الاندحار المهين لفرنسا في أفريقيا
لم يبدأ الاندحار الفرنسي في أفريقيا اليوم، لكنه أصبح، حاليا، أكثر وضوحا وإهانة، ومناهضو كل أشكال الوجود الفرنسي في القارّة السمراء أصبحوا يرفعون أصواتهم عاليا ويتحدّون المستعمر السابق من دون أن يرفّ لهم جفن.
وجاءت جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيرا، في أربع دول أفريقية، تعتبر مركز النفوذ الفرنسي في القارّة السمراء، لتؤكّد أن فرنسا الاستعمارية فقدت هيبتها في مستعمراتها السابقة.
وتعرّض الرئيس الفرنسي نفسه للإهانة في أكثر من واحدةٍ من محطّات زيارته القصيرة والخاطفة لهذه الدول.
ونقلت الصور التي رافقتها مستوى الشعور بالخيبة والإحباط من فرنسا لدى شعوب هذه الدول، وخصوصا الأجيال الشابة منهم، من خلال المظاهرات الشعبية المناهضة لزيارته في الغابون والكونغو الديمقراطية، والارتباك الواضح الذي ظهر عليه، على الهواء مباشرة، عندما قاطعه رئيس الكونغو برازافيل مرّتين في أثناء ندوتهما الصحافية المشتركة، لتصحيح معلومات خطابه المتعجرف، وينهره بنبرة هادئة، ولكن واثقة، لوضع حدّ لتدخّله في شؤون بلاده الداخلية.
بدأ ماكرون زيارته المستعمرات السابقة لبلاده بالقول إن عهد فرنسا الأفريقية انتهى، وبدعوة دبلوماسية بلاده في أفريقيا إلى التحلّي بـ “التواضع”، لكنه نسي أن يحرّر خطابه من بعض ترسبات الماضي، خصوصا المتمثلة في عجرفة الاستعمار القديم.
ومن سوء حظه أن تركيبته الشخصية تجعل منه شخصا متعجرفا بامتياز، حتى من دون أن يتكلّم، يتعامل بعجرفة وخشونة، حتى مع مواطني بلده، ويتصرّف وهو ما زال يعتقد أن فرنسا قوة عظمى.
فيما يؤكد الواقع أنها تراجعت إلى المرتبة السابعة بين أقوى اقتصاديات العالم، وإلى المرتبة التاسعة بين القوى العسكرية العالمية، وهي مرشّحة إلى التراجع مستقبلا في المجالين الاقتصادي والعسكري، بينما أصبح تأثير اللغة والثقافة الفرنسيتين يتضاءل حتى داخل فرنسا نفسها، لحساب الثقافة واللغة الإنكليزيتين.
ومنذ قرّرت رواندا التخلّي عن اللغة الفرنسية واعتماد الإنكليزية أصبحت تمثل نموذجا ناجحا تريد دولٌ عديدة الاحتذاء بها.
وفي صيف العام الماضي، انضمت الغابون وتوغو إلى مجموعة الكومنولث، لتنضويا بذلك إلى أكبر نادٍ للدول الناطقة بالإنكليزية.
ومقابل انكماش الحضور الفرنسي في مجالاتٍ عديدة داخل القارّة السمراء، يتنامى الشعور المعادي لها ولثقافتها ولغتها، خصوصا في الدول الأفريقية الفرنكفونية، ليس بسبب العسكر المناهضين لها الذين يحكمون هذه البلدان.
ففرنسا هي التي كانت تحمي الانقلابيين، بل وتدبّر لهم الانقلابات، لتفرض الموالين لها على شعوب بلدانهم، وليس مردّه الدعاية الروسية أو المنافسة الصينية، لأن هذا الشعور ليس وليد اليوم.
وإنما نتيجة تراكم سنواتٍ من الاستغلال البشع لثروات هذه الشعوب، وبسبب الحماية التي كانت وما زالت باريس توفّرها للفساد والمفسدين داخل هذه الدول، حتى بلغ السيل الزّبى، وخرجت المظاهرات المناهضة لها في باماكو وواغادوغو، حيث أحرقت الجماهير الغاضبة العلم الفرنسي، وردّدت شعارات معادية لكل أشكال الوجود الفرنسي في بلدانها.
وعلى أرض الواقع، لم يعد الوجود الفرنسي القوة الأساسية في البلدان الأفريقية التي كانت تصفها بحديقتها الخلفية، وتعتبرها مجالا محفوظا لاستغلال شركاتها، تتحكّم في اقتصادها وفي عملاتها المحلية التي ما زالت مربوطة بقيمة الفرنك الفرنسي، رغم أن الأخير لم يعد موجودا منذ عوّضه اليورو في فرنسا.
