تساؤلات حول جدوى وأهداف البرامج النووية العربية
تثار تساؤلات حول جدوى وأهداف البرامج النووية العربية التي ستسمح بتنويع مصادر الطاقة، لكن الشكوك لا تزال قائمة بسبب بدائل الطاقة المتجددة الأرخص والأكثر أمانًا.
وبعد حادثة التسرب النووي في فوكوشيما في اليابان عام 2011، تراجعت معظم الدول الصناعية عن خطط التوسع في برامجها النووية السلمية، خشية التعرض لأحداث مشابهة.
كما ساهمت معايير الأمان والوقاية المشددة، التي فرضتها الحكومات بعد تلك الحادثة، في رفع كلفة إنتاج الكهرباء بالطاقة النووية، مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى.
وبحسب مقال تحليلي نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية فإنه منذ تلك الفترة، اتخذت بعض الدول الغربية موقفًا شديد العدائية تجاه الاعتماد على مصادر الطاقة النووية.
فألمانيا وضعت منذ ذلك الوقت خطة طويلة الأمد، لإقفال جميع مفاعلات الطاقة النووية على أراضيها بشكل متدرج، وهو ما تحقق بالفعل بحلول العام 2023.
وعلى هذا النحو أيضًا، وضعت دول أخرى مثل سويسرا وإسبانيا وبلجيكا خططًا للتخلص التدريجي من الطاقة النووية، وبمهل زمنية تفاوتت بحسب اعتماد كل دولة على المفاعلات النووية لديها.
أما اليابان، فاختارت تقليص حصة الطاقة النووية في مزيج الطاقة لديها، دون أن تقرر نهائيًا التخلي عن هذا المصدر.
ورغم أن تبعات الحرب الأوكرانية على سوق الطاقة أخرت خطط بعض الدول الأوروبية للانتقال إلى الطاقة النظيفة، إلا أن التوجه العام في أسواق الطاقة الغربية مازال يسير باتجاه تعزيز حصة مصادر الطاقة المتجددة، على حساب جميع البدائل الأخرى.
فخلال السنوات الماضية، وبفعل تطور تكنولوجيات الطاقة المتجددة، انخفضت كلفة إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية إلى أقل من 41% من كلفة إنتاجها بالطاقة النووية.
كما انخفضت كلفة إنتاج الكهرباء باستخدام طاقة الرياح إلى أقل من 46% من كلفة إنتاجها بالطاقة النووية.
وبشكل عام، بحسب بيانات شركة بي.بي. البريطانية، من المرتقب أن ترتفع حصة الطاقة المتجددة من مزيج الطاقة العالمي إلى مستوى قد يتراوح بين 35% و64%، بحلول العام 2050، بحسب وتيرة الابتعاد عن مصادر الطاقة غير المتجددة، مقارنة بنحو 10% فقط خلال العام 2019.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أقر خلال العام 2022 رزمة دعم تستهدف مضاعفة إنتاج الطاقة الشمسية في الاتحاد بحلول العام 2030، وزيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة إلى 45% من إجمالي مزيد الطاقة في دول الاتحاد.
الاتجاه المعاكس في العديد من الدول العربية
في المنطقة العربية، تبدو الأمور مغايرة إلى حد بعيد.
فرغم ارتفاع جدوى الاستثمار في الطاقة المتجددة، مقارنة بالطاقة النووية، يبدو العديد من الدول العربية مهتما اليوم بتطوير برامجه النووية السلمية، لغايات إنتاج الكهرباء.
أبرز الدول العربية التي تملك برامج نووية فاعلة اليوم هي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب ومصر.
ومن المعلوم أن العديد من الدول العربية امتلك تجارب تاريخية غير موفقة، عبر إطلاق برامج نووية لم يُكتب لها النجاح، كالعراق وسوريا.
هذا المشهد بالتحديد، يطرح العديد من الأسئلة حول تاريخ هذه البرامج النووية، وأهداف إطلاقها في المنطقة العربية، بالإضافة إلى الجدوى الاقتصادية من الإنفاق على هذا النوع من الاستثمارات المكلفة، مقارنة بالاستثمار بالطاقة المتجددة.
