دراسة: النظام التونسي يواجه معارضة سياسية ونقابية شرسة
أبرزت دراسة أصدرتها مؤسسة “فنك” الأوروبية، ما يواجهه النظام التونسي من معارضة سياسية ونقابية شرسة على خلفية أزمات مركبة تعاني منها البلاد.
وبحسب الدراسة تتصاعد انتقادات القيادات النقابية التونسية في وجه النظام التونسي ورئيسه قيس سعيد، وصولًا إلى حد تحذير الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي من “طوفان اجتماعي كبير” غير معروف التداعيات.
وفي نبرة مستجدة وعالية اللهجة، حذر الطبوبي في تصريح آخر من احتجاجات حاشدة سينظمها الاتحاد، “لاحتلال الشوارع” والدفاع عن خيارات ومصالح الشعب.
تصريحات الطبوبي لم تكن سوى عينة من المواقف النقابية التي بدأت برفع شعارات التحدي الصريح مؤخرًا، رفضًا للسياسات الاقتصادية التي بدأ النظام التونسي باعتمادها، للتمكن من الحصول على حزمة إنقاذ مالي جديدة من صندوق النقد الدولي.
مع الإشارة إلى أن تونس تتميز بوجود حركة نقابية فاعلة ومؤثرة، ومن ضمنها الاتحاد العام التونسي للشغل، أبرز الاتحادات النقابية العامة التونسية الذي يضمُ أكثر من مليون عضو، والقادر على شل الدولة والحركة الاقتصادية في أي إضراب محتمل.
أما التطور الأكثر أهمية، فكان انتقال الاتحاد العام التونسي للشغل إلى رفع شعارات ذات طابع سياسي مناهضة للنظام، متخليًا عن سياسة المهادنة والابتعاد عن هذا النوع من الشعارات، التي اعتمدها في مراحل سابقة.
فالاتحاد بات يستبعد إيجاد أي حل اقتصادي دون حل المشاكل السياسية، وهو ما دفعه إلى مطالبة النظام بالابتعاد عن سياسة الهروب إلى الأمام والمغامرات غير محسوبة النتائج.
كما بدأ الاتحاد بالتصويب على سعيد نفسه، عبر الحديث عن تفرده بالسلطة، ورفض النقابيين لسياسة التهويل بالسجون والاغتيالات.
بالتوازي مع هذا التصعيد النقابي القوي، تتصاعدُ وتيرة التصعيد السياسي الذي تمارسه المعارضة في وجه النظام. فالمعارضة تلقفت جيدًا نسبة الاقتراع المنخفضة جدًا التي شهدتها الانتخابات النيابية الأخيرة، خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2022، والتي قاربت 11.22%.
بالنسبة للمعارضة، تدل هذه النسبة المنخفضة على فشل النظام في تعزيز مشروعيته الشعبية، بعد أن طالبت جميع قوى المعارضة الأساسية بمقاطعة تلك الانتخابات.
ولذلك، وبالاستناد إلى ضعف الإقبال الشعبي على الانتخابات، بدأت رموز المعارضة السياسية بالدعوة للإطاحة بقيس سعيد، ومن ثم التأسيس لعملية ديمقراطية تعيد إنتاج المؤسسات الدستورية من جديد.
عند وصول قيس سعيد إلى سدة الحكم في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عمل الاتحاد العام التونسي للشغل على تفادي الصدام المباشر مع سعيد، محاولًا انتزاع بعض المكاسب النقابية من الرئيس الجديد.
بل ثمة الكثير من الآراء التي تتهم الاتحاد بمساندة انقلاب 25 يوليو/تموز 2021 ضمنيًا، ولو أن الاتحاد حاول الحفاظ على مسافة من النظام عبر توجيه بعض الانتقادات لسياساته، أو تنظيم بعض الإضرابات القطاعية المتفرقة.
إلا أن التوتر سرعان ما بدأ بالظهور تدريجيا خلال أواخر عام 2022 ما بين الحركة النقابية بمختلف مكوناتها، والرئيس التونسي، وصولًا إلى التصعيد الخطير الذي شهدته الأيام الماضية، وهو بات ينذر بصدام وشيك ما بين الطرفين.
ولفهم أسباب هذا التصعيد، لا بد من العودة إلى التطورات التي خيبت أمل الاتحاد مؤخرًا، بعدما راهن في البداية على إمكانية تحقيق بعض الإنجازات بالتفاهم مع قيس سعيد.
