عن الجدل في السويد على إحراق المصحف
هل يمكن تسويغ إحراق نسخ المصحف أو الإنجيل أو التوراة أو الكتب المقدّسة لدى مختلف الأديان بصورة علنية، وبشكل استفزازي تحت بند حرية التعبير الذي يعدّ قانوناً أساسياً في السويد؟.
ألا يتعارض هذا التفسير مع القانون الآخر المعتمد الخاص بمنع إثارة النعرات الدينية والعرقية والقومية والجنسية، وهو القانون الذي اعتمد في عام 1948، وأخذ شكله الراهن عام 1988؟.
وكيف يمكننا أن نفسر الموافقة على منح ترخيصٍ لأحدهم يسمح له بإحراق نسخة من المصحف أمام مسجد أو في منطقةٍ تسكنها غالبية مسلمة، وحتى في أوقاتٍ تعدّ مقدّسة لدى المسلمين مثل أيام الجمعة أو شهر رمضان؟
هذه الأسئلة وغيرها أصبحت مادّة للنقاش بين السويديين منذ بدأ المتطرّف اليميني الدنماركي الذي يحمل الجنسية السويدية راسموس بالودان سلسلة استعراضاته التي أحرق فيها نسخاً من المصحف في أماكن عدة من السويد، والدنمارك.
ولعل الاستعراض الأشهر أمام السفارة التركية في استوكهولم في 21 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، لما أثاره هذا الأمر من ردود فعل قوية في عدد من الدول الإسلامية، سيما تركيا التي أعلن رئيسها أن مسألة الموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو باتت مستبعدةً بعد عملية إحراق المصحف.
هذا مع العلم أن الأمور، منذ البداية، لم تكن على ما يرام بين البلدين بخصوص ملف “الناتو”، وذلك بسبب الشروط والطلبات التركية الخاصة بضرورة أن تقطع السويد علاقاتها مع حزب العمّال الكردستاني وواجهاته، وأن تكفّ عن سياسة غض النظر التي تمارسها الحكومة تجاه نشاطات هذا الحزب وجماعة فتح الله غولن في السويد.
ولمعرفة توجّهات الرأي العام السويدي بخصوص موضوع السماح بإحراق المصحف تحت شعار “احترام قانون ومبدأ حرية التعبير”، أُجري حديثاً استطلاع للرأي بتكليف من القناة الرابعة السويدية، أظهرت نتائجه أن السويديين منقسمون تقريبا مناصفة بين من يرى أن مسألة حرق الكتب المقدّسة تدخل ضمن إطار حرية التعبير ومن لا يوافق على ذلك ويدعو إلى حظر الإحراق.
ولافتٌ أن نسبة النساء المطالبات بمنع حرق الكتب المقدّسة أعلى من نسبة الرجال.
وعلى المستوى السياسي، هناك حالة إرباك إذا صحّ التعبير، فهناك شعور عام بوجود ثغرات في قانون حرية التعبير تم استغلالها بصورة واضحة مفرطة من المتطرّف اليميني راسموس بالودان، المناهض للمهاجرين المسلمين تحديداً، وهو يترأس حزباً صغيراً متطرّفاً يدعو إلى إغلاق أبواب الدنمارك أمام المهاجرين المسلمين، منعاً لأسلمة البلد على حد زعمه.
غير أن بالودان لم يكن وحيداً، بل حصل على المساعدة من المتطرّفين في السويد الذين ساعدوه ودعموه، وحاولوا الاستفادة من استعراضاته.
حتى أن بالودان نفسه اعترف بأنه لم يكن قد خطّط لعملية إحراق المصحف أمام السفارة التركية في استوكهولم في التوقيت المذكور، ولكن هناك من اتصل به، ودعاه إلى ذلك.
وقد تناولت وسائل الإعلام السويدية اسم أحد هؤلاء الأشخاص، دفع رسوم رخصة استعراض بالودان، وهو من العاملين في إعلام حزب ديمقراطيي السويد اليميني المتشدّد، وبينت أن للشخص نفسه سجلاً في ميدان التعاون مع الإعلام الروسي؛ وهو الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ وتكهناتٍ كثيرة رغم إعراب هذا الشخص لاحقاً عن ندمه.
من الواضح أن استعراض بالودان المعني هنا قد أسهم في عرقلة موضوع انضمام السويد إلى “الناتو”؛ ومن الواضح أيضاً، في السياق ذاته، أن المستفيد الأول من هذا الأمر، وفق المعطيات المعروفة حالياً، هو الروس؛ وكذلك القوى اليمينية المتطرّفة التي تبني سياساتها الدعائية على التحريض ضد المهاجرين، سيما المسلمين منهم، والمطالبة بالتوقف عن استقبال المزيد منهم.
ومن الأساليب التي تعتمد في هذا المجال أسلوب إحراق نسخ المصحف من أجل استفزازهم لدفعهم نحو تصرّفات لا تسمح بها قوانين البلد وأعرافه، حتى يُوظّف الموضوع من المناهضين لهم بأن هؤلاء لا يمكن أن يندمجوا مع المجتمع الجديد، وليس في مقدورهم أن يصبحوا جزءاً فاعلاً منه.
ولكن بعيداً عن أصوات المتطرّفين العالية من الجانبين، هناك شعور عام بين السويديين والمهاجرين المسلمين، الذين حصل القسم الأكبر منهم على الجنسية السويدية وبنوا أسرهم في السويد، بخطورة ما يمكن أن يواجهه المجتمع السويدي بصورة عامة مستقبلا، ما لم تبذل الجهود من أجل التخفيف من التوترات القائمة، تمهيداً لحوارات جادّة، تؤدّي إلى تفاهمات وتوافقات تقطع الطريق على سائر المتطرّفين، بغض النظر عن خلفياتهم وشعاراتهم ومسوّغاتهم.
