تحليل أوروبي يحذر: الحرب الأهلية لا تزال تهدد لبنان
لا تزال الحرب الأهلية تهدد لبنان رغم مرور 33 عاماً على انتهائها إذ ما زال الشعب اللبناني يتخوف من وقوع حرب أهلية جديدة لأسباب سياسية واقتصادية متعددة.
ورأت مؤسسة فنك الأوروبية في تحليل لها، أن تخوف الحرب الأهلية يطال شرائح واسعة من المجتمع اللبناني، لا سيما ناشطو المجتمع المدني. ويستند هؤلاء في تخوفهم على جوانب وأحداث متكررة شهدها لبنان في السنوات الأخيرة.
ويأتي الخوف في المرتبة الأولى بسبب ما تمر به البلاد من أوضاع اقتصادية متردية وانهيار العملة المحلية. كما أن وقوع الأحداث الأخيرة في نفس أماكن خطوط التماس التي كانت ساحات قديمة لمعارك تلك الحرب دق ناقوس الخطر.
وعلى سبيل المثال، أيقظت الاشتباكات التي وقعت قبل عامين في منطقة “الطيونة” في بيروت ذكرى أقسى أيام اللبنانيين وأكثرها مرارة.
وفي هذا السياق، أجرى موقع فنك عدة حوارات مع عدة شخصياتٍ لبنانية مختلفة لمعرفة وجهات نظرهم حول الموضوع والحديث عن تجاربهم وتأثير ما تبقى من الحرب على حياتهم اليومية.
فكرة الحرب
يرى أدهم سليمان، وهو من سكان بيروت، أن هناك شبه إجماع في لبنان على عدم الرغبة في تكرار سيناريو الحرب الأهلية مجدداً. وأضاف أدهم: “لا وقت للتفكير في الحرب. الشعب اليوم جائع بفعل الفقر ونقص المواد والأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد. وأي فكرة عن الحرب ستزيد الطين بلة”.
ومنذ أكثر من ثلاثة أعوام، يعاني لبنان أزمةً اقتصادية مخيفة أدت إلى انهيار قياسي في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار. كما تعيش البلاد حالةً معيشية مزرية شح فيها الوقود والأدوية وبعض المواد الغذائية.
جانو بركات، وهي حاصلةٌ على ماجستير إعلام اقتصادي وتنموي، انطلقت من نفس الفكرة. وقالت جانو في هذا السياق: “الأزمات الاقتصادية أتعبت الناس وجعلت من كيفية تأمين لقمة العيش همهم الوحيد. لكن هذه الأزمة، وبالوقت ذاته، زادت من عنصريتهم وتعصبهم الطائفي والسياسي”.
وأضافت: “طبعاً، لا أتحدث هنا عن الطبقة المثقفة أو المنفتحة على الآخر، إن صح التعبير. أنا أقصد الناس التي هي أساساً لم تتقبل الآخر بعد، وتقوم بنقل عدم التقبل هذا إلى أولادها وبطريقة مضاعفة. وعلى سبيل المثال، ما يزال بشير الجميل بطلاً بنظر الكتائب، خائناً من وجهة نظر القومي السوري إلى يومنا هذا”.
ورداً على سؤال إذا ما كان الشعب قابلاً للانجرار إلى حرب جديدة، تقول جانو: “لو أرادها القادة حرباً جديدة، وقاموا بتأمين مستلزماتها من أسلحة ورصاص، سيقتل الشعب بعضه بعضاً دون أدنى تفكير”.
وأشارت جانو إلى أن الحقد اليوم مصبوب على اللاجىء السوري. والسبب برأيها يعود إلى “نشر إشاعة تفيد بأن المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة للسوريين هناك، تصل بالدولار”.
وتضيف في هذا السياق: “كانت هذه الإشاعة نقطة الانطلاق. ونقم المواطن اللبناني على اللاجئ السوري، وصب كل غضبه عليه، ناسياً من يقوم بسرقة البلد وأمواله”.
المصيبة الأكبر تكمن في “المرونة الوهمية” التي يتصرف الشعب على أساسها حسب ما ترى جانو. وأبدت استغرابها من “قدرة الشعب على التأقلم مع كل أنواع المصائب وحتى الحرب الجديدة، لو حدثت فرضاً، وعدم قدرته على نسيان الحرب القديمة وتقبل ما حدث فيها”.
قنبلة موقوتة
لم تكن الحرب اللبنانية حرباً أهلية بين اللبنانيين فحسب، ولكنها كانت أيضاً حرباً للآخرين على أرض لبنان.
وساهمت تلك الفترة والانقسامات والمجازر والمواقف التي حدثت على أسس دينية، في تقسيم السكان وزرع الطائفية في رؤوسهم إلى يومنا هذا كما يقول رامي م، وهو مدرسٌ جامعي لبناني.
