تحليل أوروبي: الوهن الشديد يعتري الحركة النقابية العربية
خلص تحليل أوروبي إلى أن الحركة النقابية العربية أدت أدوارًا تاريخية لكن أخذ وهجها بالأفول شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى مرحلة الوهن الشديد التي نشهدها اليوم.
وذكر التحليل الصادر عن مؤسسة “فنك” الأوروبية، أنه بخلاف حالها اليوم، أدت الحركة النقابية في المنطقة العربية أدوارًا تاريخية تتجاوز النطاق المطلبي والنقابي البحت، لتؤثر على المشهد السياسي العام في العديد من بلدان المنطقة.
فمنذ نشأتها في النصف الأول من القرن الماضي، تلقت الحركة النقابية في الدول العربية زخمًا مميزًا في مرحلتي الاستعمار وما بعد الاستقلال، وخصوصًا مع انتشار الأفكار القومية واليسارية، وغيرها من الإيديولوجيات التي شجعت على الانتظام النقابي والعمالي.
تطور الإنتاج الصناعي ساهم في هذه الطفرة النقابية، وتوسع العمل المأجور في ضواحي المدن الفقيرة، بالإضافة إلى انتشار مفاهيم الحقوق العمالية والأجر اللائق، وغيرها من عناوين النضال النقابي.
وفي تلك المرحلة، كان من الممكن رصد هذا المسار النقابي في كل من لبنان وفلسطين وتونس والجزائر وسوريا ومصر وغيرها من الدول العربية.
لا بل وكان من الممكن رصد تطور الحركة النقابية أيضًا في العديد من الدول الخليجية العربية، وخصوصًا في قطاع الصناعة النفطية.
تدريجيًا، أخذ وهج الحركة النقابية العربية بالأفول شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى مرحلة الوهن الشديد التي نشهدها اليوم.
وجاءت هذه التطورات مدفوعة بمجموعة من العوامل السياسية، مثل ضيق مساحات الحريات العامة في الغالبية الساحقة من الدول العربية، أو تفشي التصدعات المجتمعية على أساس طائفي أو عرقي، أو حتى الصراعات العسكرية والحروب الأهلية.
كما دفعت بالاتجاه عينه بعض العوامل الاقتصادية، مثل ضمور القطاعات الإنتاجية الكبرى، التي لطالما مثلت الحاضنة الأساس للتكتلات العمالية الوازنة.
نهضة الحركة النقابية العربية خلال القرن الماضي
ابتداءً من النصف الأول من القرن العشرين، طرأت تحولات كبيرة في البنية الاجتماعية ونمط الإنتاج، بالإضافة إلى الحياة السياسية والمناخات الفكرية، في الدول العربية، وهو ما ساهم بإطلاق العنان لنشاط النقابات العمالية ونقابات المهن الحرة في هذه الدول.
في سوريا ولبنان، وقبل سنوات عديدة من نيل البلدان استقلالهما، بدأت تتشكل قاعدة عمالية واسعة من العاملين في مصانع الغزل والنسيج والتبغ، بالاستفادة من تنامي النشاط الصناعي في هذه القطاعات.
ولهذا السبب، بدأت تتشكل سريعًا فئة من العمال المهاجرين من القرى، باتجاه ضواحي المدن، التي ازدهرت فيها فرص العمل الصناعية.
إلا أن هذه التحولات المجتمعية خلقت بدورها أحزمة من البؤس والفقر في هذه الضواحي، كما خلقت ألوانًا شتى من الحرمان الذي عانى منه العمال في هذه القطاعات الصناعية، وخصوصًا على مستوى الأجر والإجازات والمساعدات المرضية ومعايير السلامة في مكان العمل وغيرها.
بمعنى أوضح، جاء هذا النمو الصناعي على حساب تزايد عدم المساواة في المجتمع، واتساع الفجوات ما بين الطبقات المختلفة، كما أشارت الدراسات في ذلك الوقت.
في الحقبة الزمنية نفسها، كانت الشرائح الاجتماعية العمالية في لبنان وسوريا تتعرض بشكل متزايد للنشاط السياسي، الذي قادته مجموعة من القوى السياسية المتأثرة بالأفكار اليسارية والاشتراكية والقومية.
وهكذا، تقاطعت عوامل الحرمان والمطالب الاجتماعية مع الدعاية السياسية، التي كانت تدفع العمال لتأسيس نقابات قادرة تنظيم عملهم المطلبي والسياسي.
