تحليل أوروبي: المصالحات في الخليج مهددة بالنزاعات الحدودية
رأى تحليل أوروبي أن مسار المصالحات في منطقة الخليج العربي مهدد نتيجة النزاعات الحدودية منذ عقود من الزمن، ويجب إيجاد تسويات سلمية لمثل هذا النوع من الخلافات المزمنة.
وأشار التحليل الذي نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية إلى أن منطقة الخليج شهدت منذ العام 2022 بعض التسويات التي أنهت قطيعة إيران الدبلوماسية مع بعض جيرانها العرب، في مُسار عُرف منذ ذلك الوقت بالمصالحة “الإيرانية-الخليجية العربية”.
ونبه التحليل إلى أنه بعد عودة سفيري الإمارات والكويت إلى طهران في أغسطس/آب 2022، تمكنت إيران من التوصل إلى تفاهم مع السعودية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية معها، في مارس/آذار 2023.
ومنذ ذلك الوقت أيضًا، بدأت البحرين بخوض محادثات غير معلنة مع طهران، لتطبيع علاقة البلدين ومعالجة الخلافات المزمنة بينهما.
بهذا الشكل، عاشت منطقة الخليج أجواء إيجابية توحي باتجاهها نحو مرحلة من الاستقرار السياسي والأمني، خصوصًا أن سائر أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أي قطر وعُمان، ترتبطان أساسًا بعلاقات جيدة مع طهران.
كما تفاءل كثيرون بتداعيات هذه المصالحات على سائر الملفات السياسية في المنطقة العربية، بعدما بدأت مصر بالعمل على استعادة علاقتها بإيران منذ يونيو/حزيران 2023، وذلك بتأثير من المصالحات التي جرت بين إيران ودول الخليج العربي.
لكن منذ بداية النصف الثاني من العام 2023، تفاعلت مجموعة من الأحداث المرتبطة بخلافات إيران الحدودية، مع الدول الخليجية العربية المجاورة، وهو ما بدأ بتعكير صفو المصالحات الحديثة العهد.
بعض هذه الخلافات تعلق بحقل الدرة للغاز، المُتنازع عليه بين إيران من جهة، والمملكة العربية السعودية والكويت من جهة أخرى.
أما بعضها الآخر، فجاء على خلفية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، المتنازع عليها بين إيران والإمارات العربية المتحدة.
مع الإشارة إلى أن هذه النزاعات الحدودية تعود لعقود من الزمن، إلا أن السجال حولها عاد ليتصاعد بشكل حاد في هذه المرحلة بالذات، وصولًا إلى درجة التهديد بالأعمال العدائية.
وهذا ما يطرح السؤال عن مستقبل مسار المصالحات “الإيرانية-الخليجية العربية”، إذا لم يتم التوصل الى إيجاد تسويات سلمية لمثل هذا النوع من الخلافات المزمنة.
حقل الدرة: تجدد النزاع التاريخي
يعود النزاع حول حقل الدرة للغاز الطبيعي إلى ستينات القرن الماضي، حين قامت كل من إيران والكويت بمنح امتيازات لاستثمار الحقل لشركات أجنبية مختلفة.
مع العلم أن الحقل المتنازع عليه، الواقع في مياه الخليج بين الدولتين، يحتوي على احتياطات تُقدر بأكثر من 220 مليار متر مكعب من الغاز، أو نحو 7 ترليونات قدم مكعبة.
وبذلك، تكون احتياطات الحقل من الغاز توازي نحو 11% من احتياطات الغاز المكتشفة أساسًا في الكويت، ما يفسر تمسك الكويت بملكية هذا الحقل المتنازع عليه من قِبَل إيران.
ومنذ ذلك الوقت، فقد فشلت الدولتان في استكمال عملية استثمار الحقل، بفعل الخلافات حول ملكيته، وامتناع الشركات الدولية عن العمل في مناطق متنازع على ملكيتها.
وفي اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين السعودية والكويت عام 2000، اتفقت الدولتان على تقاسم ملكية حقل الدرة، دون أن يلحظ الترسيم أي جزء مشترك مع إيران في هذا الحقل، وهو ما فاقم من الخلاف التاريخي حول الحقل.
وفي بعض المراحل، احتجت الكويت على تحركات عسكرية إيرانية، حاولت من خلالها طهران فرض أمر واقع جديد، وفرض سيطرتها على جزء من الحقل البحري.
منذ منتصف العام 2023، بدأت الخلافات حول الحقل تتفاعل مجددًا، وذلك من خلال تصعيد حاد متبادل بين إيران من جهة، والسعودية والكويت من جهة أخرى.
ففي تموز/يوليو 2023، سربت وكالة “رويترز” وثيقة حكومية كويتية تشير إلى استعداد البلاد لتجهيز البنية التحتية المطلوبة لاستثمار الحقل.