وأضاف رامي: “هذا الفكر الطائفي، لا يستفيد منه إلا الأحزاب السياسية. هذه الأحزاب تقوم باستغلال هذا الفكر لتغذية النعرات بين الشعب عندما تقتضي مصالحها ذلك”.
وأردف: “الشعب بأغلبيته ليس مستعداً لحمل السلاح، والدخول في حرب جديدة، وتجربة الموت والآلام والخسارة من جديد. ومع ذلك، فإن هناك أحزاباً مستعدةً لجر البلاد إلى معارك مناطقية محدودة إن لزم الأمر. وتقوم هذه الأحزاب في هذا السياق باستغلال شعور الاختلاف الذي ما زال موجوداً في قلوب اللبنانيين”.
ويقوم النظام السياسي في لبنان على توزيع المناصب الرئيسية على الطوائف. ويتولى رئاسة الجمهورية مسيحي ماروني، ورئاسة الحكومة مسلم سني، ورئاسة البرلمان مسلم شيعي.
سام يوسف، وهو لبناني يقيم في برمانا، رد هذا التوزيع الطائفي إلى التربية المنزلية في لبنان. وأضاف “لا تزال العوائل تربي الجيل الجديد على الطائفية وفكرة التخويف من الطرف المقابل والفوارق والحدود بين المناطق. ولن تنتهي الحرب ما لم تتغير هذه الأفكار أولاً”.
ملف المفقودين
على الرغم من مرور 48 عاماً على بداية الحرب الأهلية، إلا أن أهالي المفقودين والمخفيين قسراً لم يفقدوا الأمل بعد. وما زال هؤلاء يواصلون معركتهم لمعرفة مصير أقربائهم وأبنائهم.
ورغم أن الحرب انتهت رسمياً مع “اتفاق الطائف“، إلا أن آثارها ما زالت حاضرةً في نفوس وذاكرة أهالي المفقودين.
وفي هذا الصدد، تقول سامية. خ، وهي ربة والدة أحد المفقودين وتبلغ من العمر 83 عاماً، إن أهالي المفقودين يكابدون للحفاظ على قضيتهم حية. وأضافت “لن تنتهي الحرب عندنا ما لم نعرف مصير أبنائنا، أو مكان قبورهم على الأقل”.
من جهتها، أكدت ريم. س، وهي ناشطةٌ مجتمعية، على أهمية نشر الوعي حول ملف المفقودين، وعدم انتظار المناسبات كذكرى الحرب الأهلية واليوم العالمي للمفقودين، والمطالبة الدائمة لمعرفة مصيرهم.
وتعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ عام 2011، وعلى مستويات عدة للاستجابة لحاجات الأهالي ومطالبهم. وتشمل هذه المطالب أموراً تتعلق بالجوانب القانونية والنفسية، إضافة إلى العمل للحصول على اعتراف المجتمع بمحنتهم ومعاناتهم.
اللاجئ السوري
يتعرض اللاجئون السوريون لموجاتٍ كبيرة من الاتهامات والتحريض في لبنان. وصار السوري هناك يخاف من أية مشكلة أو مأساة تصيب اللبناني، فتترجم إلى التشفي وصب الغضب عليه.
يقول محمد ل، وهو لاجئٌ سوري مقيم في طرابلس، إن النظرة المجتمعية للسوريين المقيمين في لبنان ثابتة منذ أيام الحرب ولم تتغير. وأضاف في حديثه لفنك: “لو بدرت أية إساءة من أي سوري مقيم في لبنان، فإن النظرة ستشملنا كلنا. وقد تتطور الأمور لتصل إلى مستوياتٍ خطرة جداً. والحل الوحيد، حسب رأي المواطن اللبناني، هو عودتنا إلى بلادنا”.
وهذا ما أكدته المحامية ن. د في حديثها لفنك. وقالت إن اللاجئ، وإن كان طفلاً، يحمل في نظر غالبية المجتمع اللبناني ذنب الآباء والأجداد، واحتمالية أن سيصير جندياً ضد هذه البلاد، إن حدث لها أي مكروه.
وأضافت: “يدفع اللاجئ السوري اليوم ثمن ما قام به الجيش السوري في لبنان. فهذا الجيش دخل البلاد كقوة ردع، وساهم، حسب نظرة المجتمع، في زيادة الطين بلة، خصوصاً فيما يتعلق بملف المفقودين”. وأكملت: “العلاقة بين السوري واللبناني معقدة الطابع، وتحتاج إلى حل مشترك”.
النسوية والنساء
للحركة النسوية وجهة نظرٍ مختلفة قليلاً. ويرى مناصرو النسوية أن النساء هن أكثر المتضررين من الحرب، لا سيما أن الحرب، وبعد نهايتها، تركت على كاهل المرأة عبء الحفاظ على العائلة في غياب الرجل. كما يؤمن هؤلاء بأن المرأة تحملت ومسؤولية إعادة ترميم النسيج الاجتماعي الممزق حديثاً.
