأمثل لأقصى اليمين الإسرائيلي، الذي يتزعم معسكره اليوم حزب الليكود الإسرائيلي.
وعلى الرغم من الانتقادات العلنية التي وجهها ترامب مؤخرًا لنتنياهو كشخص، نراه ينسجم مع اتجاهات هذا المعسكر السياسي، الذي يرفض فكرة العودة إلى حدود العام 1967، ولا يرغب بوقف بناء المستوطنات، فضلًا عن مناهضة أي محاولة لإنعاش السلطة الفلسطينية.
وفيما يختص بالحرب الدائرة حاليًا، فمن المرجح أن يتحرر معسكر اليمين الإسرائيلي –في حال فوز ترامب- من ضغوط الإدارة الأميركية الراهنة، التي تسعى لتجديد السلطة الفلسطينية وتسليمها الحكم في قطاع غزة.
كما سيتحرر اليمين الحاكم في إسرائيل من أي ضغوط أميركية تدفع باتجاه استئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، للعودة إلى قاعدة الدولتين وفقًا لصيغة اتفاقية أوسلو.
لكن في مقابل انسجام ترامب مع أولويات أقصى اليمين الإسرائيلي، من المرجح أن لا تُظهر إدارة ترامب الكثير من الحماسة للتدخلات العسكرية الفاعلة في المنطقة، بالقدر الذي أظهرته إدارة بايدن في دول عدة مؤخرًا.
إذ من المعلوم أن ترامب يؤمن بنظريات الانكفاء العسكري، ضمن الحدود التي لا تُفقد الولايات المتحدة هيمنتها الإستراتيجية. وهذا ما سيجعل إسرائيل تخسر هذا الدور المُوازن للدور الإيراني في اليمن وسوريا والعراق.
العلاقة مع دول الخليج وإيران
انتهج بايدن منذ بداية ولايته مقاربة أكثر تشددًا في العلاقة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مقارنة بسلفه ترامب.
وجاءت التوترات بين الطرفين في البداية على خلفية ملف حقوق الإنسان، بعد اغتيال الصحافي جمال الخاشقجي. ثم توالت أسباب التوتر لتشمل الخلاف حول قرارات خفض إنتاج النفط، التي ضغطت باتجاهها السعودية بالشراكة مع روسيا، في إطار تحالف “أوبيك+”.
في المقابل، يذكر النظام السعودي جيدًا مقاربة ترامب الإيجابية للغاية اتجاهه، والتي بدأت بعدما خص ترامب السعودية بأول زيارة له كرئيس للولايات المتحدة.
وعلى أي حال، لم يكن ترامب من الرؤساء الذين يولون الكثير من الأهمية لملف حقوق الإنسان، عند التخطيط لسياسات بلاده الخارجية.
كما كانت المملكة العربية السعودية قادرة على كسب وده واستيعابه، بوصفه سياسيًا براغماتيًا باحثًا عن العقود التجارية المربحة لبلاده.
لهذا السبب، ثمة الكثير من الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن فوز ترامب في الانتخابات المقبلة قد يصب في مصلحة السياسة الخارجية التي ينتهجها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تعارضت توجهاته بشكلٍ واضحٍ مع نهج إدارة بايدن الحالية.
أما قطر والإمارات العربية المتحدة، فقد تجدان الطرق الكفيلة بحماية موقعهما في المعادلة الإقليمية، من دون أن يأتي التقارب الأميركي السعودي على حساب مصالحهما. وهذا بالضبط ما حصل ابان ولاية ترامب السابقة.
بالنسبة إلى إيران وبرنامجها النووي، فمن المتوقع أن يلتزم ترامب –في حال فوزه- بسياسة متشددة اتجاه هذا الملف، تمامًا كما فعل في ولايته السابقة التي شهدت إلغاء الاتفاق النووي، وتشديد العقوبات على طهران.
في حين أن بايدن مازال حتى هذه اللحظة ينتهج سياسة أكثر ليونة اتجاه التعامل مع إيران، خصوصًا بعد إنجاز الصفقة الأخيرة لتبادل السجناء وتحرير الأموال الإيرانية المحتجزة.
وفي الوقت الراهن، يستمر التفاوض الإيجابي والسري بين الطرفين حول الملف النووي، بوساطة قطرية، بمعزل عن التوترات الإقليمية التي صاحبت اندلاع حرب غزة.
في النتيجة، من المهم الإشارة إلى أن السياسات الخارجية التي قد يلجأ إليها أي من المرشحين بعد فوزه قد تختلف، مقارنة بولايته السابقة. إذ تعتمد هذه السياسات الخارجية في العادة على متغيرات عديدة، ومنها على سبيل المثال التحالفات والتفاهمات المستجدة في المنطقة.
ففي حال فوز ترامب مثلًا، سيواجه مشهدًا سياسيًا جديدًا مقارنة بالمشهد السائد خلال ولايته السابق، وخصوصًا من جهة التفاهمات السعودية الإيرانية، وتطبيع بعض الدول العربية مع النظام السوري.
وهذا ما يعني أن بعض نواحي سياسة ترامب الخارجية الجديدة قد لا تتطابق بالضرورة مع سياسته السابقة.