وعلى المستوى العسكري، أدّى الفشل العسكري المدوي لعملية “برخان” في منطقة الساحل الأفريقي، إلى طرد الجيوش الفرنسية بطريقة مهينة من مالي، وإلى تنامي الرفض يوميا لآخر وجود لهم ببوركينا فاسو.
أما المشاعر المعادية لفرنسا في الدول الناطقة بالفرنسية من دول المغرب العربي حتى دول الساحل الغربي لأفريقيا، بل وحتى داخل الدول الأفريقية الأنغلوفونية، فينتشر يوميا مثل ورم حميد.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه أن تتدارك الدبلوماسية الفرنسية الوضع تأتي دائما تصريحات أو تصرفات سياسيين فرنسيين أو قرارات فرنسية لتؤجج هذا العداء وتغذيه.
فمن هيأ ويهيئ الأرضية لتنامي معاداة الوجود الفرنسي في إفريقيا هي السياسات الفرنسية في القارّة السمراء طوال العقود الماضية.
وتصرّفات المسؤولين الفرنسيين، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي نفسه الذي ما زال ينظر إلى دول القارّة السمراء التي كانت تستعمرها بلاده، باعتبارها مجرّد فناء خلفي لقصر الإليزيه.
ما لا تعيه باريس، أو لا تريد أن تستوعبه، أن انفتاح الشعوب الأفريقية، وخصوصا الأجيال الشابّة على ثقافات العالم ولغاته بفضل تقنيات التواصل الحديثة، هو الذي طوّر وعيها وجعلها ترفض كل أساليب الهيمنة التقليدية التي ما زالت باريس تريد أن تتحكّم بها في مصائر الشعوب والدول.
كما أن دخول منافسين كبار لفرنسا في معاقلها التقليدية داخل القارّة السمراء أتاح لشعوب هذه الدول فرصة المقارنة بين ما قدّمته لهم فرنسا خلال العقود السابقة وما يربحونه اليوم مع شركائهم الاقتصاديين والعسكريين الجدد من الصين وتركيا وروسيا، بل وحتى من الإمارات والمغرب.
وأخيرا، أعلنت الجزائر عن إنشاء صندوق سيادي بقيمة مليار دولار للاستثمار في الدول الأفريقية، فكل يوم تشتدّ المنافسة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للوجود الفرنسي في معاقله القديمة من خلال الاتفاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية التي تبرمها هذه القوى مع المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا.
وحسب تقرير فرنسي رسمي صادر عام 2019، خسرت فرنسا، خلال الـ20 عامًا الماضية، نصف حصتها في السوق الإفريقية.
أما وجودها العسكري الذي جاء أصلا لحماية مصالحها الاقتصادية فتحوّل، بسبب الأخطاء الاستراتيجية المرتكبة، إلى أكبر مغذٍّ للشعور المعادي لكل ما يمتّ لفرنسا بصلة في الدول التي ما زال لها وجود عسكري داخلها.
دقّت زيارة ماكرون القارّة السمراء آخر إسفين في نعش نزعة الهيمنة الإمبريالية الفرنسية في مستعمراتها السابقة، الأمر الذي دفع صحيفة لوموند الفرنسية إلى كتابة افتتاحية تدقّ ناقوس الخطر، وتدعو فيها إلى التحرّك بسرعة، لفعل ما يتوجب من أجل أن “تتعافى فرنسا في أفريقيا”!.
ومن أجل تحقيق ذلك، ما على فرنسا سوى أن تحذو حذو المملكة المتحدة التي قطعت كل علاقاتها مع مستعمراتها القديمة بشكل صريح بعد استقلالها عنها، قبل أن تعيد نسج علاقاتها الجديدة مع الدول التي كانت تستعمرها، لكن على أساس من الاحترام المتبادل.
أما فرنسا فهي ما زالت لم تغادر عسكريا العديد من مستعمراتها السابقة، وتنظر إلى مستعمراتٍ سابقةٍ بخلفية استعمارية عفا عليها الزمن، وقد آن الأوان لها لتنسحب فعليا وذهنيا بهدوء من كل أشكال وجودها وفكرها الاستعماري إذا أرادت أن تعيد صياغة شراكاتٍ جديدة معها على أسس تحترم فيها سيادة شعوبها، وتقطع فيها مع كل ترسّبات تاريخها الاستعماري المقيت.
للكاتب/ علي أنوزلا