تحليل أوروبي يتناول العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في خضم حرب غزة
تناول تحليل أوروبي العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في خضم حرب إسرائيل المتواصلة للشهر الرابع على التوالي على قطاع غزة.
وأبرز التحليل الذي نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية، أن الولايات المتحدة كانت تّعد “وسيطاً أميناً” في القضية الفلسطينية حتى جاءت إدارة ترامب وأصبحت دورها موضع شك.
فقد قدَّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإسرائيل عديداً من التنازلات المثيرة للجدل، مما أدَّى إلى تطبيع العلاقات بينها وبين بعض الدول العربية. ثم خلفه جو بايدن الذي أعاد طرح ما يُسمى حل الدولتين وأعاد الولايات المتحدة إلى ساحة الدبلوماسية.
ولكن العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر أحرج الولايات المتحدة التي أصرَّت على الدفاع عن الرواية الأمنية الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، أشعل العدوان موجة غضب لم تقتصر على الشارع العربي، بل امتدت إلى جميع أنحاء العالم.
وبينما تعرّضت سياسات إدارة ترامب لنقد شديد، فإن حجم العدوان الإسرائيلي على غزة سلّط الضوء على النهج الدبلوماسي الأمريكي. فقد قتلت إسرائيل حتى 21 يناير 2024 أكثر من 25 ألف فلسطيني وجرحت نحو 62 ألفاً آخرين، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
ودُفن آلاف الفلسطينيين تحت الأنقاض، كما أُجبر سكان القطاع كلهم تقريباً على النزوح. حتى أولئك الذين اتجهوا إلى “المناطق الآمنة” المزعومة التي حددتها إسرائيل قُصفوا في طريقهم إليها وقُصفت المناطق “الآمنة” أيضاً.
كما استهدفت إسرائيل سائر البنية التحتية في غزة بما في ذلك أماكن النزوح مثل المدارس والمستشفيات.
وقد وصف مسؤولو الأمم المتحدة أفعال إسرائيل أنها دليل على “تفاقم التحريض على الإبادة الجماعية”، وأشاروا إلى أن الإسرائيليين قد أمضوا بالفعل في تنفيذ نيّتهم المعلنة بإبادة الشعب الفلسطيني في غزة.
فقد حددت وثيقة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية بتاريخ 13 أكتوبر 2023 أهداف الحملة العسكرية في غزة بوضوح.
وتضمنت الوثيقة ثلاثة خيارات لإدارة غزة: عودة السلطة الفلسطينية لإدارة شؤون الفلسطينيين الباقين في القطاع، أو تأسيس سلطة محلية جديدة في القطاع، أو تهجير السكان إلى سيناء في مصر.
وقد فضّلت إسرائيل الخيار الأخير الذي يرقى إلى حد التطهير العرقي. ولذلك ذكرت الوثيقة أنه “يتطلب عزيمة من القيادة السياسية في مواجهة الضغوط الدولية، مع التأكيد على حشد دعم الولايات المتحدة والدول الأخرى الداعمة لإسرائيل من أجل تحقيق هذا المسعى”.
ولم يوجه بايدن حتى يناير الجاري أي انتقاد لإسرائيل سوى أنّها بدأت تخسر الدعم الدولي بسبب “القصف العشوائي”.
ولكن هذا الموقف الذي يبدو صارماً، ولا يظهر إلا في الخطاب الدبلوماسي، لا وزن له أمام الدعم الأمريكي للعدوان الإسرائيلي.
ففضلاً عن المساعدات المالية الأمريكية التي تصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً، طلب بايدن أيضاً 14.3 مليار دولار إضافية لدعم القصف الإسرائيلي على غزة تحديداً.
وفي غضون أسبوع من بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات وقدّمت لإسرائيل قنابل خارقة للتحصينات تزن 2000 رطل. وفي 6 ديسمبر 2023، استقبلت إسرائيل الطائرة رقم 200 ضمن جسر الإمدادات العسكرية الأمريكية. كما تجاوزت إدارة بايدن الكونغرس عدة مرات من أجل تقديم تلك المساعدات.
