قراءة في أهمية مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا
من المفترض أن تنعقد في شهر حزيران/يونيو 2024 سلسلة من الاجتماعات التي تجمع الخبراء المغاربة والإسبان، ضمن اللّجنة المشتركة المخصّصة لدراسة مشروع الربط القاري، الذي سيوصل شمال أفريقيا بغرب أوروبا، عبر مضيق جبل طارق.
وبحسب مؤسسة “فنك” الأوروبية فإنه في تلك الاجتماعات، سيتم عرض خطّة عمل مفصّلة للفترة الممتدة بين عامي 2024 و2026، في محاولة لإنجاز المشروع قبل تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2030، والتي ستتشارك استضافتها المغرب والبرتغال وإسبانيا.
وذكرت المؤسسة أن خطّة العمل للأعوام الثلاثة المقبلة، جرى إعدادها من قبل شركتين حكوميّتين تمَّ تأسيسهما في المغرب وإسبانيا لهذا المشروع بشكلٍ خاص.
وبحسب المعطيات التي أعلنت عنها الشركة الوطنية لدراسة مضيق جبل طارق بالمغرب، ستشمل هذه الخطّة إجراءات لدراسة التشكيلات الجيولوجيّة السفليّة للأرض، وهو ما سيُحدّد مسار النفق المقترح بين ضفّتي المضيق.
كما ستُطلق هذه الخطّة دراسات لتحديد الأثر البيئي والاقتصادي والاجتماعي للمشروع، بالتعاون مع المؤسسات الأكاديميّة والتقنيّة ذات الخبرة في هذا المجال.
تاريخ الفكرة وتطوّرها منذ العام 1979
من الجدير الإشارة أولًا إلى أن فكرة الربط القارّي ما بين إسبانيا والمغرب لم تكن فكرة جديدة جرى طرحها مؤخّرًا.
بل إنّ هذه الفكرة ظلّت تثير حماسة المسؤولين في البلدين على مدى أكثر من 45 عامًا، دون أن يبصر المشروع النور بالفعل.
ويمكن العثور على أولى المحادثات الرسميّة الجديّة التي تناولت المسألة، في لقاء الملك المغربي الراحل الحسن الثاني بالعاهل الإسباني خوان كارلوس الأوّل، في 16 يونيو/حزيران 1979.
بعد أشهر قليلة من ذلك اللّقاء، وبناءً على حماسة القيادات المغربيّة والإسبانيّة، تم تأسيس شركتين عامّتين في المغرب وإسبانيا، لبدء العمل بدراسات الجدوى الاقتصاديّة المتعلّقة بالمشروع.
وخلال العام عينيه، تم توقيع اتفاقيّة التعاون العلمي والتقني بين البلدين، لتكون الإطار القانوني الناظم لهذا المشروع.
ونصّت الاتفاقيّة يومها على مطابقة وتبادل الدراسات التقنيّة التي يجريها كل من الطرفين، وذلك لتسهيل اتخاذ القرارات المتعلّقة بالمشروع في مرحلة لاحقة.
على مدى السنوات التالية، وضعت الخطط المتعاقبة جميع الخيارات المتاحة لإقامة الربط القاري، ومنها على سبيل المثال إقامة جسر على دعامات عائمة، أو جسر على دعامات ثابتة.
غير أن تلك الأفكار أثارت خشية البلدين من احتمالات إعاقة حركة البواخر، أو التسبب بحوادث بحريّة، في منطقة تتسم باكتظاظ حركة الشحن البحري. ولهذا السبب، جرى إقصاء جميع تلك المقترحات، لمصلحة فكرة النفق المحفور تحت المياه.
وبحسب الدراسات التي جرى إعدادها منذ تلك الفترة، سيستلزم مشروع الربط حفر نفق بمسافة 27.6 كليو متر، معظمه تحت المياه. وهذا ما سيسمح بالوصول من مدينة بونتا بالوما الإسبانيّة إلى منطقة مالاباتا في شمال المغرب، خلال فترة تصل إلى نحو نصف ساعة.
مع الإشارة إلى أنّ المشروع لاحظ إنشاء خطوط منفصلة لقطارات الشحن ونقل الأفراد، بالإضافة إلى مسارات مخصّصة لعبور الشاحنات والسيّارات. وقد قدّرت الدراسات أن تصل كلفة المشروع إلى 10 مليار دولار أميركي، وهو ما يوازي ثلثي كلفة نفق “المانش” التي بلغت حدود الـ 15 مليار دولار.
الأزمات السياسيّة تفرمل المشروع لـ 45 سنة
لفهم التعقيدات السياسيّة التي أحاطت بالمشروع طوال السنوات الـ 45 الماضية، تكفي العودة إلى المد والجزر الذي حكم العلاقات الإسبانيّة المغربيّة، والتي لطالما اتسمت بالشكوك والهواجس المتبادلة.
