تحليل أوروبي يرصد تحولات عميقة في السياسة الخارجية للجزائر
رصد تحليل أوروبي تحولات عميقة في السياسة الخارجية للجزائر التي تسعى إلى فتح أسواقها أمام الاستثمارات الصينية والروسية، في الوقت الذي تبحث فيه بكين وموسكو عن المزيد من مساحات النفوذ في أفريقيا.
وسلطت مؤسسة “فنك” الأوروبية الضوء على تسارع خطوات نظام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، باتجاه تعميق علاقات بلاده الاستراتيجية مع روسيا والصين، في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وأشارت المؤسسة في تحليلها إلى أنه في يوليو/تموز 2023، حطت طائرة تبون في العاصمة الصينية بكين، بهدف تطوير الخطة الخماسية للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، التي تم الاتفاق عليها قبل سنة واحدة، لتعزيز علاقات البلدين الاقتصادية والاستثمارية وذلك خلال الفترة الممتدة حتى العام 2026.
مع الإشارة إلى زيارة تبون مثلت أول زيارة يقوم بها رئيس جزائري إلى الصين، منذ أكثر من 15 سنة، وهو ما أعطى الخطوة دلالة شديدة الأهمية.
وقبل نحو شهر من هذا الحدث، في يونيو/حزيران 2023، كانت طائرة تبون قد حطت في العاصمة الروسية موسكو، في زيارة أسهمت في الحد من العزلة الدبلوماسية والسياسية، التي يعاني منها حاليًا نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي تلك الزيارة، رفع تبون عناوين حساسة أسهمت في إثارة قلق الولايات المتحدة، مثل التشديد على ضرورة التخلص من هيمنة الدولار واليورو على الاقتصاد العالمي، واعتماد العملات الوطنية في التبادلات التجارية.
كما تحدث تبون عن سعيه لفتح فروع للمصارف الروسية في الجزائر، وزيادة الاستثمارات الروسية في قطاعات الطاقة والغذاء الجزائرية، ما مثل تحديًا للتوجه الغربي الذي يحاول تطويق روسيا اقتصاديًا.
في النتيجة، انتهت زيارة تبون إلى موسكو بتوقيع إعلان “الشراكة العميقة” بين البلدين، وهو ما يفترض أن يمثل اتفاقًا مشابهًا للخطة الخماسية للتعاون الاستراتيجي مع الصين.
كما تمكن تبون من انتزاع تأييد موسكو الكامل لانضمام الجزائر إلى مجموعة “بريكس”، وهو ما يفترض أن يطور علاقات الجزائر الاقتصادية مع روسيا والصين وسائر دول المجموعة، في مواجهة السطوة الغربية على النظام المالي العالمي.
ووقع كل من بوتين وتبون على ثماني معاهدات في مجالات متنوعة، من بينها منظومة القضاء وقطاعات الزراعة والاتصالات والثقافة واستكشاف الفضاء.
حسابات تبون الاقتصادية والسياسية
عمليًا، لطالما احتفظت الجزائر منذ استقلالها بعلاقات استراتيجية مميزة مع كل من الصين والاتحاد السوفياتي سابقًا.
إلا أن الأعوام القليلة الماضية، وخصوصًا تلك التي تلت وصول تبون إلى السلطة عام 2019، قد شهدت تناميًا مضطردًا في علاقات الجزائر السياسية والاقتصادية مع الدولتين، وهو ما عكس تحولًا كبيرًا في وجهة السياسة الخارجية الجزائرية.
بل يمكن القول إن الزيارتين الأخيرتين التي قام بهما تبون إلى موسكو وبكين لم تكونا إلا رأس جبل الجليد الظاهر، في العلاقات الجزائرية مع الصين وروسيا، التي أخذت بالاتساع بسرعة لافتة بين عامي 2019 و2023.
والنقطة الأهم التي ينبغي الالتفات إليها، هي أن هذه التحولات تتزامن الآن مع تنامي استياء النظام الجزائري من نتائج “اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي”، الذي دخل حيز التنفيذ منذ العام 2005، دون أن يحقق للجزائر منذ ذلك الوقت أي مكاسب استراتيجية واقتصادية وازنة.