أما في الأمم المتحدة، فتواصل الولايات المتحدة تصدّر الدفاع عن إسرائيل بإصرارها على أن تركّز القرارات كلها على هجوم السابع من أكتوبر لتشتيت الانتباه عن مجازر إسرائيل اليومية.
فقد صرّح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي قائلاً: “من المهم لنا أن يدرك العالم خطورة الوضع وما فعلته حماس في السابع من أكتوبر وأنّ إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها ضد تلك التهديدات”.
وقد جاء التصريح في معرض تبريره لمعارضة الولايات المتحدة لصياغة قرار مجلس الأمن الذي امتنعت بلاده عن التصويت عليه في نهاية المطاف بدلاً من استخدام حق النقض.
وكان القرار قد دعا إلى إيصال المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، دون الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وحرصاً على أمنها المزعوم، استخدمت إسرائيل منطق الولايات المتحدة نفسه في “الحرب على الإرهاب”.
واتضح التشابه بينهما من حيث الجرائم البشعة في التقارير التي أفادت باعتقال رجال فلسطينيين تحت تهديد السلاح، وتعذيب الذين اختطفهم الجيش الإسرائيلي، مما يذكّرنا بالفظائع التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق.
وعلى مستوى الخطاب، فقد وصف المسؤولون الإسرائيليون هجوم السابع من أكتوبر بأنّه “11 سبتمبر الإسرائيلي” لتشكّل بذلك أرضية مشتركة مع الخطاب الأمريكي الذي استُخدم ذريعةً للتدخل في الشرق الأوسط بزعم نشر الديمقراطية في المنطقة.
وبينما نرى التزام الولايات المتحدة الشديد بأمن إسرائيل ملحوظاً أكثر من أي وقت مضى في سياق العدوان الإسرائيلي الحالي، فإنّ له أصول تاريخية ترجع إلى وعد بلفور عام 1917، عندما سعت المملكة المتحدة إلى الحصول على موافقة عليه من الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون.
كما دعمت الولايات المتحدة خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947 استجابةً لضغط الجماعات الصهيونية.
وبعد بضع دقائق من إعلان ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، أصبح الرئيس الأمريكي هاري ترومان أول زعيم يعترف بالدولة الناشئة على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين الذين تعرضوا لتطهير عرقي خلال النكبة.
وأخذ دعم الولايات المتحدة للاستعمار الإسرائيلي منذ ذلك الحين يتطور على مدار عقود طويلة، ما ساهم في تلاشي الآمال الفلسطينية بالتحرير وقضى على ما يُعرف بحلّ الدولتين.
كانت فرنسا في البداية أكبر مورد أسلحة لإسرائيل، في حين اقتصر دور الولايات المتحدة على المساعدات الاقتصادية. لكن بحلول عام 1962، بدأت إسرائيل في السعي إلى تشكيل تحالف عسكري مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي كان لوزير الخارجية آنذاك دين راسك تحفظات عليه.
استسلم الرئيس الأمريكي كينيدي لمطالب إسرائيل في نهاية المطاف ووافق على بيعها صواريخ هوك المضادة للطائرات وذلك بشرط احترام حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. ورغم أنّ إسرائيل لم تلتزم ذلك الشرط، فإن ذلك لم يمنع العلاقة الخاصة التي نشأت بين الولايات المتحدة وإسرائيل على إثر تلك الصفقة الأولى.
وكذلك كان موقف كينيدي من قضية منع انتشار الأسلحة النووية محل خلاف بين البلدين، إذ أصرّت الولايات المتحدة عام 1963 على تفتيش منشآت ديمونا النووية مرتين كل عام. وقد خفف بن غوريون وخليفته ليفي أشكول ذلك المطلب، بينما اتخذ الرئيس ليندون جونسون خليفة كينيدي موقفاً أكثر تساهلاً تجاه المشروع النووي الإسرائيلي.
لكن سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل شهدت تغيراً ملحوظاً بعد عام 1967، حين احتلت إسرائيل ما بقي من الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وغزة). إذ أسس جونسون مبدأ التفوق العسكري النوعي لإسرائيل عام 1968، فمنحها أفضلية عسكرية وتكنولوجية على أعدائها. وقد رُسخ المبدأ في القانون الأمريكي عام 2008.