إذ كما هو معلوم، يحتاج تنفيذ هذا النوع من المشاريع العملاقة إلى حدٍ أدنى من الاستقرار في العلاقات السياسيّة بين الدول، لتطمين الشركات الخاصّة التي يمكن أن تشارك في الاستثمار لاحقًا.
ولهذا السبب، وعلى الرغم من تأسيس الشركتين الحكوميتين، وحتّى بعد إنجاز دراسات الجدوى الاقتصاديّة، لم يشهد هذا المشروع أي تقدّم يُذكر منذ العام 1979.
ومن الناحية العمليّة، ولم تتم طي صفحة المشروع أو غض النظر عنه، لكنّ السلطات المغربيّة والإسبانيّة امتنعت عن القيام بالخطوات المطلوبة لتنفيذه.
أولى أسباب الخلافات المتكرّرة بين الطرفين، تتمثّل في الخلافات الحدوديّة بينهما، في منطقة تتسم جزرها ومياهها البحريّة بحساسيّة خاصّة على مستوى خطوط الشحن البحري.
وفي العام 2002، وصلت هذه الخلافات إلى حد المواجهة العسكريّة المباشرة، حين قام الجيش المغربي بإنزال في جزيرة ليلى المتنازع عليها، لرفع العلم المغربي على الجزيرة.
يومها، قامت إسبانيا بإنزال مضاد، مدعوم بقوّات بحريّة كبيرة، وهو ما أدّى إلى اعتقال الجنود المغاربة قبل تسليمهم إلى سلطات بلدهم لاحقًا.
ولولا التدخّل المباشر من جانب الولايات المتحدة، كان من الممكن أن تتصاعد الأحداث إلى مواجهة عسكريّة أكبر.
إلى جانب هذا الملف، لطالما اشتكى المغرب من عدم توازن الموقف الإسباني بخصوص ملف الصحراء الغربيّة.
وبصورة أوضح، كانت السلطات المغربيّة –قبل العام 2022- تستشعر وجود دعم مبطّن من جانب إسبانيا للانفصاليين في الصحراء الغربيّة، وخصوصًا في مرحلة ترؤّس إسبانيا لمجلس الأمن الدولي عام 2003.
وخلال العام 2021، بلغ التصعيد المتبادل حدود سحب السفير المغربي من مدريد لمدّة سنة، بعد استضافة السلطات الإسبانيّة لأبرز الزعماء الانفصاليين في منطقة الصحراء الغربيّة.
رد المغرب بمنح حق اللّجوء السياسي للزعيم السابق لإقليم كاتالونيا كارليس بويجديمون، المُلاحق من قبل القضاء الأسباني بعد محاولته الانفصاليّة عام 2017.
ولم تخمد نار الخلافات بين إسبانيا والمغرب، حول ملف الصحراء الغربيّة، إلا بعد العام 2022، حين تبنّت إسبانيا رسميًا “المبادرة المغربية للحكم الذاتي”، التي طرحتها الرباط كأساس واقعي لتسوية نزاعها مع الانفصاليين في الصحراء الغربيّة.
على هامش كل هذه القضايا، ظلّت إسبانيا تتوجّس من ملف الهجرة غير الشرعيّة والتهريب عبر الحدود، بل ولطالما اعتبرت علنًا أن السلطات المغربيّة تستعمل هذا الملف لابتزازها، عبر تسهيل اختراق الحدود.
وفي واقع الأمر، كانت إسبانيا تجد أنّ المغرب يستخدم هذا الملف للضغط على مدريد، بهدف تحصيل مكاسب سياسيّة في ملفّات أخرى مثل الخلافات الحدوديّة أو السيادة على الصحراء الغربيّة.
أمام كل هذه الخلافات، التي طالت الوضع الأمني على الحدود والعلاقات الدبلوماسيّة، كان من الطبيعي أن يتم تعليق مشروع إستراتيجي وضخم بحجم الربط القارّي بين البلدين، طوال الأعوام الـ 45 الماضية. غير أن مجموعة من المصالح السياسيّة والاقتصاديّة دفعت البلدين لإعادة إنعاش هذا المشروع مؤخرًا.
إعادة إحياء المشروع
اجتمعت العديد من المصالح المحليّة والإقليميّة، لتعيد طرح وتفعيل المشروع من جديد مؤخرًا.
أبرز الجهات التي بدت مهتمّة مؤخّرًا بهذا المشروع كانت المفوضيّة العامّة للاتحاد الأوروبي، التي قدّمت عام 2023 كامل التمويل المطلوب لإعادة دراسة المشروع، وصياغة دراسات الجدوى الكفيلة بتفعيله.
