ماذا وراء دعوة زيلينسكي لحضور قمة جدة؟
اعترتني دهشة كبيرة حين فوجئت بوجود الرئيس الأوكراني فلودويمير زيلينسكي حاضرا في القاعة التي احتشد فيها قادة الدول العربية المشاركون في مؤتمر القمّة الذي انعقد في جدّة.
وسرعان ما تحوّلت الدهشة إلى ما يشبه الذهول، حين دُعي الرجل إلى إلقاء خطاب في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر.
إذ أن زيلينسكي ليس رئيسا لدولة كبرى تبرّر حرص العرب على دعوتها إلى مناسبة قومية كهذه، ولا يمثل منظمة عالمية أو إقليمية تقيم معها جامعة الدول العربية علاقاتٍ مؤسّسيةً تستدعي دعوتها للحضور مراقبا.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن دولة أوكرانيا مشتبكة في حربٍ ضروسٍ ضد روسيا يديرها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، لتبيّن لنا بوضوح أن من شأن مشاركة رئيسها في قمّة عربية تعقد في مثل هذا التوقيت بالذات إشاعة حساسيات والتسبب للعالم العربي في مشكلات هو في غنىً عنها.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن تثور تساؤلاتٌ ملحّة حول ما إذا كانت السعودية، بوصفها الدولة المضيفة قمّة جدّة، تملك حقّ الانفراد بمبادرةٍ من هذا النوع، وما إذا كانت قد تشاورت بشأنها مسبقا مع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وحصلت منها على موافقة صريحة أو ضمنية، تضاف إلى تساؤلاتٍ أخرى بشأن أسباب هذه المبادرة ودوافعها ودلالاتها والنتائج المحتملة لها.
لا تتوفّر لدينا معلومات موثقة لمعرفة ما إذا كانت السعودية قد تشاورت بشأن دعوة زيلينسكي مسبقا مع الدول العربية.
غير أن تصريحات منسوبة إلى مسؤولين سعوديين توحي بأننا إزاء مبادرة سعودية خالصة، تم تبريرها بحرص المملكة على تأكيد موقفها المحايد من الأزمة الأوكرانية، ورغبتها في الإسهام في جهود الوساطة الدولية الرامية إلى إيجاد تسوية سلمية لها.
ومع التسليم بحقّ السعودية في اتخاذ أي موقف سيادي تراه ملائما، إلا أن تباين مواقف الدول العربية ورؤاها تجاه الأزمة الأوكرانية يفرض عليها تجنّب خلط الأوراق.
ومن ثم كان الأحرى توجيه دعوة خاصة لزيلينسكي لزيارة السعودية، بدلا من دعوته لحضور قمّة عربية.
لذا أرجّح أن تكون لهذه المبادرة علاقة مباشرة بالدور الذي لعبته الرياض لفتح الطريق أمام سورية لاستعادة مقعدها في جامعة الدول العربية، ولتمكين الرئيس بشار الأسد من المشاركة بنفسه في قمّة جدّة، وهو دور لم يلق أي ترحيب من إدارة الرئيس الأميركي بايدن، بل واعترضت عليه صراحة ورأت فيه دليلا إضافيا على رغبة السعودية في الابتعاد عن الارتباط بالسياسة الخارجية الأميركية.
هنا نكون إزاء أحد احتمالين، الأول: أن تكون هذه المبادرة نابعة من رؤية وطنية سعودية خالصة، تستشعر المخاوف الأميركية والغربية من تطبيع العلاقات العربية مع نظام بشار الأسد، ومن ثم تستهدف منها طمأنة حلفائها الغربيين بأنها لا تزال حريصة على استمرار علاقاتها التقليدية القوية بهم وعدم الإضرار بمصالحهم، رغم حرصها في الوقت نفسه على مد الجسور مع القوى الدولية الأخرى، خاصة مع روسيا والصين.
وفي هذه الحالة يمكن النظر إلى أن سبب تفضيل السعودية دعوة زيلينسكي إلى إلقاء خطاب أمام القمّة، بدلا من دعوته إلى تأدية زيارة خاصة للمملكة، يعود إلى حرصها على تأكيد قيادتها النظام الإقليمي العربي في المرحلة الراهنة، ورغبتها في دفع هذا النظام إلى التماهي مع المصالح الغربية.
والثاني: أن تكون هذه المبادرة قد جاءت نتيجة ضغوط شديدة مارستها الولايات المتحدة على السعودية، تعكس عدم رضاها عن الانفتاح على نظام الأسد.
خصوصا أنه يأتي في سياق سلسلة مواقف سعودية عكست في مجملها رفض مواصلة الدوران في فلك السياسة الأميركية.
وذلك على أمل تحقيق الأهداف الثلاثة التالية: جذب الأضواء بعيدا عن الرئيس بشار الأسد حتى لا تبدو مشاركته في القمة العربية وكأنها تجسيد لانتصاره على الغرب وإعلاءً لشأن محور المقاومة في المنطقة.
إرسال رسالة إلى كل من يهمه الأمر، خصوصا إلى كل من روسيا والصين وإيران، مفادها بأن السعودية لا تزال وسوف تظل تدور في فلك السياسة الغربية، ولن تستطيع منها فكاكا.