ومنذ وصول تبون إلى سدة الرئاسة في الجزائر، تكررت مطالباته بإعادة النظر بهذا الاتفاق، دون أن يلقى آذانًا صاغية من جانب الزعماء الأوروبيين.
وبذلك، تأتي خطوات تبون الأخيرة كمحاولة لخلق مساحات بديلة للتعاون الاقتصادي، بما يسمح للجزائر بتقليص اعتمادها على علاقاتها الاستراتيجية المأزومة منذ مدة مع الدول الأوروبية.
وفي الوقت عينه، يدرك تبون اليوم مدى حاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى العلاقة مع نظامه، بالنظر إلى دور الجزائر كمصدر أساسي للغاز الطبيعي، وفي ظل حاجة الدول الأوروبية إلى الغاز الجزائري للتعويض عن تراجع واردات الغاز الروسي.
وهذا ما يدفع تبون اليوم للذهاب بعيدًا في تطوير علاقاته مع روسيا والصين، بعيدًا عن المصالح الغربية التقليدية، دون الخشية من الضغوط الغربية، ومن دون أن تهدد هذه الخطوات بانقطاع علاقات بلاده الاستراتيجية مع الدول الأوروبية بشكل كامل.
بل ويمكن القول أيضًا إن تنامي العلاقات الجزائرية مع الصين وروسيا، تعطي نظام تبون المزيد من أوراق الضغط والقوة التفاوضية في وجه أوروبا، بما يسمح له لاحقًا بتحصيل المزيد من المكاسب في العلاقات الخارجية مع الدول الأوروبية.
ويأتي هذا التوجه الجزائري الجديد منسجمًا مع السياسة الاقتصادية التي انتهجها تبون منذ وصوله إلى السلطة، والتي ركزت على إنعاش واستقطاب استثمارات القطاع الخاص، وتنمية الصادرات غير البترولية، بهدف تقليص اعتماد البلاد المفرط على إيرادات إنتاج الغاز.
وذلك ما دفع الجزائر في يوليو/تموز 2022 إلى إقرار قانون جديد للاستثمار، بهدف تقديم ما يكفي من الضمانات والحوافز والتسهيلات، الكفيلة باستقطاب الرساميل الأجنبية وإنعاش مشاريع القطاع الخاص.
وبذلك، وكجزء من هذا التوجه العام، يسعى تبون اليوم إلى فتح أسواق بلاده أمام الاستثمارات الصينية والروسية، في الوقت الذي تبحث فيه الصين وروسيا عن المزيد من مساحات النفوذ في أفريقيا.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم إصرار تبون على الاجتماع ب 200 مستثمر روسي في موسكو خلال زيارته الأخيرة، ضمن فعاليات “ملتقى رجال الأعمال الجزائري الروسي”، وذلك بالتوازي مع الاجتماعات الرسمية التي عقدها مع المسؤولين الحكوميين الروس.
وضمن فعاليات هذا الملتقى، عرض تبون أمام المستثمرين تفاصيل برنامج الإنعاش الاقتصادي الجزائري المتعدد الأبعاد، مع كل ما يتضمنه البرنامج من تعديلات في البيئة الاستثمارية الجزائرية، بهدف تطمين المستثمرين واستقطابهم.
كما حرص تبون على استعراض تفاصيل الفرص الاستثمارية الموجودة في كل قطاع من القطاعات الاقتصادية في الجزائر، مع استعراض مزايا وآفاق الاستثمار في كل من هذه القطاعات.
خلفيات تطور العلاقات الجزائرية الروسية
تمتلك الجزائر تاريخًا حافلًا من العلاقات الإيجابية مع روسيا، منذ حقبة الاتحاد السوفياتي.
فخلال حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، أرسل الاتحاد السوفياتي المساعدات الإنسانية والعسكرية لجبهة التحرير الجزائرية بشكل غير مباشر، عبر العديد من الوسطاء.
وبعد استقلال الجزائر عام 1962، كان الاتحاد السوفياتي الدولة الأولى التي تعترف بالحكومة الجزائرية الجديدة، وتقيم علاقات دبلوماسية مباشرة معها، ما فتح باب دعم الحكومة الوليدة من قبل حكومات المعسكر الاشتراكي الأخرى.
