السويد أحدث المنضمين.. توسّع الناتو وتوازنات الشرق الأوسط السياسيّة
أضحت السويد رسميًا العضو الـ 32 في حلف شمال الأطلس (الناتو)، بعدما تخلّت كلّ من تركيا والمجر عن تحفّظاتهما على هذه العضويّة في وقتٍ سابق.
وبذلك، أنهت السويد نحو سنتين من المفاوضات الشاقّة، التي سعت خلالها إلى تليين موقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان اتجاه طلب عضويّتها، المُقدّم منذ العام 2022 بحسب تحليل نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية.
وبالنسبة إلى السويد، فقد مثّلت هذه المحطّة منعطفًا حاسمًا، لكونها أنهت قرنين من سياسة عدم الانحياز، التي حافظت عليها البلاد بثبات في أزمنة الحرب والسلم على حدٍ سواء.
وعلى الرغم من أنّ السويد دخلت منذ العام 2009 في بعض الشراكات الأمنيّة أو الدفاعيّة المحدودة مع دول أوروبيّة أخرى، فلم يسبق لها أن اتخذت خطوة مثيرة لهواجس –وربما عداء- روسيا، من قبيل الانضمام إلى الناتو.
وفي الوقت عينيه، مثّل هذا الحدث محطّة مفصّليّة بالنسبة لحلف الناتو أيضًا. فبعد هذه الخطوة، التي سبقها انضمام فنلندا إلى الحلف في نيسان/أبريل 2023، أضحت جميع دول بحر البلطيق دولًا أعضاء في الحلف، باستثناء روسيا.
وهذا ما دفع بالكثيرين إلى إعتبار توسّع الناتو في شبه الجزيرة الاسكندنافيّة فشلًا ذريعًا لسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إذ أنّ أهم أهداف بوتين من اجتياح أوكرانيا كان منعها من الانضمام إلى الناتو، لكن هذه العمليّة دفعت في المقابل دولًا مهادنة إلى حضن الناتو، خوفًا من طموحات الكرملين التوسعيّة.
لم تكن كل هذه الأحداث بعيدة عن توازنات الشرق الأوسط السياسيّة. فبعض هذه التوازنات الشرق الأوسطيّة، لعبت دورًا في مجريات توسّع حلف الناتو، كتلك المرتبطة بموقف تركيا المتردد من انضمام فنلندا ثم السويد إلى الحلف.
وفي المقابل، كان من الواضح أن توسّع الحلف سيترك أثرًا على علاقة روسيا ببعض ملفّات الشرق الأوسط، وخصوصًا تلك التي تتصل بإيران والنزاعات الدائرة في أكثر من بلدٍ عربي.
أردوغان والمساومات لتحقيق مكاسب إقليميّة
من المعلوم أن انضمام أي دولة جديدة إلى الناتو يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء، بالنظر إلى مسؤوليّة جميع دول الحلف عن سلامة أراضي العضو الجديد في حال انضمامه، بحسب المادّة الخامسة من ميثاق الناتو.
وبهذا الشكل، كانت تركيا تمتلك، بوصفها عضوًا في الناتو، حق النقض الذي يمكن أن يمنع أو يؤخّر أو يفرض شروطه على انضمام أي دولة للحلف.
وبالفعل، استخدمت تركيا هذا الحق لتعترض على دخول فنلندا والسويد للحلف، بعدما تقدّمتِ الدولتان بطلب الانضمام في أيّار/مايو 2022.
وفي تلك المرحلة، ربط كثيرون قرار أردوغان بعلاقاته الجيّدة بالكرملين، التي حافظ عليها حتّى بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
بل وذهبت بعض التحليلات المتسرّعة والمُبالِغة للقول بأنّ أردوغان يتذرعُ ببعض الحجج الأمنيّة، لخدمة بوتين ومنع توسّع الناتو، بحثًا عن مصالح اقتصاديّة معيّنة تجمع ما بين روسيا وتركيا في قطاعات عدّة.
غير أن مجريات الأمور سرعان ما بيّنت أن هدف أردوغان الحقيقي لم يكن الحؤول دون انضمام السويد وفنلندا للحلف بالمطلق، بل المساومة لتحصيل بعض المكاسب منهما ومن شركائه الغربيين في الناتو، قبل الموافقة على طلب الانضمام.
ولهذا السبب، وبعد تحقيق هذه المكاسب فعلًا، وافقت تركيا على طلب انضمام فنلندا في آذار/مارس 2023، ثم وافقت على طلب السويد في كانون الثاني/يناير 2024.
منذ البداية، أراد أردوغان استعمال هذه الورقة لتشديد الخناق على حزب العمّال الكردستاني، الذي تعتبره السلطات التركيّة المحرّك الأساسي لقوّات سوريا الديموقراطيّة.
وعلى هذا الأساس، وكشرط للموافقة على انضمامهما للناتو، طلب أردوغان من فنلندا والسويد مجموعة من الإجراءات التي تضمن حظر تصدير الأسلحة إلى قوّات سوريا الديمقراطيّة.
كما طلب التضييق على أنشطة “المنظمات الإرهابيّة” الموجودة على أراضي الدولتين، في إشارة إلى تحرّكات الناشطين الانفصاليين الأكراد هناك.
بناءً على المطالب التركيّة، شكلت الدول الثلاث (تركيا وفنلندا والسويد) إطارًا ثلاثيًا لمتابعة تنفيذ هذه الشروط، والحصول على موافقة أنقرة على طلبَي العضويّة.