ومن هذه الزاوية مثلًا، يمكن فهم الدور الذي لعبه “حزب الشعب اللبناني” (والذي تحول لاحقًا إلى “الحزب الشيوعي اللبناني”) في تأسيس “الاتحاد العام لعمال التبغ” عام 1924 و”الاتحاد العام لنقابات العمال والمستخدمين” عام 1944، وغيرها من النقابات والاتحادات النقابية.
ومع الوقت، بدأت الحركة النقابية في لبنان وسوريا بلعب العديد من الأدوار البارزة، سواء على مستوى مناوأة الاستعمار الفرنسي قبل استقلال البلدين، أو على مستوى تنظيم الإضرابات والمظاهرات في وجه الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال.
وبالفعل، تمكنت الحركة النقابية في البلدين من تحقيق بعض المكتسبات للطبقة العاملة، مثل إقرار قانون العمل في لبنان سنة 1946، وفي سوريا عام 1959، وتأسيس صندوق الإعانة الاجتماعية في لبنان عام 1942، ونظام الضمان الاجتماعي لأجراء الصناعة والتجارة والمهن عام 1959.
مع الإشارة إلى أن التنظيمات اليسارية، الداعمة للحركة النقابية وقتها، استفادت من دعم الاتحاد السوفياتي، على المستويات السياسية والمالية والإيديولوجية.
في فلسطين، اتسعت القاعدة العمالية الصناعية جراء تشجيع الانتداب البريطاني الفلسطينيين على ترك العمل في الزراعة، والانتقال إلى العمل المأجور، وخصوصًا في الموانئ ومشاريع البنية التحتية والسكك الحديدية، التي قامت بريطانيا بتشييدها لخدمة مصالحها.
وهذا ما يفسر انطلاق العمل النقابي الفلسطيني من “نقابة عمال سكك الحديد”، قبل تأسيس جمعية العمال العرب الفلسطينية عام 1925.
وفي وقت لاحق، فرضت التطورات السياسية انخراط النقابات الفلسطينية في العمل ضد الاستعمار البريطاني والنشاط الاستيطاني الصهيوني، بدل التركيز على القضايا المطلبية التقليدية. بهذا المعنى، كان على النقابات الفلسطينية تغليب العمل السياسي على الأولويات العمالية الفئوية.
هكذا، وعلى النحو عينيه، تأثرت انطلاقة الحركة النقابية في كل بلد عربي –خلال القرن الماضي- بطبيعة المناخات السياسية وأنماط الإنتاج الموجودة.
ففي البحرين والكويت والعراق برزت النقابات العمالية بشكل لافت في قطاع النفط، مع توسع التوظيف في هذا القطاع، لتسهم النقابات هناك في تحقيق مكتسبات مهمة على مستوى شروط وظروف العمل.
أما في حالة الجزائر، فقد نشأت الحركة النقابية للمرة الأولى بشكل مستقل عن النقابات الفرنسية عام 1956، قبل أن تنخرط سريعًا في أعمال مقاومة الاستعمار الفرنسي للبلاد.
وبهذا الشكل، كانت انطلاقة الحركة النقابية مرتبطة بشكل وثيق بالحراك السياسي الدائر، سعيًا للاستقلال، عوضًا من أن ترتبط بتحولات ذات طابع اقتصادي أو اجتماعي.
مع العلم أن النقابات الجزائرية كانت مرتبطة قبل العام 1956 بالكونفيدرالية العامة للعمل الفرنسية، ما أقصى الكوادر المحلية عن مراكز قيادتها.
وهذا ما يفسر تصدي الحركة النقابية الجزائرية لاستقلالية البلاد كمطلب رئيس، قبل التطرق للهموم المطلبية والنقابية.
وتمامًا كحال الجزائر، انطلقت الحركة النقابية التونسية من هم الانفصال عن المنظمات النقابية الفرنسية، عبر إطلاق “جامعة عموم العملة التونسية” عام 1924، ثم إطلاق الاتحاد التونسي للشغل عام 1946.
وفي حالة تونس، عملت الحركة النقابية لتحقيق سياسية تُعنى بيوميات الشأن العام، من بوابة السعي لتقليص التفاوتات الاجتماعية، ومنها تلك التي يمارسها المُستعمر الفرنسي بحق العمال التونسيين.
وبهذا الشكل، باتت الحركة النقابية التونسية معنية بمقاومة الاستعمار أولًا، وبالتأسيس لعمل سياسي يفاوض السلطة دفاعًا عن مصالح العمال التونسيين ثانيًا.
وحتى هذه اللحظة، مازال الاتحاد التونسي يتمسك بدوره السياسي المؤثر في تونس، ما يميزه عن سائر الاتحادات النقابية العربية.
أفول الحركة النقابية العربية: عوامل سياسية واقتصادية
أكثر من أي وقت مضى، تشهد المنطقة العربية اليوم أفولًا في دور المنظمات النقابية، وفي تأثيرها على مستوى الحياة السياسية العامة.