وهكذا، ورغم تحولها إلى دولة قيادية في معسكر دول عدم الانحياز، فقد حافظت الجزائر على علاقات إيجابية جدًا مع الاتحاد السوفياتي طوال الحرب الباردة، مقابل إبداء حساسية ولهجة حادة اتجاه فرنسا في معظم المراحل.
وكان من الواضح أن هذه السياسة الخارجية كانت مدفوعة بالجروح التي خلفتها حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، والتي مازالت محفورة في الذاكرة الجماعية الجزائرية حتى اليوم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اهتمامًا خاصًا بالعلاقة مع الجزائر، ما دفعه عام 2006 إلى زيارتها شخصيًا، وإعلان إلغاء جميع الديون الروسية المستحقة على الجزائر.
وفي المقابل، التزم نظام عبد العزيز بوتفليقة بشراء الأسلحة الروسية الخفيفة والثقيلة، بما فيها أنظمة الدفاع الجوي والطائرات الحربية والدبابات والسفن الحربية.
ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الجزائر ثالث أكبر زبون في العالم يشتري الأسلحة الروسية، بعد كل من الهند والصين.
مع الإشارة إلى أن الجزائر كانت الدولة الأفريقية الأولى التي تدخل في شراكة استراتيجية من هذا النوع مع روسيا، ما مثل نموذجًا حاولت روسيا تكراره مع سائر الدول الأفريقية.
ومع ذلك، ظل نظام بوتفليقة في تلك المرحلة يوازن في علاقته ما بين الشرق والغرب، فالتزم بمندرجات اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، التي فتحت بدورها الأسواق ما بين الجزائر ودول الاتحاد.
ومع الوقت، كانت الشراكة الجزائرية الأوروبية تفضي تدريجيًا إلى اعتماد الجزائر على المنتجات الأوروبية المستوردة، فاستفادت بذلك الصناعات الأوروبية من إعفاءات جمركية تقارب قيمتها ال30 مليار دولار أميركي.
ولهذا السبب، لم تتمكن الجزائر من تطوير صناعاتها أو صادرتها غير النقطية، كما لم تستفد من الشراكة مع أوروبا على مستوى استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
من هنا، يمكن فهم التحول الكبير الذي قاده تبون بعد مجيئه إلى السلطة عام 2019، من خلال تعميق علاقته مع النظام الروسي، دون التخلي عن دور الجزائر كمورد للغاز باتجاه السوق الأوروبية.
فبعد فرص العقوبات الغربية على روسيا، بات رجال الأعمال الروس بحاجة ماسة إلى أسواق ناشئة ومستقرة تسمح باستيعاب استثماراتهم، بعيدًا عن أسواق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
وهذا ما مثل فرصة بالنسبة للجزائر، التي تبحثُ عن مثل هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي لم تأتِ من دول الاتحاد الأوروبي في المراحل السابقة.
في الوقت عينه، كان النظام الجزائري بحاجة شديدة إلى تطوير عتاده العسكري، في خضم التوترات العسكرية المتصاعدة على حدوده الجنوبية مع مالي.
وهذا ما دفع بالنظام الجزائري للتوسع في عقد صفقات استيراد السلاح الروسي، الذي بات يمثل اليوم 80% من واردات السلاح التي يشتريها الجيش الجزائري.
كما ساهم تنامي نفوذ مجموعة “فاغنر” الروسية في مالي بدفع النظام الجزائري نحو المزيد من التنسيق الأمني والعسكري مع روسيا، لاستيعاب آثار الأحداث في مالي على الحدود الجزائرية الجنوبية.
ومن جهة أخرى، وتمامًا كما أعلن بوتين بصراحة في القمة الروسية الأفريقية التي انعقدت في يوليو/تموز 2023، تبحث روسيا اليوم عن ممرات تجارية آمنة تربط ما بين روسيا ودول أفريقيا، لزيادة صادرات روسيا، بعيدًا عن الممرات والمضائق التي تؤثر عليها دول الاتحاد الأوروبي.
وهذا ما يدفع بوتين إلى التركيز على الجزائر، بوصفها أحد المداخل الشمالية للقارة الأفريقية، التي تسمح بربط الموانئ الروسية على شواطئ البحر الأسود بدول وسط وشرق وجنوب أفريقيا.
كما أن هذا ما يفسر تركيز مداولات تبون وبوتين في موسكو على مشاريع الاستثمار الروسي في البنية التحتية الجزائرية.
