تحليل أوروبي: النزاع الداخلي في السودان يهدد بتفكك بنية الدولة
حذر تحليل أوروبي تناول الحرب الأهلية السودانية وأبعادها الإنسانية والإقليمية، من أن استمرار النزاع الداخلي بين الجيش السوداني والميليشيات المسلحة يهدد بتفكك بنية الدولة.
وأبرز التحليل الصادر عن مؤسسة “فنك” أنه بين شهري كانون الأول/ديسمبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024، توسعت الحرب الأهلية السودانية بشكلٍ كبيرٍ، وذلك لتشمل الاشتباكات بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني، ثاني أكبر مدن البلاد بعد العاصمة الخرطوم.
ومنذ ذلك الوقت، دخلت الحرب مرحلة حساسة على المستوى الإنساني، إذ يقيم في ولاية الجزيرة وحدها أكثر من 5.9 ملايين نسمة.
كما أن الحرب باتت تكتسبُ حساسية خاصة على مستوى الأمن الغذائي السوداني، لكون الولاية تضم أكبر مشروع زراعي في أفريقيا، ما يدفع البعض إلى اعتبارها “سلة غذاء السودان”.
توسع الحرب وتفاقم الأزمة الإنسانية
ونتيجة توسع الحرب الأهلية في ولاية الجزيرة، ارتفع عدد الذين غادروا منازلهم بحلول كانون الثاني/يناير 2024 إلى أكثر من 7.7 مليون مُهجر، وفقًا لأرقام المنظمة الدولية للهجرة.
ومن بين هؤلاء، ثمة 6 ملايين شخص من الذين اضطروا للنزوح إلى مدن وقرى أخرى داخل السودان، في حين لجأ 1.7 مليون شخص إلى دول مجاورة، مثل جنوب السودان وتشاد وإثيوبيا ومصر وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا. وهذا ما يجعل الحرب الأهلية السودانية اليوم مسؤولة عن أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم.
غير أن تجليات الأزمة الإنسانية في السودان لم تقتصر على أزمة النزوح وحدها. فلسوء الحظ، كانت عمليات النهب والسطو المسلح إحدى الممارسات التي قامت بها بشكل منظمٍ الميليشيات المنخرطة في المعارك، وخصوصًا ميليشيا قوات الدعم السريع. إذ طالت هذه العمليات مدنًا وأحياء وقرى بكاملها، وفي جميع المناطق التي طالها النزاع المسلح.
وبشكل عامٍ، كان المقاتلون يصادرون كل ما يمكن مصادرته بعد السيطرة على كل منطقة، من متاجرٍ وسيارات وأدوات زراعية، وصولًا إلى المساعدات الإنسانية والمستلزمات الصحية والصيدليات. وبهذا الشكل، باتت العديد من المناطق السودانية، ومنها بعض أحياء العاصمة الخرطوم، غير قابلة للحياة في ظل الفوضى وسيطرة الميليشيات، وتآكل بنية المؤسسات الرسمية الأمنية.
أما الأسوأ، فكان عودة المجازر وأعمال التطهير العرقي، على أساس قبلي أو إثني، وخصوصًا في منطقة دارفور. إذ تشير الأرقام حاليًا إلى أن أكثر من 15 ألف سوداني قد قُتلوا منذ بداية النزاع المسلح الأخير، جراء أعمال عنف عرقية قامت بها ميليشيات الدعم السريع في دارفور.
كما تفيد شهادات جرى تقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية بأن عددَ المخطوفين من قبيلة المساليت بالتحديد قد تجاوز الـ 2700 مخطوف، في حين بات هناك أكثر من مليون سوداني في ولاية غرب دارفور في عداد المهجرين الذين ينتظرون المعونات الإنسانية.
الفئات الهشة: قسوة الحرب على النساء والأطفال
وكما هي الحال في جميع الحروب، مثلت النساء الفئة الأكثر هشاشة، والأكثر تأثرًا بتداعيات أعمال العنف. إذ سجل مكتب المفوض الأممي لحقوق الإنسان في السودان نحو 105 حالات مؤكدة من العنف الجنسي ضد النساء، بعدما تحولت أعمال الاغتصاب إلى جزء من الممارسات التي تقوم بها الميليشيات ضد الشرائح الاجتماعية المنوي تهجيرها.