كما يمكن السؤال عن درجة الاعتماد على الطاقة النووية، التي ستتحقق بعد إنجاز المشاريع المُخطط لها، ضمن البرامج النووية.
وأخيرًا، تفتح هذه الأسئلة باب البحث في هوية الدول الموردة تكنولوجيا الطاقة النووية في الدول العربية، لفهم ديناميات سوق الطاقة النووية، وهوية الأطراف الأكثر نشاطًا فيه.
الإمارات: البرنامج النووي الأكثر اكتمالًا في المنطقة العربية
تُعتبر الإمارات العربية المتحدة صاحبة المشروع النووي الاكثر اكتمالًا حتى اللحظة، بعدما تمكنت خلال السنوات الماضية من بناء أربعة مفاعلات نووية في محطة البراكة، فيما دخلت ثلاثة منها حيز التشغيل التجاري الكامل.
أما المحطة الرابعة والأخيرة، فمرت بجميع الاختبارات المطلوبة، ونالت الرخص اللازمة لربطها بشبكة الكهرباء، تمهيدًا للتشغيل التجاري.
وتقول السلطات الإماراتية إن المحطات الأربع ستتمكن من إنتاج 25% من حاجة الإمارات من الكهرباء، ما سيحد من 22.4 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنويًا، أي ما يوازي انبعاثات 4.8 مليون سيارة
وكانت الإمارات قد دشنت مشروعها النووي السلمي عام 2009، عندما وقعت عقد تطوير محطات البراكة النووية، مع الشركة الكورية للطاقة الكهربائية.
ونص العقد على إنشاء أربعة مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة، على أن تتولى الشركة أيضًا مسؤولية المساعدة في تشغيلها وإدارتها وتدريب الموظفين.
ولتنظيم القطاع منذ البداية، أقرت الإمارات في السنة نفسها القانون الاتحادي للطاقة النووية، وأسست الهيئة الاتحادية للرقابة النووية، كما أسست مؤسسة الإمارات للطاقة النووية لإدارة المحطات.
وبهذا الشكل، أكملت الإمارات نموذج الرقابة والتشغيل والبناء.
لاحقًا، تم البدء بتشييد المفاعل الأول عام 2012، ثم توالى إنجاز المفاعلات الأربعة على مر السنوات اللاحقة.
وتم اختيار الموقع في منطقة الظفرة في إمارة أبو ظبي، بمحاذاة الخليج، وعلى مسافة تقارب ال53 كلم إلى الجنوب الغربي من مدينة الرويس.
وتعتبر الحكومة الإماراتية أن هذا المشروع يتكامل مع استراتيجيتها لتحقيق الحياد الكربوني عام 2050، باعتبار أن الاعتماد على الطاقة النووية يسهم في تخفيض الانبعاثات المسببة الاحتباس الحراري.
ورغم أن الطاقة النووية ستمثل ربع مزيج الطاقة الإماراتي، بعد تشغيل المفاعل الرابع في محطة البراكة، تعتقد دولة الإمارات أن حصة الطاقة النووية من مزيج الطاقة لديها ستنخفض بحلول العام 2050 إلى حدود ال6%، بالتوازي مع التوسع بالاستثمار في الطاقة المتجددة.
ومن المهم الإشارة إلى أن الإمارات حرصت على تطمين القوى الدولية والإقليمية كافة تجاه برنامجها النووي، لتفادي أي عراقيل محتملة.
فهي وقعت لهذه الغاية اتفاقية الضمانات الشاملة، والبروتوكول الإضافي، للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأبدت أقصى درجات الشفافية في الالتزام بشروط الوكالة الرقابية.
كما وقعت الإمارات معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية، واتفاقية المادة 123 للتعاون النووي السلمي مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي تعتبرها الولايات المتحدة شرطًا مسبقًا قبل الدخول في أي تعاون نووي مع دولة أخرى.
هكذا يبدو النموذج الإماراتي في مجال الطاقة النووية النموذج الأنجح على مستوى المنطقة العربية، من ناحية القدرة على إطلاق المفاعلات ودمجها بشبكة الكهرباء، من دون أي عوائق من جانب القوى الإقليمية أو الدولية المؤثرة.
ومع ذلك، ثمة علامات استفهام عديدة حول جدوى البرنامج من الناحية الاقتصادية.