رهان الجزائر على الاستثمارات الصينية
تمامًا كحال علاقتها مع روسيا، تمتلك الجزائر تاريخًا حافلًا من العلاقات الإيجابية مع الصين، وهو ما يمثل قاعدة يستند إليها تبون اليوم لتطوير شراكته الاستراتيجية مع نظام الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتعزيز الثقة بين الجانبين.
فجمهورية الصين الشعبية دعمت عام 1962 استقلال الجزائر عن فرنسا، فيما كانت الجزائر إحدى الدول ال23 التي رفعت عام 1971 اقتراح استعادة الصين لتمثيلها ومقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي.
وبذلك، ساهمت الجزائر في تلك المرحلة باستعادة اعتراف الأمم المتحدة بالنظام الشيوعي في الصين، بعد أن تم حرمان الصين من وضعها القانوني في الأمم المتحدة منذ انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية عام 1949.
بعد العام 2019، حرص تبون على تنمية علاقة بلاده مع الصين، بهدف تنويع مصادر تمويل النظام الجزائري.
ولهذا السبب، وخلال السنوات التي تلت تولي تبون رئاسة الجزائر، أصبحت الصين المقرض والممول التجاري الأول للجزائر، وبنسبة ناهزت ال17%.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، وقعت الجزائر على الخطة التنفيذية لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، بهدف اجتذاب الاستثمارات الصينية في قطاع البنية التحتية الجزائري، بعد أن وقع الطرفان خلال العام نفسه اتفاقية “للتعاون الاستراتيجي الشامل”.
وهكذا، تنامت الاستثمارات الصينية في قطاعات النقل والشحن والطاقة والبناء واستخراج الفوسفات في الجزائر، كجزء من الاستراتيجية الصينية القائمة على التوسع الاستثماري في أفريقيا.
ثم جاءت زيارة تبون الأخيرة إلى بكين، التي تمكن خلالها من استقطاب استثمارات جديدة بقيمة 36 مليار دولار.
ومن هنا، يبدو من الواضح أن رهان تبون على الاستثمارات الصينية قد نجح بالفعل خلال السنوات الماضية، إذ تحولت الجزائر بحلول العام 2023 إلى أحد أهم أربع وجهات للاستثمارات الصينية في أفريقيا، إلى جانب جنوب أفريقيا ونيجيريا والكونغو الديمقراطية.
كما بات هناك حاليًا أكثر من 700 شركة ومؤسسة صينية نشطة في الجزائر، في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وفي جميع الحالات، تركز الجزء الأكبر من الاهتمام الاستثماري الصيني بالجزائر في قطاع الطاقة تحديدًا، وذلك بالنظر إلى وضعية الجزائر كمصدر للنفط والغاز، في مقابل اعتماد الصين على استيراد مصادر الطاقة لتشغيل قطاعاتها الصناعية.
وبهذا الشكل، تسعى الصين إلى ضمان أمن الطاقة لديها، في ظل الاضطرابات التي شهدتها سلاسل توريد النفط والغاز مؤخرًا.
أما الجزائر، فتحاول الاعتماد على الشركات الصينية، لتطوير أنشطة تكرير النفط وإنتاج مشتقاته، بدل الاكتفاء بتصدير المنتجات البترولية فقط.
في خلاصة الأمر، يحاول تبون من خلال هذه المقاربة الابتعاد عن الاعتماد الشديد على علاقات بلاده الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، كما كان الحال سابقًا.
وبالتوازي مع ذلك، يسعى تبون إلى تنمية القطاعات الجزائرية المنتجة، والكفيلة بتوفير فرص العمل وتحقيق التنمية الاقتصادية، فضلًا عن تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الارتهان لعوائد تصدير النفط والغاز.
لكن من جهة أخرى، يشير كثيرون على ضرورة حفاظ الجزائر على التوازن في علاقاتها الخارجية، من خلال الإبقاء على مساحات معينة من التعاون الاستراتيجي مع دول الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل السوق الأهم والأكبر للغاز الجزائري.
فتنويع العلاقات الخارجية، يفرض على الجزائر عدم الإفراط في اعتمادها على تعاونها المستجد مع الصين وروسيا، على حساب الشركاء الاقتصاديين التقليديين.