وفي عام 2011، وصف أندرو شابيرو، مساعد وزيرة الخارجية للشؤون العسكرية والسياسية، ذلك الالتزام الأمني بأنه يتعلق “بقدرة إسرائيل على مواجهة وهزيمة أي تهديد عسكري من دولة منفردة أو مجموعة من الدول أو الجماعات المسلحة، مع الحد من الخسائر والأضرار في أدنى درجة”.
وضع شابيرو هنا مبدأ التفوق العسكري النوعي في سياق حرب الولايات المتحدة “على الإرهاب” وأهمية إسرائيل الاستراتيجية في الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة.
وفي حرب عام 1973، دعمت الولايات المتحدة إسرائيل، بينما تلقت مصر وسوريا الدعم من الاتحاد السوفيتي.
وأمر الرئيس الأمريكي نيكسون بإرسال المساعدات العسكرية إلى إسرائيل وقال لهنري كيسنجر، الذي توسط في المفاوضات بين مصر وإسرائيل لوقف إطلاق النار: “أرسلوا كل ما يمكن أن يطير”.
وكان هدف كيسنجر الحيلولة دون خسارة إسرائيل للحرب، مع إبقاء الولايات المتحدة بعيدة عن الأضواء قدر الإمكان حتى لا يثير عداء الدول العربية.
وفي عهد الرئيس جيرالد فورد عام 1976 أصبحت إسرائيل أكبر مستفيد من المساعدات عسكرية من الولايات المتحدة. ثم تضاعفت تلك المساعدات أربع مرات في عهد كارتر لتصل إلى أربعة مليار دولار على خلفية الاقتراب من إبرام معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل والتي عُرفت فيما بعد باسم اتفاقيات كامب ديفيد.
جعل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان الأولوية للعلاقات مع إسرائيل، ما نتج عنه توقيع أول اتفاقيات تعاون استراتيجي وعسكري بين البلدين عام 1981.
وعقب لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير عام 1983، أعلن ريغان الاتفاق “على زيادة التعاون في المجالات التي تتقاطع فيها مصالحنا، وخاصة في المجالين السياسي والعسكري”.
كما طلب من الكونغرس الأمريكي زيادة المساعدات الأمنية لإسرائيل والسماح لصناعة الأسلحة الإسرائيلية بالمشاركة “في إنتاج أنظمة الأسلحة الأمريكية من خلال برنامج التمويل العسكري للدول الأجنبية”.
بالإضافة إلى ذلك، وضعت الولايات المتحدة إسرائيل في مكانة “الحليف الرئيسي من خارج الناتو”، وهو ما مكّن إسرائيل من شراء الأسلحة الأمريكية بسعر مخفّض. وقد مثّل ذلك اعترافاً رسميا بإسرائيل حليفاً للولايات المتحدة بحسب رؤية شامير.
المساعدة في توسّع المستوطنات
بين عامي 1989 و1993، اصطدم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بإسرائيل بسبب خلافات على مسألة التوسع في بناء المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة فضلاً عن ضم القدس الشرقية. ولكن ذلك الخلاف الدبلوماسي لم يؤثر في التزام الولايات المتحدة بالسردية الأمنية الإسرائيلية في ظل حرب الخليج.
وفي عام 1991، شاركت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في رعاية مؤتمر مدريد للسلام في الفترة من 30 أكتوبر حتى 4 نوفمبر.
وفي الوقت نفسه، رفضت الولايات المتحدة منح إسرائيل أي قروض بعد أن رفضت مطالب البيت الأبيض بإثبات أن القروض السابقة لم تُنفق على التوسع الاستيطاني.
قُدّمت اتفاقات أوسلو عامي 1993 و1995 على أنّها خطوة مهمة من شأنها أن تؤدي إلى “السلام”، لكنها استُعملت في النهاية في تعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة فضلاً عن توسّع المستوطنات.
وقد أصبحت تلك الاتفاقيات على نحو ما مرادفاً لحل الدولتين، رغم أنّها لم تأت على ذكر دولة فلسطينية مستقلة، بل تحدثت عن وجود “قاعدة مؤسسية تسمح للفلسطينيين بالحكم الذاتي”.