ويُشار في هذا السياق إلى جهود منظمة الدفاع عن الحقوق المدنية السويدية التي سبق لها وأن تقدّمت بعدة شكاوى إلى الشرطة السويدية والجهات السويدية المختصة، اعترضت من خلالها على استعراضات بالودان السابقة التي أقدم من خلالها على إحراق نسخ من المصحف في أماكن عدة في السويد، إلا أنها لم تحصل على أي قرار؛ وربما كان تفسير ذلك عدم وجود سابقة قانونية يمكن العودة إليها، أو الاستفادة منها، لإصدار حكم في الشكاوى المرفوعة من المنظمة المذكورة.
ومما طالبت به هذه المنظمة اعتبار موضوع إحراق المصحف، أو أي كتابٍ مقدّسٍ لأي دين، منافياً لقانون منع إثارة النعرات المشار إليه، وهذا فحواه منع إحراق الكتب المقدّسة.
وتطالب هذه المنظمة ببيان حدود حرية التعبير التي ينبغي ألّا تصل إلى نقطة الاعتداء على حقوق المكوّنات المجتمعية الأخرى.
وقد بيّنت المنظمة المعنية، في نصوص مذكّرات الشكاوى التي رفعتها إلى الجهات السويدية المسؤولة، أن قانون منع إثارة النعرات ضد المكوّنات المجتمعية يمنع منح التراخيص التي تبيح لأصحابها إحراق الكتب المقدّسة للأديان، ولكن المشكلة أن هذا القانون شبه مجمّد، نتيجة عدم أخذه بالاعتبار لا من الشرطة ولا من الادّعاء العام.
والطريف أنه بينما أنكر حزب ديمقراطيي السويد علاقته بموضوع استعراض بالودان أمام السفارة التركية، رغم أن الذي دفع رسوم الترخيص لاستعراضه هو من العاملين في إعلام الحزب المذكور، انتقد رئيس هذا الحزب، جيمي أوكِسون، تغريدة رئيس الوزراء أولف كريسترسون على “تويتر” التي عبّر من خلالها عن امتعاضه لما حصل، هذا مع إقراره بمبدأ حرية التعبير، وقوله: ليس كل ما هو مسموح به يريحنا؛ وهو الأمر الذي فهم منه أنه بمثابة اعتذارٍ عما حصل.
والأطرف أن رئيس لجنة العدل في البرلمان السويدي، ريتشارد يومسهوف، وهو قيادي في حزب ديمقراطيي السويد، قال: من الخطأ إحراق القرآن، ولكن من الخطأ الاعتذار عما حصل، وإذا كان التركي منزعجاً من موضوع إحراق نسخة من المصحف أمام سفارته، فلنحرق مائة نسخة أخرى.
وهذا فحواه أنه لا توجد نية لدى هذا الحزب لتسويةٍ مقبولة، تمهّد الطريق أمام تفاهماتٍ مع تركيا لتجاوز موضوع تعليقها لموافقتها على انضمام السويد إلى “الناتو”.
والأكثر طرافة أن يومسهوف نفسه يعمل من أجل إصدار قانونٍ يمنع إحراق العلم السويدي، وهو الأمر المسموح به راهناً بناء على قانون حرية التعبير.
ولعل هذا ما دفع ستيفان أولوسن، أحد مسؤولين سابقين في الحزب المعني قبل أن يتركه، إلى القول إن لدى هذا الحزب مرأبا كاملا مملوءا بالمعايير المزدوجة.
يُستنتج مما تقدّم، ومن المناقشات العامة الدائرة في السويد أن قضية إحراق المصحف باتت سياسية في المقام الأول، يستخدمها اليمين المتطرّف لزيادة حجم قاعدته الانتخابية، ولم تعد مجرّد قضية قانونية أو مبدئية لها علاقة بضرورة إعطاء الاعتبار الأول لمبدأ حرية التعبير.
تلقي هذه المواقف وغيرها الضوء على الأزمة العميقة التي تواجهها حكومة يمين الوسط الحالية التي ربطت مصيرها بمساندة حزب ديمقراطي السويد لها، فهي حكومة أقلية، ستسقط بمجرّد أن يسحب هذا الأخير الثقة منها.
لذلك من الأفضل لهذه الحكومة أن تبحث عن خيارات أخرى مع بقية الأحزاب المعارضة في البرلمان، وفي المقدمة الاشتراكي الديمقراطي والوسط؛ وهما الحزبان المعروفان باتزانهما، وقد عبّرا، في أكثر من مناسبة، عن استعدادهما للتعاون مع حزب المحافظين الذي يقود رئيسه الحكومة، بل أعلنا صراحةً أن أبوابهما مفتوحة أمام التشاور والتوافق حول كل ما فيه مصلحة السويد.
هل ستستمرّ الأزمة الداخلية مع اليمين المتطرّف؟ وكذلك الأزمة الخارجية مع تركيا بخصوص ملف “الناتو”؟ هل ستعيد تركيا حساباتها في ضوء التضامن الغربي مع السويد، سواء عبر إغلاق القنصليات في إسطنبول، أم من خلال ما دعت إليه مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي من الحزبين بشأن الربط بين تمرير صفقة الأسلحة لتركيا وموافقة الأخيرة على انضمام السويد إلى “الناتو”؟ .. ليست الأمور واضحة، ولكن في عالم السياسة الوضوح ليس هو الهدف في المقام الأول، وإنما المصالح.
للكاتب/ عبد الباسط سيدا