عندما سقطت أخلاقيات الإعلام البريطاني في الحرب على العراق
لم تشهد حرب في العصر الحديث انحداراً أخلاقياً في أخلاقيات الإعلام كالحرب التي شنتها واشنطن ولندن ضد العراق عام 2003، وانتهت باحتلاله وتدميره وإسقاط بناه المدنية والعسكرية والاجتماعية.
فقد روّجت أغلب وسائل الإعلام الغربية مع المتضرّرين من حكم صدّام حسين ومنظومته الحزبية للعراق، سواء كانوا من دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية للحرب على اعتبار أنها حرب “تحرير للعراقيين”، وأيضاً “إنقاذ للعالم” من خطر امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.
ورغم أن المجتمعات، البريطاني والأميركي والعربي، كانت ضد هذه الحرب، وشهدت معظم عواصم العالم مسيرات ومظاهرات جماهيرية وإعلامية ضد التجهيز للحرب، إلا أن المشروع المخطّط له مضى.
وتم تنفيذ الغزو وإعلان الولايات المتحدة رسمياً أن العراق بات دولةً “محتلة”، وسط تصاعد الرفض الجماهيري، خصوصاً أن تجاوزات كثيرة في مجال حقوق الإنسان ارتُكبت بحق مدنيين عراقيين والبنى التحتية للبلاد.
أعاد نشر تحقيق تشيلكوت عام 2016، والذي أظهر، بشكل واضح، تواطؤ توني بلير مع الولايات المتحدة في تسويق الحرب على العراق 2003، وتمرير قصصٍ كاذبة على مجلس النواب البريطاني وغالبية وسائل الإعلام من أجل الموافقة على شنّ الحرب التي ساهمت بها بريطانيا بجهد عسكري مصاحب للجهد الأميركي، كما أظهر التقرير الدور الذي لعبته بريطانيا في الحرب.
وجاء بالتفصيل، في تقرير مطول، على المعلومات الاستخبارية الخاطئة والأسس القانونية المشكوك فيها التي استند إليها غزو العراق.
ومع هذه الانتقادات، لم تتطور حالة الإعلام البريطاني بشكل عام إلى تناول حقائق كانت تعلمها عن الأفكار المتعلقة بغزو العراق وعن دور هذه الوسائل أخلاقياً وإنسانياً في الدفاع عن أكاذيب توني بلير وجورج دبليو بوش.
تصرّفت وسائل إعلام بريطانية عديدة في موضوع دور رئيس الوزراء الأسبق في المملكة المتحدة، توني بلير، بناء على اعتبارات عُدّت في وقتها انتكاسة كبيرة لأسماء تمثل مدارس إعلامية دولية.
فقد تبنّت هذه الوسائل رؤى أخلاقية تُظهر رغبة لندن في تخليص الشعب العراقي وتحريره من زعيم “سفاح” و”جلاد”، وجلب الديمقراطية إلى بلدٍ سئم من حكم الديكتاتوريات العسكرية منذ عام 1958.
من أجل هذا، جرى إظهار توني بلير واحدا من فرسان العصور الوسطى الذي يسعى إلى تحرير المضطهدين من دون مآرب أخرى.
وقد مضى بلير في هذا التوجّه المخادع من خلال تركيزه على صفات النظام الديكتاتوري في العراق، وخصوصا رئيسه صدّام حسين، فتارةً يصفه بأنه “يتعارض مع كل مبدأ أو قيمة يؤمن بها أي شخصٍ في سياستنا”.
وتارّةً أخرى بأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، يمكنها أن تضرب لندن خلال 45 دقيقة، ثم توج ادّعاءاته وكذبه على الشعب البريطاني من خلال توافقه مع إدارة جورج دبليو بوش وإطلاق اسم “حرية العراق” على العملية العسكرية التي بدأت قبل عشرين عاماً باعتبارها عملية تخليص للشعب العراقي من قاتله وقيود الديكتاتورية.
لقد ساهمت وسائل إعلام بريطانية – أميركية كثيرة في إنتاج تصوّرات خطيرة لدى شعوبهم أولاً، ثم شعوب العالم التي كانت تحبس أنفاسها تحسّباً من هذه الحرب، في حين أظهرت هذه الوسائل عملية الغزو غير القانوني والمبني على أكاذيب ومغالطات بأنه “واجب أخلاقي” تقوم به واشنطن ولندن مع بقية الحلفاء تجاه العراق أولاً، ثم الشرق الأوسط ثانياً.