وأسباب هذا التحول، تنوعت ما بين العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن بعض التبدلات في آراء وأهواء النخب الفكرية في الدول العربية.
فالعديد من الأنظمة العربية سعت خلال العقود الماضية إلى تحويل النقابات العمالية إلى امتدادات سياسية للأحزاب الحاكمة، تمامًا كما حصل في العراق وسوريا خلال حكم حزب البعث، وفي مصر خلال مختلف الحقبات التي تلت إلغاء حكم الملكية عام 1952.
وبهذا الشكل، فقدت الكثير من النقابات استقلاليتها وقدرتها على المواجهة، بل وفقدت أولوية الدفاع عن مصالح أعضائها في مقابل السياسات الحكومية.
وفي بعض الحالات، كما حصل في سوريا بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة، تحولت النقابات إلى أداة لترويج سياسات مناوئة لمصالح الفئة العمالية بالتحديد.
وفي حالة سوريا أيضًا، بعد اندلاع الحرب الأهلية الأخيرة، بات انقسام البلاد عسكريًا يحول دون تكون حركة نقابية منسجمة، وعابرة للمناطق السورية.
في المقابل، عانت النقابات في لبنان من الشرخ المجتمعي الذي حصل خلال الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، ثم عانت من سطوة الأحزاب الطائفية على هذه النقابات بعد العام 1990، ما حول النقابات إلى جزء من الاستقطاب الطائفي الحاصل في البلاد، بدل أن تحمل أولويات خاصة بها.
وبعد حصول الانهيار الاقتصادي عام 2019، فقدت النقابات العمالية ونقابات المهن الحرة مدخراتها في المصارف اللبنانية، ما جعلها عاجزة عن تغطية تعويضات الاستشفاء ونهاية الخدمة والأمومة، التي اعتادت على تقديمها في الماضي من اشتراكات الأعضاء.
وفي الوقت عينيه، عانت الكثير من الدول العربية، -مثل لبنان وتونس وسوريا-، من تراجع نشاط قطاعاتها الانتاجية الأساسية، وخصوصًا القطاعات الصناعية والزراعية.
وهذا ما أفقد الحركة النقابية جزءًا أساسيًا من القاعدة العمالية، القادرة على التكتل لحماية مصالحها ومكتسباتها.
وللتأكيد على عمق هذه الأزمة، يشير المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية إلى أن منطقة الدول العربية باتت اليوم الأسوأ على الصعيد العالمي، من حيث نمو إنتاجية هذه القطاعات، بحسب بيانات إنتاجية العمل منذ الخمسينات وحتى اليوم.
كل هذه التحولات، تزامنت مع نمو أنماط جديدة من العمل المأجور، كتلك القائمة على تقديم الخدمات عن بُعد، أو العمل بموجب عقود مؤقتة، أو عمل الأفراد لحسابهم الخاص مع أكثر من طرف.
وبهذه التحولات، فقدت النقابات مجددًا جزءًا من التجمعات العمالية، التي اعتادت على التكتل في أماكن عمل مركزية، كالمصانع والشركات الكبرى.
وهذا النوع من التحولات، أعطى الشركات الكبرى قوة تفاوضية أكبر، عند التعامل مع العمال المستقلين، وغير المنظمين في تكتلات نقابية وازنة.
وتزامنت هذه التحولات الاقتصادية مع تحولات فكرية، جراء ابتعاد النخب عن الكثير من الإيديولوجيات التي انتشرت خلال القرن الماضي، وخصوصًا التيارات الاشتراكية والقومية، التي اعتادت على تشجيع الانتظام النقابي.
وبذلك، فقدت الحركة النقابية جزءًا من الزخم السياسي الداعم لها، والذي ساهم في النصف الأول من القرن الماضي في تأسيس الكثير من النقابات والاتحادات النقابية في بلدان عربية عدة.
في خلاصة الأمر، من الواضح أن العديد من التحديات باتت تحول دون تنشيط الحركة النقابية العربية، بالأنماط والأشكال عينيها التي نشطت من خلالها في الماضي.
وهذا ما يفرض على الحركة النقابية العربية البحث عن وسائل جديدة، للتغلب على العوائق السياسية والاقتصادية التي تمنع توسعها.
أما غياب الحركة النقابية عن الساحة كليًا، كما هو الحال الآن في الغالبية الساحقة من الدول العربية، فسيعني تهميش قضايا محدودي الدخل وأولوياتهم، والابتعاد عن تناول هذه القضايا في الخطط والسياسات الحكومية.