هكذا يستنزف الإنفاق العسكري اقتصادات الدول العربية
يخدم الإنفاق العسكري المفرط في المقام الأول المصالح السياسية للأنظمة العربية وحصاناتها، على حساب مصالح وأولويات الشعوب العربية بحسب دراسة أوروبية تحليلية.
وقالت الدراسة الصادرة عن مؤسسة “فنك” الأوروبية، إنه وفقًا لأبحاث البنك الدولي، بلغ حجم الإنفاق العسكري في المنطقة العربيّة حدود ال2.03 ترليون دولار، في الفترة الممتدة بين عامي 1999 و2018، أي خلال عقدين من الزمن.
وذكرت الدراسة أن هذا الرقم يوازي الهائل 5.6% من الناتج المحلّي الإجمالي في الدول العربيّة، خلال الفترة عينها.
وفي العام 2022، ارتفع حجم الإنفاق العسكري في دول منطقة الشرق الأوسط وحدها ليبلغ حدود ال184 مليار دولار، ما شكّل زيادة بنسبة 3.2% مقارنة بالعام السابق، نتيجة الارتفاع القياسي في حجم الإنفاق العسكري في دولتي قطر والمملكة العربيّة السعوديّة.
من الواضح أنّ هذه الأرقام تُعد ضخمة جدًا قياسًا بحجم الاقتصادات المحليّة العربيّة، وخصوصًا إذا ما قمنا بمقارنتها مع مناطق العالم الأخرى.
فعلى سبيل المثال، لم يتجاوز متوسّط الإنفاق العسكري العالمي حدود ال2.2% من الناتج المحلّي الإجمالي، بحسب أرقام البنك الدولي أيضًا. وهذا الرقم يوازي نحو 39% فقط من مستوى الإنفاق العسكري في المنطقة العربيّة قياسًا بناتجها المحلّي.
أما في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم كبرى الاقتصادات المتقدّمة، فلم تتجاوز هذه النسبة حدود ال2.37% من ناتجها المحلّي الإجمالي، ما يوازي 42% فقط من مستوى الإنفاق العسكري في الدول العربيّة، قياسًا بناتجها المحلّي.
ورغم جميع الزيادات المخطط لها للإنفاق العسكري في الولايات المتحدة، من غير المقدّر أن تزيد نسبة هذا الإنفاق حدود ال2.8% قياسًا بالناتج المحلّي، بحلول العام 2033، وهو ما يقارب نصف هذا المعدّل بالنسبة للمنطقة العربيّة.
أمّا المفارقة الأهم، فهي أنّ الدول العربيّة تنفق كمتوسّط سنوي أكثر من 7.4% من إجمالي المبالغ التي تم إنفاقها عالميًا للتسلّح، في حين أن هذه الدول مجتمعة لم تسهم بأكثر من 3.2% من حجم الاقتصاد العالمي.
وهذا تحديدًا ما يشير بوضوح إلى عبء الإنفاق على التسلّح، مقارنة بحجم اقتصادات المنطقة العربيّة وميزانيّاتها العامّة.
النتيجة الأولى والأهم لظاهرة الإسراف في الإنفاق على التسلّح، هي تقلّص نسبة الموارد الماليّة المخصّصة لسائر أنواع النفقات العامّة.
فعلى سبيل المثال، تشير أرقام اليونسكو إلى أنّ نسبة الإنفاق العام على التعليم بلغت حدود ال4.3% من الناتج المحلّي الإجمالي، كمتوسّط عالمي.
لكن هذه النسبة تنخفض إلى حدود ال3.2% في الأردن وقطر، وإلى نحو 2.5% في مصر.
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأسرها، لا تتجاوز هذه النسبة مستوى ال3.8% من الناتج المحلّي الإجمالي كمتوسّط عام.
وعلى هذا النحو، تنخفض نسبة الإنفاق على الصحّة العامّة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى نحو 5.93% من الناتج المحلّي الإجمالي، بينما ترتفع هذه النسبة إلى 10.89% كمعدّل عالمي، بحسب أرقام منظمة الصحّة العالميّة.
ويبلغ نصيب الفرد الواحد من الإنفاق الحكومي على الصحّة أقل من 470 دولارًا أميركيًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سنويًا، بينما يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 1177 دولارًا أميركيًا سنويًا كمتوسّط عالمي.
ببساطة، يأتي توسّع الإنفاق على التسلّح في دول المنطقة العربيّة على حساب النفقات العامّة المتصلة بالأمن الاجتماعي وشبكات الحماية المخصّصة للفئات الأكثر هشاشة، ومنها الإنفاق على التعليم الرسمي والصحّة العامّة وبرامج التقاعد والتقديمات الاجتماعيّة وغيرها.
وهذا ما يظهر بوضوح في حجم إنفاق الدول العربيّة على معظم البنود المرتبطة بالأمن الاجتماعي.
إن هذا المشهد، يستوجب البحث عن الدول العربيّة التي تستنزف أكبر قدر من مواردها العامّة على التسلّح، وعن تداعيات هذا الواقع على المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
ومن الضروري كذلك السؤال عن العوامل التي تدفع باتجاه رفع نسبة الإنفاق العسكري في الدول العربيّة، وبما يتجاوز مثيلاتها في أكثر الدول توسّعًا في عمليّاتها العسكريّة حول العالم، كالولايات المتحدة الأميركيّة مثلًا.