مسؤولية الإعلام البريطاني هي تجاه شعب المملكة المتحدة أولاً؛ إذ حشدت منابره من أجل إحداث “قلوب” البريطانيين و”عقولهم” من دون اعتبار لتاريخ الديمقراطية والعدالة، المتمثل بصيغة الحكم القائم في البلاد.
وعلى ذلك، بات تشكيل الرأي لدى عامة الناس يردّد ما تتناوله الصحف البريطانية، وما يقوله رئيس الوزراء بشأن العراق، ولم يستمع أحد إلى تحذير الحكومة العراقية إن الترويج الأميركي – البريطاني للحرب عليه بلا أي مبرّر أخلاقي أو تسليحي.
وترى الباحثة أوليفيا نودين، من جامعة إكستر البريطانية، أن الهدف كان “بناء حالة أخلاقية لغزو العراق من شأنها إقناع عامة الناس.
وقد جادلت منشوراتٌ عديدة بأن نظام الرئيس صدّام حسين قد حظر منذ فترة طويلة “الاستقلال والحرية والعدالة” للمدنيين العراقيين العاديين، وصبغ قضية بلير من زاوية إنسانية. هذا الخطاب، إلى جانب الضغط الذي يمارسه بلير، شدّد على الإيمان العام بالحاجة الملحة للحرب”.
ليست الصحف اليمينية هي من تورّطت فقط بالترويج، بل حتى الموصوفة أنها يسارية التوجّه، مثل صحيفة الغارديان التي لم تكتف بترويج حجج توني بلير، بل سعت أيضا إلى إظهار الحجج المناهضة للحرب بشكل ضعيف، ولا يكفي لدحض قرار الذهاب إلى الحرب.
كما نشرت مقالات ركّزت على دموية صدّام حسين وعدائه للقيم الغربية وتشكيله تهديدًا قابلاً للتطبيق على العالم ومواطنيه، وكانت المقالة التي حملت عنوان “لماذا يجب أن نذهب إلى الحرب” تمثل نموذجاً واضحاً على مدى دعم الصحيفة غزو بلير العراق.
لم يعد لأخلاقيات الإعلام التي تدرّس في كل الكليات والأكاديميات المتخصّصة في العالم وجود في تجربة الحرب على العراق.
إذ لم تكتف الصحف والفضائيات البريطانية والأميركية والغربية عموماً بدعم أهداف بلير وبوش في هذه الحرب وتبنيها، رغم وقوع آلاف العراقيين المدنيين خلال السنتين الأوليين للحرب وما بعدها (2005 – 2004) الذين جرى تجاهلهم.
وتفيد الباحثة أوليفيا نودين بأن “صحفا مهمة، مثل صنداي بيزنس Sunday Business وThe Guardian، أبرزت عام 2004 أوجه تشابه بين صدّام حسين وأدولف هتلر، وكيف عرّض كل منهما الديمقراطية الليبرالية والقيم البريطانية للخطر، وهو ما دفع حكومة المملكة المتحدة إلى التدخّل كاستراتيجية وقائية واعتماد دور شرطي عالمي.
وهكذا، سيُظهر التدخل في العراق، مرّة أخرى، أن المملكة المتحدة هي القوة الأخلاقية للخير ضد الشر الدولي، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية.
أدّى البناء على المفاهيم الشعبية لسلوك بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية إلى تنشيط التوقعات القومية للبلاد، وتضخيم تطلعات الاستعمار الجديد”.
لقد ظهرت عورات الإعلام البريطاني بعد مرور عقدين بشكل قاطع؛ فقد ارتدت وسائل لمناهضة الحرب، وبدأت بوصف بلير بأوصاف ترتبط بالكذب وبالوحشية، وبدا موضوع أسلحة الدمار الشامل في مقالات الصحف تصفها بأنها “أسلحة الخداع الجماعي”.
لكن البريطانيين الذين كانوا على وعيٍ كامل بخطورة خطوة بلير مشاركة أميركا بغزو العراق يؤكّدون أن الوقت قد غادر هذه الصحف لقول الحقيقة التي كانت ناصعة كالشمس.
بل إنها لم تستثمر اعتراف بلير واعتذاره “لديّ شعور بقدر من الأسى والندم والاعتذار أكثر مما يمكن تصوّره عن الأخطاء التي ارتكبت في الإعداد لحرب تسبّبت في حدوث شرخٍ عميقٍ في المجتمع البريطاني”، بالشكل الذي يقود إلى محاسبته عما ارتكبه من جرائم بحق العراقيين والبريطانيين.
للكاتب/ فارس الخطاب