وقّع الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على اتفاقية أوسلو الأولى في واشنطن في عهد إدارة كلينتون، بينما جرت المفاوضات من خلال قنوات سرية في النرويج.
وتنص أهم بنود الاتفاقية على إنشاء سلطة فلسطينية واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل السياسي للشعب الفلسطيني.
أما اتفاقية أوسلو الثانية لعام 1995، فقد أسست الأجهزة الأمنية الفلسطينية ووضعت معالم محددة لأراضي الضفة الغربية المحتلة.
وحصلت السلطة الفلسطينية على حق الإدارة المدنية والأمنية في المنطقة (أ) فقط، في حين بقيت المنطقة (ب) تحت سيطرة مشتركة بين السلطة والجانب الإسرائيلي، أما المنطقة (ج) فظلت تحت السيطرة الإسرائيلية.
وبعد نجاح نتنياهو في انتخابات 1996، أعطت إسرائيل الأولوية للتوسع الاستيطاني. وفي جولة مفاوضات جديدة عام 1999 بين إيهود باراك ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، تخلت إسرائيل عن التزامها بتسليم الأراضي للفلسطينيين الذين فقدوا مزيداً من السيطرة على المنطقتين (أ) و (ب) التي حددتهما اتفاقية أوسلو الثانية.
وقد عارضت حركة المقاومة الإسلامية حماس اتفاقيات أوسلو، وجدير بالذكر أنّ الولايات المتحدة قد أدرجتها هي وفصائل مقاومة أخرى على قائمة الجماعات الإرهابية في أكتوبر 1997.
ولاحقاً عندما فازت حماس بالانتخابات الفلسطينية التشريعية عام 2006، اعترضت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي اشترط على حماس الاعتراف بإسرائيل إلى جانب شروط أخرى حتى تنال اعترافاً دولياً بسلطتها.
ورغم أنّ إرث الرئيس الأمريكي باراك أوباما يرتبط عادةً بالحديث عن ما يُسمى الربيع العربي، فإنّ إدارته كانت مسؤولة أيضاً عن ضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
إذ حصلت إسرائيل في عهده على 60% من برنامج التمويل العسكري الأمريكي، ومنحها أوباما نحو 3.8 مليار دولار سنوياً لتكون هذه أكبر صفقة مساعدات عسكرية أمريكية تحصل عليها دولة أجنبية على الإطلاق.
وتساهلت إدارته مع التوسّع في بناء المستوطنات، ولكنها امتنعت عن التصويت على القرار 2334 لمجلس الأمن في ديسمبر 2016. ورغم الترحيب باللفتة الأمريكية واعتبارها انتصاراً دبلوماسياً لفلسطين، فإنّها لم تؤد إلى وقف حركة الاستيطان أو حتى تقليلها.
تأييد ترامب العلني لإسرائيل
حافظت الولايات المتحدة على مكانتها بصفتها “وسيطاً أميناً” على مدى سنوات عديدة، واعتمد ذلك على مواصلة دعم إسرائيل عسكرياً مع التمسك بإطار حل الدولتين على الصعيد الدبلوماسي.
ولكن إدارة ترامب تحولت إلى الدعم العلني لإسرائيل. إذ قدّمت عدداً من التنازلات لإسرائيل دون مقابل، منها الاعتراف بالقدس عاصمةً موحدةً لها، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فضلاً عن الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان.
كما علّقت الإدارة الأمريكية تمويلها لوكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة وأغلقت مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن وخفضت مستوى التمثيل الدبلوماسية الأمريكية في فلسطين من قنصلية منفصلة إلى “وحدة الشؤون الفلسطينية” ضمن أقسام السفارة الأمريكية في إسرائيل.
وفي نوفمبر 2019، أعلن مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي أنّ إدارة ترامب لم تعد ترى المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية، وهو ما يعد خرقاً للإجماع المستمر منذ عام 1978. وزاد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي على نحو كبير في عهد ترامب.
وأشارت منظمة السلام الآن الإسرائيلية غير الحكومية إلى أنّ التوسع الاستيطاني يتماشى مع سياسة حكم الأمر الواقع واستمرار احتلال الضفة الغربية. وقد شجع ترامب تلك السياسات ثم تظاهر لاحقاً بتخفيف حدتها مع توقيع اتفاقيات إبراهيم عام 2020 بين الإمارات وإسرائيل.