ونسبَت المفوضية 70% من حالات العنف الجنسي المؤكدة إلى مقاتلين يرتدون زي قوات الدعم السريع، بينما نُسبَت حالة واحدة إلى مقاتل يرتدي زي الجيش النظامي.
في المقابل، تؤكد الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة على أن حالات العنف الجنسي الموثقة رسميًا لا تمثل أكثر من 2% من إجمالي حالات العنف الجنسي التي حصلت، بحسب معلوماتها عن ما يجري ميدانيًا.
إذ أن الغالبية الساحقة من حالات العنف الجنسي لا يجري توثيقها رسميًا بسبب الظروف الأمنية المتدهورة في مناطق القتال، وبفعل خشية الضحايا من الميليشيات المهيمنة في مناطقهم، فضلًا عن صعوبة وصولهن إلى المرافق الصحية.
مع الإشارة إلى أن نحو 85% من عمليات الاغتصاب الموثقة جرت في منطقة دارفور ومدينة الخرطوم، في دلالة إضافية على قسوة عمليات التهجير التي جرت هناك.
أما على مستوى الأطفال، فتمثلت الظاهرة الأخطر في عودة مخيمات تجنيد الأطفال لمصلحة الميليشيات المحلية، بعدما أقفلت المدارس والجامعات في 90% من أنحاء البلاد، وبات 19 مليون طفل سوداني خارج مقاعد الدراسة.
ومن المعلوم أن ظاهرة تجنيد الأطفال لطالما كانت أزمة كبيرة في النزاعات السابقة التي شهدتها السودان، غير أن ارتفاع معدلات الفقر والنزوح، وازدياد حاجة الأسر للمداخيل المالية، ساهما في تفشي هذه الظاهرة خلال النزاع الحالي، وعلى نحو غير مسبوق.
ومن المهم الإضاءة هنا على بيانات سيوبان مولالي، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالاتجار بالأشخاص، التي أشارت إلى انتشار ظاهرة تجنيد الأطفال بشكلٍ كبيرٍ في مناطق ضواحي الخرطوم ودارفور وغرب كردفان. كما سلطت الضوء على ظاهرة اختطاف الفتيات من الخرطوم لأغراض الاستغلال الجنسي، بما في ذلك الاستعباد الجنسي.
الأبعاد الإقليمية للحرب
منذ بدايات الحرب في نيسان/أبريل 2023، تبادل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الاتهامات بالاستفادة من دعم خارجي، بغية الإحتفاظ بالسلطة.
غير أن هذه الاتهامات المتبادلة ظلت في نطاق العبارات المبهمة والغامضة، من دون الغوص في تحديد الأطراف الخارجية أو الدول المعنية بهذه الاتهامات.
ومن الواضح أن الطرفين تجنبا تسمية هذه الأطراف الإقليمية، لتفادي استفزاز الدول المؤثرة في الملف السوداني، والتي تتدخل بالفعل في النزاع المسلح.
لكن بحلول كانون الثاني/يناير 2024، بدأ الجيش السوداني بالبناء على الاتهامات بشكلٍ ملموسٍ، بعدما قرر تجميد عضوية البلاد في الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد).
وجاءت هذه الخطوة بعدما اعتبرت وزارة الخارجية السودانية، التي يهيمن عليها مجلس السيادة بقيادة الجيش، أن “إيغاد” تلعب دورًا منحازًا لصالح قوات الدعم السريع.
كما اعتبرت الوزارة أن دعوة قائد قوات الدعم السريع محمد دقلو لحضور اجتماعات “إيغاد” يمثل خرقًا للسيادة السودانية، مع العلم أن دقلو لا يملك بالفعل أي صفة تمثيلية، لحضور قمة من هذا النوع.
ومن المهم التنويه إلى أن “إيغاد” تضمُ إلى جانب السودان، كُل من إثيوبيا وإريتريا وأوغندا وكينيا والصومال وجنوب السودان وجيبوتي. وكانت الهيئة قد تأسست عام 1996 كمنظمة إقليمية تضم دول القرن الإفريقي، بهدف تعزيز الأمن والتكامل الاقتصادي، بالإضافة إلى الاهتمام بشؤون الأمن الغذائي وحماية البيئة.