فالإمارات تُعد دولة تصدر النفط، ما يتيح لها المجال لإنتاج الطاقة بكلفة منخفضة للغاية، مقارنة بكلفة الطاقة النووية.
أما إذا كان الهدف خفض الانبعاثات الكربونية، وتنويع مصادر الطاقة، فالإمارات تملك أساسًا الموارد المالية والبيئة الاستثمارية المناسبة، التي تسمح لها بالتوسع في الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة.
تجدر الإشارة إلى أن الإمارات تملك اليوم مشاريع كبيرة في هذا المجال، ومن الممكن توسعة هذه المشاريع لزيادة حصتها في مزيج الطاقة الإماراتي على المدى البعيد.
وكما ذكرنا سابقًا، بات تطور تكنولوجيات الطاقة المتجددة يسمح باستخدامها لتوليد الطاقة بكلفة أقل من الطاقة النووية وأثر بيئي أفضل.
وكانت الإمارات قد وقعت مذكرات تفاهم في مجال الطاقة النووية مع كل من الصين وروسيا، لكنها اختارت الإبقاء على شركة كورية جنوبية لإنشاء وتشغيل وإدارة مفاعلاتها، ربما في محاولة لتطمين شركائها الغربيين بخصوص مآل برنامجها النووي.
أما الأهم، فهو أن الإمارات لم تتوسع في مجال إنتاج الوقود النووي أو زيادة معدلات تخصيبه، وهذا ما أبعد عنها شبهات إمكانية استخدام البرنامج النووي السلمي لإنتاج أسلحة نووية في المستقبل.
المملكة العربية السعودية: برنامج نووي مشاكس
أبدت السعودية منذ العام 2010 طموحها لدخول نادي الدول المنتجة الطاقة النووية، حين أسست مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والنووية.
وبعد سنة واحدة فقط، أعلنت المملكة عن نيتها إنشاء 16 مفاعلًا نوويا، بميزانية قُدرت بنحو 80 مليار دولار أميركي.
مع ذلك، ظلت جميع هذه المشاريع حبرًا على ورق، في ظل انعدام جدوى هذه المشاريع الاقتصادية، بالنظر إلى انخفاض تكلفة مشتقات النفط في المملكة.
في العام 2018، أيقظ ولي العهد محمد بن سلمان هذه الطموحات، بإعلانه إنشاء أول مفاعل نووي بحثي منخفض الطاقة في المملكة.
وبعد سنتين، سربت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية صورًا جوية لمشروع نووي محدود الحجم، قرب العاصمة السعودية الرياض.
وأثارت تلك الأنباء يومها خشية الإدارة الأميركية، من إمكانية تعاون المملكة مع الصين لتطوير قدرة صناعية على إنتاج الوقود النووي.
ومنذ ذلك الوقت، بدا أن البرنامج النووي السعودي يأخذ منحًى مشاكسًا على المستوى الدولي.
فمحاولة إنتاج اليورانيوم وتخصيبه محليًا، بالتعاون مع الصين، قد يفتح المجال أمام تطوير البرنامج النووي لاستخدامات غير سلمية، بمجرد تخصيب اليورانيوم بنسب مرتفعة.
مع الإشارة إلى أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشير بأن السعودية أنفقت عشرات ملايين الدولارات للتنقيب عن اليورانيوم، بينما وقعت المملكة في الفترة نفسها مذكرات تعاون مع الصين لتطوير إنتاج هذه المادة.
ورغم كل هذه المساعي، ظل البرنامج النووي السعودي متواضعًا مقارنة بنظيره الإماراتي، ربما بسبب الريبة الغربية من أهداف الطموحات النووية السعودية، بسبب تقارب السعودية مع الصين في مجال استخراج اليورانيوم وإنتاجه.
وفي الوقت الراهن، تسعى السعودية منذ نهاية العام 2022 إلى تلزيم بناء أول محطة نووية لإنتاج الكهرباء، من دون أن تُحسم حتى اللحظة هوية الشركة التي ستفوز بهذا العقد.
في جميع الحالات، من الواضح أن طموحات السعودية النووية لا تنفصل عن خشيتها من امتلاك إيران أسلحة نووية في المستقبل.