بُنيت اتفاقيات إبراهيم، التي تُعدّ إرث ترامب الأهم، على تنازلين رئيسيين ساعدا إسرائيل في خططها الاستعمارية. تمثّل الأول في محاولة إلغاء صفة اللجوء عن الفلسطينيين.
فبعد تعليق الولايات المتحدة المساعدات المخصصة لوكالة الأونروا وتشجيعها الدول الأخرى على الاحتذاء بها، أعلن جاريد كوشنر كبير المستشارين الأمريكيين عن نية الولايات المتحدة إلغاء طلبات لجوء الفلسطينيين من خلال إعادة التوطين والاندماج في الدول العربية. وهذا يعني عملياً أنّ إدارة ترامب رفضت حق العودة الذي أقرّه قرار الأمم المتحدة رقم 194.
وفي عام 2018، صرّح إيلاد ستروهماير المتحدث باسم السفارة الإسرائيلية في واشنطن: “نرى أنّ وكالة الأونروا يجب أن تختفي من الوجود لأنّها منظمة تناوئ إسرائيل سياسياً وتعمل على إدامة أزمة اللاجئين الفلسطينيين”.
ومع ذلك، أكدت الأونروا مرات عديدة أنّها تتبنى موقفاً محايداً. كما أنّ إدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ليس موقفاً مناهضاً لإسرائيل، بل هو تعبير عن الواقع السياسي للمنظمة بصفتها جزءاً أصيلاً من النموذج الإغاثي الذي تفرضه الأمم المتحدة على الفلسطينيين.
أما التنازل الثاني، وعلى النقيض من حل الدولتين، فكان ما يُسمى “صفقة القرن” التي أعلنها ترامب في يناير 2020، والتي إن طُبقت، فسوف تسمح لإسرائيل بضم نحو 33% من أراضي الضفة الغربية المحتلة.
وبحسب التفاصيل التي ذكرتها صحيفة جيروزاليم بوست عن الصفقة، فإنّ ترامب كان على استعداد لمنح إسرائيل الضوء الأخضر لضم أراض من الضفة الغربية في مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية على بقي من فلسطين المحتلة.
وبعد توقيع اتفاقيات إبراهيم، توقفت الولايات المتحدة على التصريح بقبول ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكانت الإمارات قد أعلنت سابقاً أنّها لن تمضي في اتفاقيات إبراهيم إلا إذا امتنعت إسرائيل عن إعلان سيادتها على الضفة الغربية. ولكن ديفيد فريدمان، السفير الأمريكي السابق لإسرائيل، أوضح: “الصياغة التي اخترناها كانت ‘تعليق إعلان السيادة’، أي إنه أمر مؤقت”.
وفي ذلك الوقت، كانت إسرائيل ترفع وتيرة الإنشاءات في المستوطنات على الأراضي المحتلة، وهو الأمر الذي أدانه المجتمع الدولي فقط لأنه يخالف القانون الدولي من دون النظر إلى الاحتلال ككل.
ولم تعارض الأمم المتحدة اتفاقيات إبراهيم، رغم معارضتها لكل قرارات إدارة ترامب الأحادية. إذ عُدّت هذه الاتفاقيات فرصة للعودة إلى حل الدولتين والمفاوضات الدبلوماسية.
وعلّق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على الاتفاقيات: “بغض النظر عن الآراء المختلفة التي قد نشهدها بشأن هذه الاتفاقيات، أعتقد أنّ مسألة المشاركة في مفاوضات مباشرة من أجل السلام في الشرق الأوسط أمر مهم للغاية للفلسطينيين والإسرائيليين”.
وقد عارضت السلطة الفلسطينية اتفاقيات إبراهيم أول الأمر، لكنها رضخت في النهاية للضغوط الأمريكية. ولا يمكن النظر إلى تراجع السلطة الفلسطينية بمعزل عن التبرير العلني والضمني من جانب الدول العربية لاتفاقيات إبراهيم، رغم التزامها السابق بمبادرة السلام العربية لعام 2002.
وقد تبيّن من اتفاقيات التطبيع صحة تأكيد نتنياهو المستمر قبل سنوات على أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية للقادة العرب.