خلال تلك المرحلة، وامتثالًا للشروط التركيّة، اضطرّت السويد لتطبيق آليّة لتسليم المطلوبين الأمنيين للسلطات التركيّة، بعد الكشف عن الأدلّة والوثائق التي تدينهم.
كما اضطرّت لتبنّي تشريعات وتعديلات دستوريّة توسّع نطاق آليّات مكافحة الإرهاب، لتتلاءم مع المعايير التي طلبتها أنقرة.
وعلى النحو عينيه، تعاونت فنلندا بتسليم بعض المطلوبين الأمنيين لأنقرة. كما تعهّدت بمنع أنشطة حزب العمّال الكردستاني على أراضيها، بما فيها “المنظمات المرتبطة به أو التي تعمل واجهة له وكذلك الأشخاص الذين يعملون لصالحه أو لهم علاقة به، بما في ذلك الناشطين في جمع الأموال وتحشيد الأنصار والدعاية”.
وبشكلٍ عام، كانت فنلندا أسرع من السويد في الامتثال لطلبات أردوغان، بسبب عدم وجود عوائق دستوريّة أو قانونيّة تحول دون هذا التعاون، وهو ما يفسّر موافقة تركيا على طلب انضمام فنلندا للناتو بشكلٍ أسرع.
دور صفقة الطائرات الأميركيّة
في بداية مفاوضاته لقبول السويد وفنلندا في الناتو، لم يربط أردوغان موافقة بلاده بأيّ شروط اتجاه الولايات المتحدة الأميركيّة.
لكن مع مرور الوقت، تبيّن أن الإدارة الأميركيّة تعمّدت التريّث في قبول الطلب الذي تقدّمت به أنقرة لشراء 40 مقاتلة أف 16، وتحديث 79 طائرة مقاتلة موجودة لدى تركيا. وبدا من الواضح أنّ إدارة بايدن أرادت إعتماد هذه الصفقة لزيادة الضغط على الرئيس التركي، في ملف توسعة حلف الناتو.
وبالطريقة عينيها، انتقل أردوغان بدوره إلى ربط الموافقة على طلب السويد بتمرير صفقة الأسلحة التي تطلبها بلاده من الولايات المتحدة.
هكذا، وبعد ثلاثة أيّام فقط من موافقة البرلمان التركي على طلب السويد، وافقت الحكومة الأميركيّة على بيع طائرات الـ أف 16 وأنظمة التحديث لمصلحة تركيا، وهو ما أكّد وجود مقايضة واضحة بين الملفّين.
ومن خلال هذه المقايضة، تملّص أردوغان من تقديم أي التزامات أو فرض أي قيود، بخصوص كيفيّة استخدام هذه الأسلحة الأميركيّة بعد شرائها، وتحديدًا في ما يتعلّق بعمليّات بلاده في مناطق شمال سوريا.
التداعيات على نزاعات المنطقة
من المؤكد أنّ توسّع حلف الناتو باتجاه الحدود الروسيّة، عبر ضم فنلندا، وباتجاه مساحات أوسع من بحر البلطيق، عبر ضم السويد، سيزيد من الضغط على النظام الروسي في مواجهته مع الدول الغربيّة.
وذلك مع الإشارة إلى أنّ حدّة هذه المواجهة كانت قد بلغت أوجّها منذ العام 2022، أي منذ بدء الحرب التي يخوضها هذا النظام في أوكرانيا.
كل هذا المشهد، سيدفع بوتين باتجاه المزيد من التعاون والتنسيق مع حلفائه المناهضين للغرب في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا في مجال صفقات الأسلحة، وذلك لتعزيز قدرات بلاده في ظل العقوبات المفروضة عليها.
وتمامًا كما استعان بوتين بالطائرات المسيّرة والصواريخ البالستيّة والقذائف الإيرانيّة خلال الفترة الماضية، سيضطر للاعتماد على المزيد من هذه الصفقات لمواجهة الضغوط الاستراتيجيّة المتزايدة.
وفي النتيجة، قد يضطر بوتين لتقديم بعض التنازلات لحلفائه الإيرانيين في بعض الساحات التي يتنافس عليها الطرفان، مثل سوريا. وهو ما حصل بالفعل مؤخّرًا في بعض مناطق شرق سوريا، مع توسّع نشاط الميليشيات المدعومة من إيران بموافقة ضمنيّة روسيّة.
وفي الوقت عينه، قد تزيد الأحداث الأخيرة من اندفاع بوتين باتجاه التنسيق مع الميليشيات الإسلاميّة المناوئة للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط، مثل حركة حماس وأنصار الله الحوثيون، بهدف فرض ضغط مضاد في مواجهة الولايات المتحدة.
وعلى أي حال، كان بوتين قد استقبل خلال شهر كانون الثاني/يناير 2024 وفديْن من حركتي الحوثي وحماس، بهدف بحث الموقف في ظل التصعيد العسكري الذي تشهده المنطقة.
وهكذا، كان النظام الروسي يعطي إشارات واضحة تدل على سعيه للتدخل الصريح في جميع التوازنات السياسيّة الحسّاسة في المنطقة.
لكل هذه الأسباب، لن تكون منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن أجواء الاستقطاب الدوليّ الحاد بين حلف الناتو ونظام فلاديمير بوتين، الذي ازدادت حدّته بعد التوسّع الأخير للحلف.
أمّا العامل الوحيد الذي يمكن أن يؤدّي إلى تقليصِ الفجوة بين الطرفين، أو على الأقل الحؤول دون المزيد من التصعيد، فهو انطلاق مفاوضات جادّة لإيجاد حلول سلميّة للحرب الدائرة في أوكرانيا.