إعادة التأكيد أن الولايات المتحدة لم تنسحب من المنطقة، ولا تزال حريصة على لعب دور مؤثر وقادر على ممارسة النفوذ، ليس على السعودية فحسب، وإنما على النظام الإقليمي العربي برمته. وبالتالي، لا تزال تُمسك بمفاتيح الحل والعقد في المنطقة.
وفي هذه الحالة، يمكن النظر إلى استجابة السعودية للضغوط الأميركية بالإقدام على دعوة زيلينسكي لحضور قمة جدّة أنه يعكس تنازلا تكتيكيا لا يمسّ جوهر الموقف الاستراتيجي السعودي الحريص على الانعتاق من الهيمنة الغربية وانتهاج سياسة خارجية أكثر توازنا.
على أي حال، ربما من السابق لأوانه فهم مختلف الدلالات والأبعاد والنتائج المترتّبة على دعوة زيلينسكي لإلقاء كلمة في قمّة جدّة في هذا التوقيت بالذات. ومع ذلك، علينا ملاحظة أمرين مترابطين على جانب كبير من الأهمية.
الأول: يتعلق بالبيان الختامي الصادر عن هذه القمة، لم يكن على مستوى الطموح أو التوقّعات، خصوصا أنه لا يتضمن أية إشارة توحي بأن النظام الإقليمي العربي تحت القيادة السعودية يتهيأ لانطلاقة جديدة أكثر فاعلية.
والثاني: يتعلق بالأجواء التي سادت في المنطقة عقب انتهاء هذه القمّة مباشرة، فقد استأنفت الولايات المتحدة ضغوطها المكثفة على السعودية لحمْلها على تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، واللحاق بركب الدول الموقّعة على “اتفاقات أبراهام”.
ما يعني أن هذا التطبيع للعلاقات أصبح أحد أهم الموضوعات المدرجة على رأس جدول أعمال العلاقات الأميركية الإسرائيلية.
وكانت تقارير صحافية، قد ذكرت أن محادثات هاتفية جرت بين ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو.
وإذا صحّ هذا فإن مجرّد قبول بن سلمان التواصل المباشر مع نتنياهو، في هذا التوقيت تحديدا، ولو هاتفيا، أمر بالغ الدلالة في حد ذاته، خصوصا وأنه يأتي بعد أسابيع قليلة من توقيع كل من السعودية وإيران على اتفاق يقضي باستئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ سبع سنوات.
وهذا يدل على أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم ييأسا بعد من قدرتهما على حمل السعودية على تطبيع علاقتها مع إسرائيل، وتريان في تحقيق هذا الهدف جائزة كبرى من شأنها إعادة خلط جميع الأوراق في المنطقة، وقلب حركة التفاعلات فيها لصالح التحالف الغربي.
لا أظنني أحتاج هنا إلى التذكير بحقيقة أساسية، أن النظام العالمي يشهد حالة استقطاب حادّة تعكس نفسها بوضوح على مختلف الأنظمة الإقليمية في العالم، ومنها النظامان الشرق أوسطي والعربي.
فعلى الصعيد العالمي، يلاحظ أن الحرب شبه العالمية الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية أفرزت شبكة من التفاعلات تدفع باستمرار نحو مزيد من الاستقطاب الحادّ بين محورين ما زالا قيد التشكّل.
يهدف الأول إلى المحافظة على نظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها. ويهدف الثاني إلى تغيير النظام السائد وإحلاله بنظام دولي جديد متعدّد القطبية.
أما على الصعيد الشرق أوسطي والعربي، فقد أفرزت تفاعلات المنطقة، خصوصا ما يتصل منها بالصراع العربي الإسرائيلي، وعلى خلفية من التفاعلات المحتدمة على الساحة الدولية، حالة جديدة تتّجه نحو مزيد من الاستقطاب الحادّ بين “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، وتشارك فيه سورية وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، و”محور الاعتدال” أو “التسوية السياسية” الذي تقوده معظم الأنظمة الرسمية العربية، وتحاول إسرائيل قيادته وتغيير بوصلته ليصبح موجّها ضد إيران، وساعيا إلى إسقاط نظامها.
ومن شأن التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية السعودية في الآونة الأخيرة أن يصبّ لصالح ترجيح كفّة محور المقاومة، وهو ما تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل، بكل الوسائل الممكنة، إلى إجهاضة.
لذا تبدو السعودية وكأنها تسير على حبلٍ مشدود. ولأن إسرائيل تعيش أزمة داخلية عميقة تدفعها إلى الهرب إلى الأمام، من خلال شنّ الحرب على إيران بحجّة أنها تقترب من امتلاك كمية من اليورانيوم المخصّب تكفي لصنع قنبلة نووية.
فضلا عن أنها لم تيأس بعد من محاولة إقناع الولايات المتحدة بالتعاون معها في توجيه ضربة عسكرية تدمّر برنامج إيران النووي، وربما تساعد على إسقاط نظامها السياسي نفسه، فقد أصبح وضع السعودية بالغ الحساسية والحرج، ومن ثم يتوقّع أن يزداد الضغط عليها شراسة من كل صوب وحدب.
وفي هذا السياق وحده، يمكن فهم الدلالات المتعلقة بإقدام السعودية على دعوة زيلينسكي لحضور قمّة جدة ولإلقاء كلمة أمام القادة العرب! فهل يمكن للسعودية أن تمسك بزمام المبادرة والقدرة على المناورة، وإلى متى؟
للكاتب حسن نافعة