وهذا ما سمح بتحضير الخطّة العامّة التي سيتم طرحها خلال العام 2024، عند انعقاد اللّجنة المشتركة التي تدير المشروع.
ثمّة مصلحة واضحة للدول الأوروبيّة في هذا المشروع، الذي سيسمح باستفادة الصناعات الأوروبيّة من سلاسل التوريد الصناعيّة الموجودة في المغرب، والتي شهدت نموًا كبيرًا خلال الأعوام الماضية.
فخلال الفترة الماضية، توسّع المغرب إلى حدٍ كبيرٍ في إنتاج الواردات والقطع الرئيسة، التي تدخل في صناعة السيارات والإلكترونيّات، بالاستفادة من الخطط الحكوميّة المتجهة إلى دعم البنية التحتيّة الصناعيّة.
وبهذا الشكل، سيسمح المشروع بتخفيض كلفة شحن هذه الواردات، باتجاه المصانع الأوروبيّة.
وسيتكامل هذا الربط القارّي مع جهود الدول الأوروبيّة الرامية إلى تخفيض مخاطر اعتمادها على الصين، وخصوصًا في مجال سلاسل التوريد الصناعيّة.
وفي الوقت عينيه، سيسمح المشروع بتخفيض كلفة تصدير الصناعات الأوروبيّة باتجاه السوق الأفريقي، وفي الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا إلى مزاحمة نفوذ الدول الأوروبيّة في تلك القارّة.
وبطبيعة الحال، ازدادت أهميّة هذا الربط القارّي مع المبادرات التي قام بها المغرب، لربط بنيته التحتيّة في مجال الشحن والنقل بسائر الدول الأفريقيّة. وهذا ما سيسمح لدول الاتحاد الأوروبي بالاستفادة من المشروع، لبلوغ سائر الأسواق الأفريقيّة عبر المغرب.
من ناحيتها، يرى المغرب في المشروع استكمالًا لمشاريعه التي تستهدف خلق قطاع صناعي قوي، بالاعتماد على موقع البلاد الإستراتيجي بين أفريقيا وأوروبا، وعلى الضفّة الشرقيّة للمحيط الأطلسي.
وكانت الدراسات التي أعدتها السلطات المغربيّة قد توقّعت مضاعفة الاستثمارات في القطاع الصناعي لديها بنحو ثلاث مرّات، بحلول العام 2026، وهو ما يفرض البحث عن وسائل لتخفيض كلفة تصدير هذه الصناعات باتجاه السوق الأوروبي.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، شهدت العلاقات الإسبانيّة المغربيّة استقرارًا نسبيًا، مقارنة بالفترات السابقة، بعدما تبنّت إسبانيا موقفًا إيجابيًا اتجاه المغرب بخصوص قضيّة الصحراء الغربيّة.
وذلك ما عالج تلقائيًا العوائق المرتبطة باضطراب العلاقة بين البلدين، والتي حالت سابقًا دون استكمال المشروع.
أمّا الاستقرار السياسي الذي يشهده المغرب، مقارنة بالكثير من الدول العربيّة والأفريقيّة، فيمثّل عاملًا جاذبًا للاستثمارات الأجنبيّة، وهو ما يشجّع إسبانيا على تفعيل المشروع المعلّق.
لكل هذه الأسباب، بات هناك ما يكفي من زخم مغربي وأوروبي يدفع باتجاه تفعيل المشروع. وبينما يستعد المغرب لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2030، بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، باتت هذه المناسبة محطّة يمكن الرهان عليها لإطلاق المشروع بعد إنجازه.
وهذا ما ينسجم مع الخطط المغربيّة القائمة بالفعل، والتي تسعى للاستفادة من “مونديال 2030” لتطوير البنية التحتيّة المحليّة وتجديدها، تمامًا كما فعلت قطر سابقًا، مع فارق القدرة التمويليّة.
أخيرًا، من المرجّح أن تضع إسبانيا –ومعها الاتحاد الأوروبي- بعض الشروط المتصلة بمكافحة التهريب والهجرة غير الشرعيّة، على المغرب، قبل المضي قدمًا بتنفيذ المشروع الطموح. إذ يبدو من الواضح أنّ ثمّة تدابير يسهل اتخاذها، لضبط مداخل ومخارج النفق ومنع هذه الظواهر، بعد إنجاز المشروع.
إلا أنّ إسبانيا ستسعى حتمًا إلى تحقيق بعض المكاسب المتصلة بأمن الحدود، قبل الموافقة على مشروع مشترك وضخم من هذا النوع. وهذا ما قد يمثّل إحدى النقاط التي سيكون على المغرب معالجتها، قبل تنفيذ الفكرة خلال السنوات المقبلة.