كما ظهر من خطة الاستثمار أن المشروع يفترض أن ينطلق خلال أشهر قليلة، بالشراكة مع السعودية.
وبعد أيام قليلة، أكد وزير النفط الكويتي سعد البراك هذا الخبر، مشيرًا إلى أن بلاده لن تنتظر ترسيم الحدود البحرية مع إيران، قبل بدء عملية الاستثمار.
وسرعان ما جاء رد وزير النفط الإيراني جواد أوجي في أواخر شهر تموز/يوليو 2023، من خلال تصريحات حادة مفادها أن إيران “ستضع على جدول أعمالها تأمين حقوقها ومصالحها، ولن تتحمل أي تضييع لحقوقها”.
ثم قامت إيران بالرد على الخطوة الكويتية، من خلال التأكيد على امتلاكها خطط جاهزة ووشيكة التطبيق لاستثمار الحقل، دون انتظار ترسيم الحدود مع الكويت. وبهذا الشكل، رفعت طهران السقف، عبر التهديد بدخولها على خط استخراج الغاز من المنطقة المتنازع عليها بالقوة، ودون أي تفاهم مسبق.
وفي الوقت الراهن، تتمسك السعودية والكويت بحصرية ملكيتهما المشتركة للحقل، فيما تطالبان بالدخول معًا، وكطرف تفاوضي واحد، في محادثات مع إيران لترسيم الحدود البحرية بشكل نهائي.
وبذلك تحاول الدولتان فرض نتائج ترسيمهما وتفاهماتهما السابقة والمشتركة على إيران، بدلًا من الدخول في المفاوضات من نقطة الصفر بين الدول الثلاث.
وفي الوقت عينه، تصر الكويت على تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لترسيم الحدود، والذي يحتسب أثر الجزر الكويتية على ترسيم الحدود البحرية، ما يعطي الكويت الحق بكامل الحقل.
من ناحيتها، لم تسرب إيران الكثير من أولوياتها التفاوضية في هذا الملف، إلا أنها حاولت في شهر آذار/مارس 2023 الدخول في مفاوضات ثنائية مع الكويت، بهدف التملص من التفاوض مع الكويت والسعودية معًا كطرف تفاوضي واحد، كما تطلب الدولتان.
ويبدو أن إيران تحاول في الوقت عينه الحؤول دون تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على هذا الترسيم، لتفادي احتساب أثر الجزر الكويتية في عملية الترسيم.
ومن الناحية العملية، يبدو أن تفاعل هذا الملف مؤخرًا يرتبط بتزايد الحاجة للنفط المُسال في الأسواق الدولية، في ظل ارتفاع الطلب عليه في أسواق الاتحاد الأوروبي، بعد انقطاع إمدادات الغاز الروسي.
وهذا ما يفسر مسارعة الكويت والسعودية للعمل على هذا الحقل في الوقت الراهن، وذلك بعد مرور ستة عقود على توقف الاستثمار فيه بفعل النزاع الحدودي. كما يرتبط المسعى الكويتي بجهود الحكومة لتنفيذ خطتها القاضية بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز بحلول العام 2030، في ظل تنامي الطلب المحلي على هذه المادة.
ومن المؤكد أن كل من الكويت والسعودية تدركان أن بدء الاستثمار في الحقل غير ممكن دون الاتفاق مع طهران على ترسيم، إذ أن شركات النفط الدولية أو المحلية لن تغامر بضخ استثمارات كبيرة في هذا المجال، بوجود نزاعات قانونية أو أمنية قد تهدد العمليات التشغيلية لاحقًا.
لكن من الواضح أن الكويت والسعودية تحاولان رفع السقف من خلال خطواتهما الأخيرة، للدخول في التفاوض الحدودي من موقع قوي، وكطرف موحد يملك مشروعه المتكامل لاستثمار الحقل.
ورغم ارتفاع حدة التصعيد المتبادل بين الطرفين، والذي بلغ مستوى التهديد المتبادل باستخراج الغاز دون اتفاق، يراهن كثيرون على وساطات يمكن أن تقوم بها بعض الدول الكبرى المقربة من جميع الأطراف، كالصين مثلًا.
ومن المعلوم أن الصين تُعتبر من أبرز موردي مصادر الطاقة المستخرجة من منطقة الخليج، ما يعطيها حافزًا للتدخل ومعالجة الأزمة، تمامًا كما توسطت لإنجاز المصالحة “الإيرانية-الخليجية العربية” الأخيرة.
عودة خلاف الإمارات وإيران على الجزر الثلاث
منذ نيل الإمارات العربية المتحدة استقلالها عام 1971، استولت إيران بالقوة على ثلاث جزر واقعة في مياه الخليج بين الدولتين.