ففي منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022، وقعت تونس تفاهمًا على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، بما يسمح لها بالحصول على قرض جديد بقيمة 1.9 مليار دولار، مقابل القيام برزمة من الإصلاحات التي طلبها الصندوق.
ومن هذه الإصلاحات مثلًا، بعض الخطوات الموجعة على المستوى الاجتماعي، من قبيل ضبط النفقات الحكومية واحتواء فاتورة أجور العاملين في القطاع العام، وتوسعة قاعدة التحصيل الضريبي. باختصار، ما يطلبه الصندوق ليس سوى زيادة الموارد الضريبية، مقابل اعتماد سياسات تقشفية في الإنفاق.
بالتأكيد يدرك النظام التونسي أن كلفة هذا التفاهم ستتسبب بمزيد من النقمة الشعبية والنقابية عليه. إلا أن النظام يدرك في الوقت نفسه أن خياراته على المستوى الاقتصادي باتت ضيقة، في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها البلاد منذ أواخر 2019، نتيجة تبعات تفشي وباء كورونا وارتفاع أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية.
كما تفاقمت هذه الصعوبات المالية خلال عام 2022 نتيجة تبعات الغزو الروسي أوكرانيا، وما أعقبه من ارتفاع في فاتورة استيراد الغذاء والنفط.
وبالنسبة إلى النظام، سيمثل الاتفاق مع صندوق النقد والالتزام بإصلاحاته “شهادة حسن سلوك”، تسمح له بالاستمرار بالاقتراض من الأسواق العالمية، والحصول على رزمات دعم من دول أجنبية أخرى.
مع الإشارة إلى أن النظام التونسي تلقى أساسًا مواقف داعمة لمفاوضاته مع صندوق النقد من دول كاليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ومن المفترض أن تتمكن السلطات التونسية من الاستفادة من قروض ومشاريع استثمارية من هذه الدول، بمجرد الدخول في برنامج قرض صندوق النقد.
بحسب الاتفاق مع صندوق النقد، على الحكومة التونسية أن تقر الإجراءات المالية المتفق عليها من ضمن ميزانية العام 2023، للدخول في برنامج القرض.
وهذه الميزانية، التي عملت عليها الحكومة التونسية مؤخرًا، تراهن على تقليص العجز في المالية العامة إلى 5.2% من الناتج المحلي خلال 2023، مقارنة ب7.7% خلال العام السابق.
ولتقليص العجز على هذا النحو، ستفرض الميزانية زيادات على الضريبة على القيمة المضافة، لتتراوح بين 13% إلى 19%. كما ستفرض غرامات إضافية قاسية على بعض التحويلات والمدفوعات النقدية، التي تفوق قيمتها ال5000 درهم، بنسبة تصل لحدود ال20%.
وفي النتيجة، من المفترض أن ترتفع نسبة العبء الضريبي إلى 18% من الناتج المحلي خلال العام المقبل، مقارنة ب15% خلال العام 2022، و12% خلال العام 2021.
وفوق ذلك، فرضت الحكومة مجموعة من الإجراءات المالية التي تكمل هذا المسار، من قبيل رفع فواتير مياه الشرب سنة 2022، والاتجاه نحو رفع أسعار المحروقات خلال العام المقبل.
هكذا، بدأت إجراءات الحكومة التونسية الأخيرة تثير حفيظة قطاعات واسعة من العمال وأصحاب المهن الحرة في تونس، الذين بدأوا يستشعرون كلفة هذه المعالجات على مصالحهم المباشرة.
ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم موقف النقابات التي بدأت بإشهار شعارات سياسية ذات سقف مرتفع في وجه قيس سعيد، بعدما رأت في الأزمة الاقتصادية نتيجة لفشل النظام في التعامل مع الملفات المالية.
التصعيد السياسي بعد الانتخابات النيابية
منذ الإعلان عن موعد الانتخابات النيابية الأخيرة، راهنت الغالبية الساحقة من الاحزاب التونسية الأساسية على مقاطعة الانتخابات، لتخفيض نسب الاقتراع قدر الإمكان ونزع مشروعية هذا الاستحقاق.
وشملت قائمة الأحزاب التي قررت مقاطعة الانتخابات حزب النهضة، الحائز على أكبر كتلة برلمانية في انتخابات عام 2019.