ولا يمثّل وجود السلطة الفلسطينية عقبة أمام الولايات المتحدة ومطالب الإسرائيليين، فهي تعتمد على أموال المانحين، فضلاً عن عزلتها السياسية.
كما أنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية مثلاً قد تدربت على يد وكالة الاستخبارات المركزية وتمارس دوراً رئيسياً في منع النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وهو ما قد يدفعها إلى اغتيال البعض أحياناً مثلما حدث في حالة باسل الأعرج ونزار بنات.
بايدن – الدفاع عن الاحتلال والإبقاء على الوضع القائم
أشاد كثيرون بالرئيس بايدن لأنّه أعاد الولايات المتحدة إلى المجتمع الدولي، وهو الذي أكّد أكثر من مرة على انتمائه للصهيونية، حتى مع استمرار قصف إسرائيل لغزة.
ومع ذلك منذ الأشهر الأولى في البيت الأبيض، لم يبذل بايدن مجهوداً يُذكر لتصحيح سياسات ترامب وتحسين وضع الفلسطينيين، فضلاً عن إعادة جزء من المساعدات الإنسانية لوكالة الأونروا.
ولكن المجتمع الدولي لم يهتم إلا لمسألة عودة الولايات المتحدة إلى إجماع حل الدولتين. وتركز استراتيجية بايدن على اتفاقيات التطبيع والتزام الصمت إزاء القضايا الأخرى القديمة التي سُمح لإسرائيل بأن تطلق يدها فيها مثل القدس والتوسع الاستيطاني واللاجئين الفلسطينيين.
ومع توسّع إسرائيل في الإنشاءات في الضفة الغربية المحتلة على حساب الفلسطينيين، تتفاقم أعداد اللاجئين. أما في غزة، فقد أخذ القادة الإسرائيليون يروّجون لحل الترحيل القسري بصفته ضرورة أخلاقية يجب على المجتمع الدولي المشاركة فيها.
وفي حين كانت إدارة ترامب تهدف إلى تهميش السلطة الفلسطينية سياسياً، فإنّ استراتيجية إدارة بايدن تركز على التحكم بها وإن لم يكن ذلك في صالح الشعب الفلسطيني.
فقد قدّمت الحكومة الائتلافية الإسرائيلية برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد، بعد ضغوط من الولايات المتحدة، تنازلات قبلت بها السلطة الفلسطينية. وفي ظل تزايد الأصوات المعارضة للسلطة الفلسطينية، خاصةً بعد مقتل نزار بنات، عمل بايدن على تعزيز السلطة.
وقبل العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، كانت الولايات المتحدة تستعد لرعاية اتفاقية تطبيع محتملة بين إسرائيل والسعودية، كما أشادت بها بصفتها الخطوة المناسبة بعد اتفاقيات إبراهيم.
وعرض السعوديون بالنيابة عن السلطة الفلسطينية بعض الشروط التي شملت وقف بناء المستوطنات، والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن والقنصلية الأمريكية في القدس.
ولكن الموقف التفاوضي للسلطة الفلسطينية ضعيف للغاية بسبب اعتمادها على التمويل الأجنبي. فعلى سبيل المثال، سحبت السلطة الفلسطينية في فبراير 2023 قراراً كانت قد أصدرته ضد توسع الاستيطان الإسرائيلي مقابل حزمة من المساعدات المالية من إدارة بايدن.
وفي ظل استمرار نية إسرائيل لتهجير الفلسطينيين قسراً من قطاع غزة، وغياب الحديث المعتاد عن إعادة الإعمار في غزة وفق شروط المجتمع الدولي وإسرائيل، يواصل بايدن دعم إسرائيل عسكرياً ويتماهى مع الأعذار التي يقدمها نتنياهو لتبرير التطهير العرقي في غزة.
ويبقى حل الدولتين، الذي يراه كثيرون حلاً بلا معنى، جزءاً من الدبلوماسية الأمريكية حتى الآن على الأقل. ولكن إسرائيل غيرّت قواعد اللعبة، وربما إلى الأبد، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى دخول العلاقات الأمريكية الإسرائيلية إلى مرحلة جديدة.