العراق بين جراح الماضي ودروس المستقبل من مهمة يونيتاد

على امتداد السنوات الأخيرة، مثّلت المقابر الجماعية في العراق مرآة دامية لذاكرة بلدٍ مثخن بالعنف. فمنذ عهد صدام حسين مرورًا بحملة الأنفال ضد الأكراد، وصولًا إلى فظائع تنظيم داعش بعد 2014، امتلأت الأرض بمدافن جماعية، لا تزال أعداد ضحاياها غير محسومة.
وبحسب تحليل صدر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الأمم المتحدة قدّرت أن ما بين ربع مليون ومليون شخص اختفوا في العراق خلال نصف قرن، فيما سجّلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أكثر من 43 ألف حالة منذ 2003، أكثر من نصفها بلا حل.
وفي عام 2017، وبعد إعلان العراق النصر على داعش، أنشأ مجلس الأمن فريق التحقيق الأممي لتعزيز المساءلة عن جرائم التنظيم، المعروف بـ”يونيتاد”.
وقد وُلد التفويض بدعم أوروبي مالي وسياسي، لتعزيز العدالة وجمع الأدلة على الجرائم التي قد ترقى إلى جرائم حرب وإبادة جماعية.
خلال ست سنوات، شارك الفريق في 68 عملية حفر، واستخرج أكثر من 900 رفات، بينها مئات تم التعرف على هويات أصحابها وإعادتها إلى عائلاتهم.
إلى جانب ذلك، طور الفريق أدوات تقنية متقدمة لإدارة الأدلة وتحليلها، بينها نظام إلكتروني مركزي ومنصة “زيتيو” التي فرزت ملايين الصور ومقاطع الفيديو المتعلقة بداعش. كما أسهم في إنشاء مختبرات جنائية رقمية داخل محاكم عراقية، ودرب خبراء محليين على تحليل الأدلة.
لكن رغم الإنجازات، اصطدمت مهمة يونيتاد بعقبات قانونية وسياسية. فالعراق يطبق عقوبة الإعدام، وهو ما يتعارض مع سياسات الأمم المتحدة التي تمنع مشاركة الأدلة في محاكم قد تنتهي بهذه العقوبة.
واتهمت بغداد الفريق بعدم التعاون ورفض تسليم أدلة ذات قيمة قانونية، بينما سلّم يونيتاد بعض ملفاته لدول أوروبية لمحاكمة مقاتلي داعش هناك.
هذه التوترات قادت إلى أزمة ثقة متصاعدة. ففي أواخر 2023، بعثت الحكومة العراقية رسالة للأمم المتحدة تتهم الفريق بتجاوز ولايته، ومع حلول سبتمبر 2024، أنهت بغداد دعمه رسميًا، ما أغلق صفحة مهمة كان يفترض أن تستمر لسنوات إضافية.
وانسحاب الفريق الدولي شكّل صدمة لعائلات الضحايا والمنظمات الحقوقية. فقد ارتفعت توقعاتهم بأن يحقق المجتمع الدولي لهم العدالة، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام فراغ.
إسماعيل حسين، منسق التحقيقات في منظمة “يزدا” الإيزيدية، تساءل بمرارة: “ما الهدف من جمع كل هذه المعلومات إذا لم تُستخدم؟” فيما اعتبرت منظمات مدافعة عن التركمان أن بطء عمل يونيتاد وتردده في حسم الملفات جعل الكثير من المقابر الجماعية بلا معالجة.
ورغم أن القضاء العراقي حاكم عشرات الآلاف من المشتبه بانتمائهم لداعش، فإن هذه المحاكمات انتقدتها منظمات حقوقية بسبب غياب التهم المحددة مثل العبودية الجنسية أو الإبادة الجماعية، وبسبب غياب مشاركة الضحايا والناجين.
تجربة العراق تطرح تساؤلات حول كيفية تدخل القوى الدولية في ملفات العدالة الانتقالية. فالمقاربة الأممية الأوروبية في العراق، رغم حسن النية، بدت منفصلة عن أولويات محلية تتعلق بالسيادة والخصوصية، واصطدمت بانقسامات سياسية وطائفية لم تُحل.
هذا الدرس يبدو حيويًا لسوريا بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024. مع انكشاف السجون وظهور صور الناجين الهزلى من زنازين الرعب، تتجه الأنظار إلى مصير عشرات آلاف المفقودين.
هنا، سيكون أمام السوريين خيار: إما دفن الجراح كما حدث في لبنان بعد حربه الأهلية، أو السير في طريق العراق، الذي رغم إخفاقاته، أسس بنية تقنية ومؤسساتية مهمة للبحث عن المفقودين وحماية الأدلة.
والعراق يمتلك اليوم مديريتين متخصصتين: مديرية الطب العدلي التابعة لوزارة الصحة، ومديرية المقابر الجماعية التابعة لمؤسسة الشهداء.
هاتان المؤسستان واصلتا العمل رغم ضعف التمويل، حيث فتحتا أكثر من 290 مقبرة منذ 2003. في يناير 2025 مثلًا، انتشلت السلطات 155 رفاتًا من مقبرة تعود لحملة الأنفال بعد سنوات طويلة من البحث.
لكن الطريق لا يزال طويلاً. فالتنقيب يتطلب ميزانيات كبيرة، وتقنيات متطورة، وجهودًا متواصلة لعقود. الباحث الأرجنتيني لويس فونديبرايدر، أحد أبرز خبراء المقابر الجماعية في العالم، علّق بالقول: “هذه مهمة أجيال. الجثث التي استخرجناها حول العالم لا تقارن بعدد المفقودين. يجب أن يكون الدور الدولي داعمًا لا متحكمًا”.
وبين العراق وسوريا ولبنان، يظهر أن الذاكرة المفقودة ليست مجرد ماضٍ يمكن تجاوزه، بل عبء حاضر ومستقبل. فكل جثة تُستخرج، وكل هوية تُثبت، تمنح عائلة مكلومة فرصة للسلام. والعكس صحيح: كل تأجيل أو تسييس أو تهميش يزيد احتمالات دورات جديدة من العنف.
تجربة يونيتاد في العراق إذن ليست نهاية، بل جرس إنذار. الدرس الأساسي هو أن أي جهد لتحقيق العدالة يجب أن يُصمم مع السلطات المحلية والمجتمع المدني والضحايا أنفسهم، وأن يُدار بحساسية سياسية، بعيدًا عن الوصفات الجاهزة التي قد تصلح في قاعات الأمم المتحدة ولا تجد صدى على أرض بلاد مثخنة بالجراح.