أكثر الدول العربيّة إنفاقًا على التسلّح وبدون منازع، هي السعوديّة، بعدما حلّت خلال العام 2022 في المرتبة الثانية عالميًا لجهة نسبة إنفاقها العسكري من الناتج المحلّي، والتي بلغت حدود ال 7.4%.
مع الإشارة إلى أنّ المرتبة الأولى كانت من حصّة أوكرانيا، لأسباب تتصل بعوامل حربها مع روسيا.
ومن ناحية حجم الإنفاق العسكري الإجمالي، حلّت المملكة في المرتبة الخامسة عالميًا، وبقيمة ناهزت ال75 مليار دولار أميركي.
في المرتبة الثانية عربيًا، تبرز قطر، إذ حلّت بدورها في المرتبة الثالثة عالميًا من ناحية نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلّي، والتي بلغت نحو 7%.
أمّا من ناحية حجم هذا الإنفاق الإجمالي، فحلّت قطر في المرتبة ال20 دوليًا، وبقيمة قاربت ال15.4 مليار دولار أميركي.
وفي المرتبة الثالثة عربيًا، فقد حلّت الجزائر، التي أنفقت عام 2022 نحو 9.1 مليار دولار أميركي على التسلّح، ما يوازي 4.8% من ناتجها المحلّي الإجمالي.
كما حلّت في المرتبة الرابعة عربيّا الكويت، التي أنفقت 8.2 مليار دولار على التسلّح، أي ما يقارب 4.5% من ناتجها المحلّي.
وفي المرتبة الخامسة، يظهر اسم سلطنة عمان، التي أنفقت بدورها 5.8 مليار دولار على التسلّح، وهو ما يوازي 5.2% من ناتجها المحلّي.
وبمعزل عن ارتفاع معدلات الإنفاق على التسلّح بشكل استثنائي في هذه الدول الخمس، سجّلت كل من المغرب والإمارات العربيّة المتحدة والبحرين وتونس معدلات مرتفعة من الإنفاق العسكري، قياسًا بناتج هذه الدول المحلّي، وبما يتجاوز المعدلات العالميّة.
وتتنوّع الأسباب التي ترفع معدلات الإنفاق العسكري في الدول العربيّة، بحسب الظروف الإقليميّة والداخليّة في هذه الدول.
في العديد من الحالات، مثل الجزائر وتونس، تتسم الأنظمة السياسيّة بطابع بوليسي وأمني، وبدرجة مرتفعة من الحذر تجاه محاولات الإطاحة بها.
وهذا ما يفرض على هذه الأنظمة رفع معدلات الإنفاق على التسلّح والأمن، بهدف حماية نظام الحكم من أي محاولات للإطاحة به.
وفي الوقت عينه، يدفع هذا الواقع هذه الأنظمة إلى استرضاء مراكز النفوذ العسكريّة داخل النظام قدر الإمكان، عبر رفع ميزانيّتها باستمرار، للحفاظ على غطائها ومساندتها النظام السياسي، في مواجهة أي معارضة سياسيّة أو شعبيّة محتملة.
في حالتي الجزائر والمغرب، أسهمت التوتّرات الحدوديّة والنزاعات التاريخيّة بين الدولتين في الدفع باتجاه سباق على التسلّح، بهدف منع أي اختلال في توازنات القوى بين الطرفين.
ورغم عدم وجود حرب معلنة وصريحة حاليًا بينهما، يعكس سباق التسلّح القائم اليوم انعدام الثقة المتبادلة، وسعي كل طرف إلى تكريس سيطرته الحدوديّة في مواجهة أي تدخلات غير مرغوبة من جانب الطرف الآخر.
في حالة السعوديّة والكويت، يعكس السباق على التسلّح الخشية الدائمة من التدخّلات وتعاظم القوّة العسكريّة الإيرانيّة.
كما شهدت السعوديّة بالتحديد ارتفاعًا في الإنفاق العسكريّ نتيجة تورّطها في النزاع المسلّح في اليمن.
وخلال الأعوام الماضية، تم استعمال عقود الإنفاق العسكري من قبل ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان لنسج العلاقات والمصالح السياسيّة مع الأطراف الخارجيّة، كحال صفقات السلاح التي تم عقدها خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعوديّة عام 2018، وصفقات السلاح الضخمة التي جرى عقدها مع الصين عام 2022.
أخيرًا، من الواضح أنّ ارتفاع معدلات الإنفاق العسكري ارتبط خلال السنوات الماضية بعوامل سياسيّة واستراتيجيّة تتصل بمصالح الأنظمة العربيّة وحصاناتها.
لكنّ هذا الإنفاق، جاء على حساب الشعوب العربيّة، والأولويّات التي ترتبط بمصالحها المباشرة.
بالنتيجة، بات جزء كبير من العوائد الضريبيّة وعوائد تصدير مصادر الطاقة العربيّة يصب في جيوب كبرى شركات الأسلحة الأجنبيّة، بدل أن يذهب لمصلحة تحقيق أولويّات التنميّة المحليّة.