وهذا ما يفسر اهتمام النظام السعودي بمسألة استخراج وإنتاج اليورانيوم، وتخصيبه في المستقبل، بدل الاكتفاء بإنشاء المعامل مباشرةً، وشراء الوقود النووي المخصب بنسب ضئيلة، كما تفعل الإمارات.
وهذا التوجه، الذي يفسر تباطؤ البرنامج النووي السعودي، يثير في الوقت نفسه الخشية من اندلاع سباق على التسلح النووي في الشرق الأوسط في المستقبل.
وتمامًا كحال الإمارات العربية المتحدة، ثمة تساؤلات كبيرة عن الجدوى الاستثمارية من تكبد كلفة بناء معامل الطاقة النووية في بلد ينتج النفط كالسعودية، وبوجود مشاريع أخرى لإنتاج الطاقة المتجددة.
برامج عربية ناشئة أخرى
يمتلك العديد من الدول العربية الأخرى طموحات نووية سلمية، إلا أن جميع هذه البرامج مازالت حتى هذه اللحظة ناشئة ومتواضعة، بالرغم من مرور سنوات –وفي بعض الأحيان عقود- على إطلاقها.
فالأردن أعلنت في مطلع العام 2023 تحضيراتها لبناء معامل لإنتاج اليورانيوم لغايات تجارية، كما كشفت عن وجود مباحثات مع جهات استثمارية عديدة مهتمة بهذا النوع من المشاريع.
وأعلنت الأردن وجود أربعة مشاريع مخطط لها، لإنتاج الطاقة باستخدام المفاعلات النووية الصغيرة، إلا أن أيا من هذه الخطط لم يدخل بعد حيز التنفيذ، كما لم يتم تلزيم أي من هذه المشاريع.
ومن المعلوم أن الأردن تُعد من أكثر الدول اعتمادًا على الطاقة المتجددة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمثل مصادر الطاقة هذه نحو 29% من مزيج الطاقة لديها.
مع الإشارة إلى أن الأردن أطلقت برنامجها النووي منذ العام 1986، إلا أنه اقتصر منذ ذلك الوقت على المشاريع البحثية.
من جهتها، أعلنت مصر في شهر يوليو/تموز 2022 البدء بتشييد أول مفاعل نووي في محطة الضبعة، بالتعاون مع شركة روساتوم الروسية.
وكانت مصر قد خططت لإنشاء محطة نووية في نفس الوقع في مطلع ثمانينات القرن الماضي، قبل أن يتم تجميد المشروع بعد كارثة تشرنوبل في أوكرانيا عام 1986.
وحتى اللحظة، لم يتضح مدى تأثر المشروع بالعقوبات التي تم فرضها على شركة روساتوم، بالنظر إلى الحاجات التمويلية الضخمة المرتبطة ببناء المحطة وتشغيلها على المدى البعيد.
أما المغرب، فيهدف إلى إنتاج الطاقة النووية بحلول العام 2030، بينما يسعى في الوقت الراهن إلى الاستثمار في تكوين الخبرات المحلية لإدارة المفاعلات النووية في المستقبل.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022، وقعت المغرب اتفاقًا مع روسيا، لإنشاء مفاعل نووي تجريبي مصغر، على أن يلي ذلك إنشاء مفاعلات نووية قادرة على إنتاج الطاقة بكميات تجارية.
في النتيجة، من الأكيد أن المفاعلات النووية ستسمح لهذه الدول العربية بتنويع مصادر الطاقة لديها، كما ستسمح بتحقيق استقرار أكبر على مستوى التغذية الكهربائية، وخصوصًا في الدول التي تشهد ساعات تقنين كمصر.
إلا أن هناك شكوكًا كبيرة تحوم اليوم حول جدوى هذه المشاريع الاقتصادية، وخصوصًا بوجود بدائل أقل كلفة، وأكثر أمانًا، كالطاقات المتجددة.
مع العلم أن العديد من الدراسات تشير إلى أن الطاقة النووية باتت اليوم أكثر مصادر الطاقة كلفة، مقارنة بجميع البدائل المحتملة.
أما الأهم، فهو المخاوف من الكوارث التي يمكن أن تنتج، في حال وقوع حوادث شبيهة بحادثتي تشرنوبل وفوكوشيما.