وفي هذا السياق، قالت الناشطة المجتمعية سارة ح لفنك: “لعبت النساء دوراً مهماً على المستوى السياسي والحقوقي في تلك الفترة. وحاولت النساء تنظيم تحركات شعبية تدعو إلى وقف الحرب اللبنانية”.
وأضافت: “إن الدور الأساسي الذي لعبته النساء هو رفض الحرب الأهلية والاقتتال، ومحاولتهن عبر شتى الوسائل الوقوف في وجهها. وكان ذلك من خلال التظاهرات، أو عبر نشاطهن السياسي والاجتماعي، أو حتى من خلال كتاباتهن”.
ويبقى المجتمع، وفقاً لسارة، ذكورياً حتى في هذا الأمر، فهناك “الشهداء الرجال” والقادة: بشير الجميل، وميشال عون، وسمير جعجع، ووليد جنبلاط، ونبيه بري، وقادة حزب الله، وقادة المحاور… وتقول سارة: “هم حصراً من الرجال. أما دور المرأة فقد انحصر، كما تناقلته وتنقله وسائل الإعلام، في الأمهات حاملات صور أبنائهن المفقودين؛ الثكالى النائحات في شوارع بيروت والهاربات من القصف والدمار”.
خلفية عن الحرب
بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في 13 إبريل 1975. ففي ذلك اليوم المشؤوم، انطلقت شرارتها الأولى واندلع القتال في بيروت وامتد ليشمل معظم المناطق اللبنانية.
ولم يتوقف القتال نهائياً إلا في أواخر سنة 1990، عقب توافق النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية على وقف الحرب. وعرف هذا الاتفاق باتفاق الطائف.
ومع امتداد الحرب لما يزيد عن 15 سنة، فقد أدى ذلك إلى تقويض حلم اللبنانيين بجعل بلدهم “سويسرا الشرق الأوسط”.
وكان اللبنانيون عملوا على تحقيق هذا الحلم على مدار عقدين من الزمن قبل نشوب الحرب الأهلية.
وقد كان الواقع اللبناني قبل عام 1975 مؤهلًا لنشوب حرب أهلية كبيرة. ومن الأسباب التي قادت للحرب انتشار الفقر والعوز، وتدهور الأحوال المعيشية للسكان، والانقسامات الطائفية والسياسية التي شقت صف اللبنانيين.
وازدادت هذه الانقسامات مع بداية شن الفلسطينيين هجمات ضد القوات الإسرائيلية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية.
أما السبب الرئيسي والمتعارف عليه، فيعود إلى إطلاق عناصر من الكتائب النار على حافلة تقل فلسطينيين في منطقة عين الرمانة في بيروت، كانت متجهة نحو مخيم تل الزعتر.
وجاء ذلك رداً على محاولة اغتيال زعيمهم بيير الجميل التي قام بها مجهولون. وبعد ذلك، انجذبت كل الطوائف والطبقات اللبنانية إلى الصراع، إما كمشاركين أو كضحايا.
اتفاق الطائف
عقد مؤتمر الطائف عام 1989 بحضور 62 نائباً لبنانياً. وكان هؤلاء يُمثلون الأحزاب الرئيسية المُتقاتلة: حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، القوات اللبنانية وحزب الكتائب.
ووقع المجتمعون على وثيقة اتفاق الطائف التي أنهت الحرب الأهلية اللبنانية. وانتخب مجلس النواب رينيه معوض رئيساً للجمهورية الذي قُتل بعد انتخابه بـ 16 يوماً وخلفه إلياس الهراوي.
وفي مارس 1991، صدر قانون العفو عن كل الجرائم التي حصلت منذ 1975. وبهذا، انتهت الحرب رسمياً بين الفصائل المتقاتلة. وبعدها، حُلت جميع الميليشيات وبدأت عملية بناء الجيش اللبناني كجيش وطني غير طائفي.
نتائج الحرب
أخطر النتائج التي ترتبت على الحرب الأهلية ما تزال آثارها واضحة إلى يومنا هذا. ومن هذه النتائج التهجير والتشريد وتوزيع السكان على المناطق والمدن بحسب الانتماء الديني والطائفي.
وقُدر عدد ضحايا الحرب بأكثر من 150 ألف قتيل و300 ألف جريح و17 ألف مفقود. وأدت الحرب الأهلية إلى تهجير ما يزيد عن مليون نسمة من البلدات والقرى المسيحية والإسلامية على حد سواء.
كما تم تكريس معادلة اقتسام السلطة على أساس المحاصصة الطائفية. وتوزعت المناصب الرئيسية، بعدها وبعد “اتفاق الطائف”، بين المكونات الأساسية الثلاثة: المسيحيون والسنة والشيعة.
هذا غير خسائر الحرب المباشرة، التي أصابت رأس المال الإنشائي والتجهيزي في القطاعين العام والخاص وقدرت بمليارات الدولارات.