النخبة في فرنسا في الأزمة بين الرباط وباريس
لم يغب الشعور بنوع من العار عن عديدين من رجال السياسة والمحللين وقطاعات من الرأي العام من النخبة في فرنسا، وهم يتابعون توالي المتاعب (إن لم نقل الهزائم) التي تواجهها باريس.
وتفاقم هذا الشعور حتى صار وعيا شقيّا للنخبة الفرنسية، ربما عاد بجزئها المرتبط بالتاريخ إلى الهزيمة النكراء أمام بروسيا في 1870 .
ولعل سياسيين ومحللين وإعلاميين ومثقفين كثيرين (أمثال بيير روزانفالون) قد استعادوا السؤال الذي طرح وقتها: من المذنب في هذا؟ علاوة على محاولة الفهم المرتبطة به، هناك مناخ عام شبيه، أمام طرد فرنسا من جغرافيتها الأفريقية، وفشلها في التموقع على الخريطة الجيو سياسية، أوروبيا ودوليا كما هو حال التموقع في مجريات الحرب الأوكرانية – الروسية.
ويستدعي هذا الشعور العام بالعجز ذاكرة تاريخية أعمق، من خلال الحاجة إلى الإصلاح الثقافي والأخلاقي الضروري الذي سبق للمؤرّخ والمفكّر الفرنسي إرنست رينان أن عبر عن الحاجة إليه، في كتاب بالعنوان نفسه.
والواضح أن الموضوع، كما هو مطروح على فرنسا ماكرون، متراكب الأبعاد: سياسي واجتماعي وقيمي، ولعل ذلك ما استوجب “المقارنة التاريخية” حول السؤال المركز: لماذا ننهزم؟
في جزء من الجواب، هناك العجز المحسوب على الرئيس ماكرون نفسه، من خلال ثلاثة مؤشّرات على الأقل: 67% من الفرنسيين يعتبرون أن ماكرون “بدون رؤية للبلاد”، حسب استطلاع للرأي نشر في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بل ذهب التحليل العام إلى أنه رئيس دولة “بدون مشروع”.
فرنسا مع الرئيس المنتخب حديثا صارت “رجل أوروبا المريض” وتحوّل جزء مهم من أذرعه الإعلامية الى منصّات لقصفه، وكشف قصوره الجيواستراتيجي في قراءة تاريخ العلاقات الفرنسية وحاضرها.
تصاعد الأصوات، ولا سيما في الأوساط الجمهورية المألوفة، لتنبيهه أولا، ثم تحذيره قبل مهاجمته على خياراته الجيواستراتيجية، ولا سيما في حوض المتوسط والقارة الأفريقية. ومن زاوية مغربية محضة، يرى عديدون أن هذه المؤشّرات الثلاثة ظهرت بجلاء في تعامل الإليزيه مع المغرب، ومحاولة “الاستثمار” في الجمود الذي يطبع العلاقات.
ومن المعطيات الحاسمة أن جزءا من الطبقة السياسية (برلمانيون، وزراء سابقون، رؤساء دولة و… و…) خرجوا عن التحفّظ الذي ظلّ يطبع سلوكهم إزاء اختيار رئيس الدولة، وطالبوه علانية بكثير من النضج بقراءة التحوّلات الحاصلة في المنطقة، ومن ضمنها ما يرتبط بقضية المغرب الأولى، قضية الصحراء.
وفي هذا المضمار، ترافع أزيد من 90 برلمانيا فرنسيا في رسالة إلى ماكرون، من أجل خطوة فرنسية متقدّمة نحو الإقرار بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، بل مطالبته بموقف صريح من مغربية الصحراء، ثم ربطه بالدينامية المتزايدة، دوليا، لصالح مغربية الصحراء، على غرار ألمانيا وإسبانيا وهولندا وإيطاليا… إلخ.
كما أن النداء جاء ضمن قراءة وضع العلاقة مع القارة السمراء، والتي تعرف حالات عديدة من “نقط اللاعودة”.
ويرى مراقبون عديدون، وضمنهم الوزير الأول السابق آلن جوبيه، أن المغرب تحوّل من “حليف سابق إلى منافس”، مع ميل واضح إلى ميزان الامتياز لفائدته.
وكان لافتا أن جزءا كبيرا من الطبقة الفرنسية من كل التوجهات، وفي قلبها الحاضنة الجمهورية للرئيس ماكرون، قد عبّر صراحة عن هذا الموقف؛ وقد استرعى موقف زعيم “الجمهوريون” الحزب الوارث للديغولية إريك سيوتي، المعبّر عنه في 16 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز) الانتباه، بل أشّر على عمق التحوّل، وذلك بالدعوة الصريحة “إلى تسوية هذه القضية الاستراتيجية”، من زاوية “تصحيح الأخطاء المُرتكبة في حق المغرب”.
إلى جانب ذلك، كانت نقطة الشرخ الثانية الجديدة في الساحة السياسية الفرنسية دور المغرب في أفريقيا، والذي وصفه سياسيون وبرلمانيون بـ”الجوهري”.
وفي وقت يبدو المغرب فاعلا إقليميا ومقبولا في خريطة الأزمات الأفريقية، تقع باريس في الطرف النقيض من المشهد.
والواضح أن العلاقة بين الرباط وباريس تجاوزت لحظة توصيفها بالجمود والحذر إلى انتقالها إلى جدول الأعمال الفرنسي. وبدون الدخول في تفاصيل صارت معروفة للمتابعين، يواجه ماكرون جزءا من الطبقة السياسية، داخليا، مسنودة بطيف واسع من الرأي العام الفرنسي، يرى أنه يتقدّم بدون رؤية واضحة، ويبحر على حد أرنبة أنفه.
مرّت سنتان على خطاب 20 أغسطس/ آب 2021 الذي توجه فيه العاهل المغربي محمد السادس إلى الرئيس ماكرون لمواصلة العمل ضمن “علاقات الشراكة والتضامن” على قاعدة الالتزام بـ”الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات”.
وقد نجحت الوصفة مع الإسباني بيدرو سانشيز، وكان من نتيجتها أن اعترفت مدريد بمغربية الصحراء وتبوأت المرتبة الأولى شريكا تجاريا، لكن شيئا ما في الاستعداد “الثقافي والأخلاقي” الفرنسي ما زال يحتاج إلى “إصلاح” بلغة المستشرق رينان.
والخلاصة أن كل نقاط الخلاف الفرنسية المغربية تحوّلت إلى نقاط خلاف فرنسية – فرنسية.
وربما يكون هذا استهلالا لخروج ماكرون من دور “لاعب التوازنات” فوق حبل مترنّح مشدود بين عواصم شمال أفريقيا إلى دور رئيس الدولة الذي يقرأ جيدا التحوّلات الكبرى فيها.
للكاتب/ عبد الحميد اجماهيري