وفي بداية الحرب الدائرة حاليًا، حاولت “إيغاد” لعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة. غير أن الجيش السوداني ظل متوجسًا من تأثير أثيوبيا وأوغندا داخل الهيئة، ومن علاقة الدولتين بميليشيا قوات الدعم السريع وهذه الهواجس قد تفاقمت تلقائيًا بعد زيارة قائد قوات الدعم السريع محمد دقلو كل من أثيوبيا وأوغندا في أواخر العام 2023، في جولة خارجية نادرة لم تتضح أهدافها ودوافعها الفعلية.
وبذلك، فقدت “إيغاد” قدرتها على التوسط، إلى أن سحب الجيش السوداني بلاده من عضوية “إيغاد” مؤخرًا.
أدوار الإمارات وفاغنر ومصر
إلى جانب خشيته من تأثير جيرانه في القرن الأفريقي، غالبًا ما ينظر الجيش السوداني بعين الريبة إلى دور دولة الإمارات العربية المتحدة في النزاع الدائر.
إذ يتهم قادة الجيش النظام الإماراتي بتقديم الدعم العسكري لمليشيات قوات الدعم السريع، من خلال معابر متعددة لتهريب الأسلحة والعتاد، عبر أوغندا وأفريقيا الوسطى ودول أفريقية أخرى.
أما هدف الإمارات من التحالف مع ميليشيا قوات الدعم السريع، فليس سوى الاستفادة من مناجم الذهب التي تقع تحت سيطرة هذه الميليشيات في السودان، عبر شركة كالوتي الإماراتية التي تتولى الإتجار بالذهب المهرب، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
في المقابل، برزت خلال السنوات الماضية شركة فاغنر الروسية، كإحدى أبرز الأطراف الخارجية الداعمة لمليشيا قوات الدعم السريع، من دون أن يتضح حتى اليوم مصير هذه العلاقة بعد مقتل مؤسس فاغنر، يفغيني بريغوجين.
وكانت صحيفة وول ستريت جورنال قد أشارت إلى أن بريغوجين قابل قادة ميليشيا قوات الدعم السريع قبل أيام قليلة من مقتله، حيث تلقى بريغوجين خلال ذلك اللقاء “هدية” هي عبارة عن سبائك من الذهب المُستخرج من السودان. وفي ختام اللقاء، وعد بريغوجين بدعم ميليشيا قوات الدعم السريع في معركتها ضد الجيش، مقابل حصوله على مزيدٍ من الذهب.
وبالإضافة إلى الإمارات وفاغنر، حصلت ميليشيا قوات الدعم السريع على دعمٍ عسكري لافت من قوات اللواء خليفة حفتر في ليبيا.
وجاء هذا الدعم كرد جميل، بعدما أرسلت ميليشيا قوات الدعم السريع مئات المقاتلين السودانيين إلى ليبيا عام 2019، لدعم حفتر في معركته للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس.
في المقابل، مازال الجيش السوداني النظامي يحظى بعلاقةٍ مميزةٍ بالجيش المصري، الذي ينظر بدوره إلى الحرب الأهلية السودانية كتهديد لأمن مصر القومي. وكانت ميليشيا قوات الدعم السريع قد بثت مشاهد في بدايات المعركة -خلال شهر نيسان/أبريل 2023- لما قالت أنه “استسلام كتيبة من الجيش المصري” في قاعدة مروي شمال السودان.
وجاءت هذه المشاهد لإثبات تلقي الجيش السوداني دعمًا ميدانيًا مباشرًا من جانب الجيش المصري، بينما رد الجيش المصري بالإشارة إلى أن قواته كانت موجودة “في إطار تدريبات مشتركة مع الجيش السوداني”.
في النتيجة، تستمر الحرب حتى اللحظة، مدعومةً بتطلعاتٍ وأطماع القوى الإقليمية المتورطة في دعمِ الأطراف المحلية المتنازعة.
وبينما تبرز التداعيات الإنسانية القاسية كنتيجة بديهية لهذه الحرب، تظهر في الوقت عينيه مشكلة أخرى، وهي الإطاحة بمسار التحول الديمقراطي، الذي كان من المفترض أن يفضي إلى عودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم الحكم للسلطات المنتخبة.
وبغياب هذا المسار السياسي، سيبقى الشعب السوداني أسير النزاع ما بين الجيش الذي يسيطر على المؤسسات الدستورية، والميليشيات التي تسهم في تفكك بنية الدولة.