وأكبر هذه الجزر هي جزيرة أبو موسى، التي تبلغ مساحتها 20 كيلومترًا مربعًا، بينما كانت تتبع هذه الجزيرة لإمارة الشارقة قبل الاستيلاء عليها من قبل إيران.
ثم تليها في المساحة جزيرة طنب الكبرى، التي تبلغ مساحتها 9 كيلومترات مربعة. أما الجزيرة الثالثة فهي طنب الصغرى، التي تبلغ مساحتها كيلومترين مربعين فقط. مع الإشارة إلى أن جزيرتي طنب الكبرى والصغرى كانتا تتبعان لإمارة رأس الخيمة، قبل السيطرة عليهما من قبل إيران.
ومنذ ذلك الوقت، واظبت إيران على تشييد المشاريع السياحية والعسكرية لتغيير هوية الجزر الثلاث وإلحاقها بسيادتها، في حين استمرت الإمارات بالتحفظ على هذه المشاريع، باعتبارها جزرًا “محتلة”.
كما قامت إيران بإصدار سندات ملكية رسمية خاصة بالجزر، لإلحاقها إداريًا بسجل التنظيم العقاري الإيراني، وأنشأت مطارًا في جزيرة طنب الكبرى لتسهيل استثمارات الإيرانيين السياحية هناك.
وبهذا الشكل، وبعد كل أنشطة التوطين هذه، باتت إيران تعتبر أن ملكيتها للجزر الثلاث “غير خاضعة للنقاش أبدًا”، كما يردد المسؤولون الإيرانيون.
ولفهم سبب اهتمام الطرفين بهذه الجزر الصغيرة، تكفي الإشارة إلى أنها تشرف على مضيق هرمز، الذي يمر عبره 40% من إنتاج النفط العالمي.
كما تكشف هذه الجزر جميع ممرات الملاحة التجارية الأساسية داخل الخليج نفسه، ما يسمح للطرف الذي يتحكم بها السيطرة على حركة المرور المائية في الخليج.
وأخيرًا، تمتاز هذه الجزر بعمق المياه المحيطة بها، ما يسمح باستخدامها لاستقبال السفن العسكرية الكبيرة والغواصات.
وبعد أكثر من خمسة عقود من احتلالها من قبل إيران، تجدد النزاع بين الطرفين حول ملكية هذه الجزر في تموز/يوليو 2023.
فإثر انعقاد المؤتمر الوزاري السادس للحوار الاستراتيجي بين روسيا ومجلس التعاون الخليجي، أصرت الإمارات العربية المتحدة على إدراج فقرة في البيان الختامي للمؤتمر، تنص فيه على دعم مساعي الإمارات “للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
وذلك من خلال المفاوضات الثنائية أو محكمة العدل الدولية، وفقا لقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لحل هذه القضية وفقًا للشرعية الدولية”.
أثارت الخطوة حفيظة إيران، خصوصًا أن الدول الخليجية تكاتفت لتنتزع هذا الموقف المؤيد للإمارات من روسيا، التي راهنت إيران سابقًا على دعمها في القضايا الإقليمية.
وسرعان ما ردت وزارة الخارجية ببيان حاد شدد على أن “هذه الجزر تابعة لإيران للأبد”، كما حذرت من ضرر هذا النوع من البيانات على “العلاقات الودية بين إيران وجيرانها”.
كما بدأت الخارجية الإيرانية بتوجيه الرسائل الأمنية لدول الخليج العربية، عبر الإشارة إلى أن توفير الأمن البحري في منطقة الخليج وبحر عمان يجب أن يكون في إطار “التعاون بين دول الجوار”، بالنظر إلى امتلاك الدول الإقليمية “القدرة على توفير الأمن والسلامة دون تدخل الدول الأجنبية”.
وفي إشارة لافتة لسطوة إيران في منطقة الخليج، ذكرت وزارة الخارجية بدور الحرس الثوري “التاريخي، والذي لا يمكن تجاهله”.
في النتيجة، شوشت السجالات المرتبطة بالجزر الثلاث وحقل الدرة للغاز على الأجواء الإيجابية، التي رافقت مصالحات إيران مع دول الخليج العربية.
وبات هناك أسئلة جدية حول مستقبل هذه المصالحات، إذا ما استمرت المناوشات قائمةً حول الخلافات التاريخية بين إيران من جهة، والدول الخليجية العربية من جهة أخرى.
لكن في المقابل، ثمة من يعتبر أن الدول الخليجية العربية تعمدت طرح المسائل الخلافية مع إيران خلال الأشهر الماضية، بهدف دفع إيران لتقديم تنازلات في هذه الملفات، مقابل استكمال المصالحات والتسويات الإقليمية معها.