كما شملت حزب قلب تونس، صاحب التوجه الليبرالي، والحائز على ثاني أكبر كتلة برلمانية بعد حزب النهضة في انتخابات عام 2019. ودعا للمقاطعة أيضًا كل من حزب العمال والحزب الدستوري الحر، بالإضافة إلى أحزاب جبهة الخلاص الوطني.
اعتبرت جميع هذه الأحزاب أن التعديلات الدستورية التي قام بها قيس سعيد نزعت إلى سلب السلطة التشريعية معظم صلاحياتها، لمصلحة رئيس الجمهورية، ما سيجعل من مجلس النواب مجرد شاهد زور.
كما تحفظت هذه الأحزاب على قانون الانتخاب الجديد، الذي أصدره قيس سعيد قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، والذي أعاد ترسيم الدوائر الانتخابية واعتمد الترشيحات الفردية بدل نظام القوائم الانتخابية.
وجميع هذه التعديلات، تصب في خانة تهميش دور الأحزاب السياسية الكبيرة، مقابل تعزيز دور المرشحين المستقلين، ما سيسهل على النظام التحكم بالبرلمان الجديد بغياب الكتل النيابية الكبيرة.
باختصار، لم ترَ الأحزاب السياسية في هذه الانتخابات سوى حلقة مكملة لما تعتبره انقلابًا بدأ بتنفيذه قيس سعيد منذ 25 يوليو/تموز 2021، حين لجأ سعيد إلى تجميد عمل مجلس النواب السابق وأقال رئيس الحكومة، متذرعًا بصلاحيات الطوارئ المنصوص عليها في الدستور التونسي.
مع الإشارة إلى أن إجراءات سعيد الاستثنائية شملت منذ بعض الوقت إصدار مجموعة من القوانين على شكل مراسيم موقعة من الرئيس وحده، وتنظيم استفتاء على تعديلات دستورية توسع من صلاحياته، بالإضافة إلى حل مجلس القضاء الأعلى.
في النتيجة، وبعد حملة واسعة لمقاطعة الانتخابات التشريعية من قبل الأحزاب الكبيرة في تونس، لم يتمكن النظام من حشد أكثر من 11.22% من الناخبين للمشاركة في الانتخابات.
وهذا التطور، مثل ضربة لمصداقية الانتخابات أمام المجتمع الدولي، وأمام الرأي العام التونسي في الداخل. ولهذا السبب بالتحديد، اعتبرت المعارضة أن قيس سعيد فقد شرعيته نتيجة هذا التطور بالتحديد، كما اعتبرت أنها تمكنت –وللمرة الأولى- من تطويق الانقلاب على المستوى الشعبي.
وبعد كل هذه التطورات، بدأت المعارضة تعد العدة لاستثمار نتائج الانتخابات، عبر البدء بالدعوة إلى إقالة قيس سعيد، بل وحتى محاكمته على ما تعتبره تجاوزات دستورية جرت منذ 25 يوليو/تموز 2021.
ولتعزيز موقفها، بدأت المعارضة بالبحث عن نقاط تقاطع سياسية مع الاتحاد العام التونسي للشغل، في محاولة للاستفادة من مواقف الاتحاد الحادة في وجه النظام، واستعداده للاحتجاج ضد سياساته.
في المحصلة، من الواضح أن تونس ستتجه قريبًا إلى مواجهة حادة ما بين النظام من جهة، والقوى السياسية المعارضة من جهة أخرى.
أما الحركة النقابية، فستسعى إلى بناء مساحة تحرك مطلبية خاصة بها، لتفادي الانجرار نحو هذا الاستقطاب بين النظام ومعارضيه، رغم أن القيادات النقابية بدأت برفع شعارات حادة جدًا في وجه الرئيس التونسي.
وفي هذا المشهد، بدأ الاتحاد العام التونسي للشغل بالبحث عن دور يمكن أن يلعبه لمعالجة الأزمة، عبر قيادة مشاورات مع منظمات المجتمع المدني، كعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، لصياغة مبادرة إنقاذ مشتركة يمكن على أساسها التفاوض مع النظام.
لكن وبمعزل عن مصير هذه المبادرة، من الأكيد أن نظام قيس سعيد سيواجه ضغوطًا استثنائية غير مسبوقة، نتيجة تزامن التصعيد النقابي مع تصعيد المعارضة السياسية. وهذه الضغوط، قد تضع حدًا لتفرد الرئيس التونسي بالسلطة، كما كان الحال منذ يوليو/تموز 2021.