تدخل تركيا في الصومال وسباق النفوذ في القرن الأفريقي
في شهر يوليو/تمّوز 2024، وافق البرلمان التركي على مذكّرة الرئيس رجب طيّب أردوغان، التي طلب بموجبها الموافقة على نشر عناصر من قوّات البلاد المسلّحة في الصومال، بما في ذلك المياه الإقليميّة لهذا البلد.
وجاء إرسال هذه المذكّرة بعد يومٍ واحدٍ فقط من إعلان وزارة الطاقة والموارد الطبيعيّة التركيّة شروعها بعمليّات استكشاف وتنقيب عن النفط والغاز، في المياه البحريّة الصوماليّة، وذلك بموجب اتفاقيّة تعاون اقتصاديّة سابقة بين البلدين، وذلك بحسب تحليل نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية.
وبهذا الشكل يكون أردوغان قد فتح معركة بلاده الهادفة إلى توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما سيتفاعل بأشكالٍ مختلفة مع مصالح وحسابات لاعبين إقليميين آخرين مثل مصر والإمارات العربيّة المتحدة وقطر.
وفي الوقت عينيه، من المؤكد أن دخول تركيا كطرف داعم للحكومة الصوماليّة، عسكريًا واقتصاديًا، سيؤثّرحتمًا على مستقبل النزاعات التي تنخرط فيها الصومال اليوم، مع إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي.
تقاطع المصالح الصوماليّة التركيّة
لدى الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود العديد من المصالح التي دفعته للاستدارة باتجاه أنقرة على هذا النحو. إذ بحكم طبيعتها الجغرافيّة، تمتلك الصومال ساحلًا طويلًا يمتد لنحو 3898 كيلومتر، على جانبي القرن الأفريقي، وهو ما يجعل البلاد صاحبة ثاني أطول ساحل في أفريقيا.
وبفعل هذه الميزة الجغرافيّة، تتسع المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة البحريّة للصومال بشكلٍ كبيرٍ، لتوازي مساحتها المليون كيلومتر مربّع.
تشير تقديرات شركة “تي. جي. أس.”، المبنية على مسوحات زلزاليّة ثنائيّة الأبعاد، إلى أنّ حجم احتياطات النفط في تلك المساحات البحريّة الشاسعة يمكن أن يتجاوز الـ 30 مليار برميل.
وبهذا، يمكن للصومال أن تحتل المرتبة السادسة في قائمة الدول ذات أكبر احتياطات نفطيّة في العالم، في حال تمكّنت البلاد من السير قدمًا في استثمار ثروتها النفطيّة.
وهذه المساحة البحريّة الضخمة تملك في الوقت عينه القدرة على إنتاج 1440 طنًا من الأسماك سنويًا، وهو ما يفترض أن يكفي للاستهلاك المحلّي والتصدير.
ومع كل ذلك، لم تتمكن الصومال من الاستفادة تاريخيًا من تلك المساحات البحريّة.
فبعد دخول الصومال مرحلة الحرب الأهليّة في تسعينات القرن الماضي، فضّلت شركات النفط الدوليّة الانسحاب من البلاد، لتفادي مخاطر الاستثمار.
كما أدّى سقوط النظام العسكري السابق عام 1991 إلى فقدان بيانات المسوحات الزلزاليّة، التي قامت بها الشركات النفطيّة قبل نشوب الحرب.
وبذلك، أدّت العوامل السياسيّة المحليّة إلى فرملة الاستثمار في هذا القطاع لسنوات عديدة.
واليوم، لا تزال الأوضاع الراهنة تجعل البلاد بيئة مرتفعة المخاطر، بالنسبة لشركات النفط والغاز الأجنبيّة.
ففي شمال البلاد، يقع 800 كليومتر من الخط الساحلي الصومالي تحت سيطرة إقليم أرض الصومال الانفصالي، الذي أعلن عن نفسه كجمهوريّة مستقلّة –غير معترف بها دوليًا- منذ العام 1991.
كما تسيطر ولاية بونتلاند، التي أعلنت الحكم الذاتي من طرف واحد عام 1998، على ثلث مساحة البلاد الإجماليّة، ومن ضمنها المناطق الأغنى باحتياطات النفط المحتملة.
وفوق كل ذلك مازالت حركة الشباب الصوماليّة، التي تعتنق فكر تنظيم القاعدة، تمثّل تحديًا في بعض المناطق الجنوبيّة من البلاد.
وفي المياه البحريّة الصوماليّة، تفشّت على مرّ العقود الماضية شبكات القرصنة والصيد غير الشرعي، بينما حال ضعف وتفكك الحكومة المركزيّة دون ضبط هذه الأنشطة التي هدرت ثروات البلاد الوطنيّة.
هذا الواقع، فتح شهيّة القوى الخارجيّة، للبحث عن مصالح خاصّة داخل الأراضي الصوماليّة، بعيدًا عن قرار أو سيطرة الحكومة المركزيّة. ومن هذه القوى مثلًا إثيوبيا، التي كانت تبحث أساسًا عن واجهة بحريّة تسهّل تجارتها الدوليّة، لتتجاوز معضلتها الجغرافيّة كدولة حبيسة.
وهكذا، وقّعت إثيوبيا في يناير/كانون الثاني 2024 اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال، لاستثمار شريط ساحلي يمتد لـ 20 كليومترًا على شواطئ الصومال، بغية استعمال الأراضي كمرفأ وقاعدة عسكريّة.
أمام هذا المشهد المعقّد، باتت الصومال ترى في أنقرة حليفًا يمكن أن يمنحها الحماية العسكريّة المطلوبة، في وجه المخاطر الخارجيّة.
كما وجدت في هذا الحليف الخبرة اللازمة لاستثمار حقول النفط والغاز، وتأمين الحماية الأمنيّة لها. أمّا الأهم، فيكمن بأنّ أردوغان شخصيًا أبدى منذ سنوات طويلة اهتمامًا في منطقة القرن الأفريقي كمساحة نفوذ لتركيا، وهو ما جعله شريكًا محتملًا للحكومة الصوماليّة.
المشاريع التركيّة في منطقة القرن الأفريقي
بدأت معالم الطموحات التركيّة في منطقة القرن الأفريقي تتضح منذ العام 2011، حين استضافت مدينة اسطنبول مؤتمر الأمم المتحدة المُخصّص للتعامل مع أزمة الجفاف في الصومال.
ومن بوّابة المساعدات الإنسانيّة، زار أردوغان بعدها الصومال، وأطلق حملة دوليّة لمكافحة خطر المجاعة هناك.
ثم دفعت الحكومة التركيّة منظمات المجتمع المدني لديها والجمعيّات الإسلاميّة، للاتجاه إلى مقديشو لتقديم الدعم الإغاثي. وخلال الفترة اللاحقة، أصبحت الخطوط الجويّة التركيّة الشركة الوحيدة التي تربط الصومال بالعالم.
على مرّ السنوات التالية، تراكم حجم المساعدات التي قدّمتها تركيا للصومال ليتجاوز المليار دولار، قبل أن يعمد أردوغان لافتتاح أكبر سفارة لبلاده في العالم في العاصمة الصوماليّة مقديشو.
وفي العام 2017، دشّنت تركيا أكبر قواعدها العسكريّة المخصّصة للتدريب خارج تركيا، جنوب مقديشو، بهدف مساعدة الحكومة الصوماليّة المركزيّة على إعادة بناء جيشها.
ثم سرعان ما انخرط الجيش التركي في تأمين الدعم العسكري المباشر للجيش الصومالي، بالطائرات المسيّرة، خلال المعارك مع حركة الشباب.
هذا التدرّج في الاهتمام التركي بالصومال، ينطلق أولًا من اهتمام أردوغان بالمسائل التي ترتبط بأمن الطاقة، وتوفير إمدادات الغاز والنفط المستدامة –والمنخفضة الثمن- للصناعات التركيّة.
كما يتكامل هذا الطموح مع سعي أردوغان لتحقيق حلمه، في جعل تركيا مركزًا إقليميًا لإعادة توزيع مصادر الطاقة، باتجاه السوق الأوروبيّة.
هكذا جاءت اتفاقيّة التنقيب عن الغاز والنفط الأخيرة، والاتفاقيّة الدفاعيّة التي سينتشر بموجبها الجيش التركي في المياه البحريّة الصوماليّة، استكمالًا طبيعيًا للطموحات التركيّة التاريخيّة في منطقة القرن الأفريقي.
بالإضافة إلى كل ذلك، تبدي تركيا اهتمامًا خاصًا بموقع الصومال الجغرافي، الذي يشرف على أحد أبرز خطوط التجارة الدوليّة في خليج عدن.
وهذا ما يفسّر حرص تركيا الحصول على حق إدارة وتشغيل مرفأ مقديشو منذ العام 2014، لمدّة 20 سنة. وبالنسبة لأردوغان، يمثّل التموضع في منطقة القرن الأفريقي، وسيلة لضمان أمن سلاسل توريد الصناعات التركيّة، كما يمثّل ضمانة لخطوط تصديرها البحريّة.
وفي كل ما يقوم به اليوم، يستعيد أردوغان إرث السلطنة العثمانيّة، التي يحب التمثّل بتاريخها وسطوتها.
إذ أدرك العثمانيون منذ القرن الرابع عشر أهميّة القرن الإفريقي بالنسبة لخطوط التجارة البحريّة، وهو ما دفعهم في تلك المرحلة لتأمين الدعم لسلطنة عدلي في الصومال، في مواجهة الاستعمار البرتغالي، الذي كان يحكم السيطرة على ممرّات البحر الأحمر.
ومن هذه الزاوية، يكتسب الاهتمام بالصومال طابعًا رمزيًا وتاريخيًا بالنسبة لتركيا، كما يجسّد استعادةً لمكتسباتها كقوّة مؤثّرة على المستوى الدولي.
لاعبون ومنافسون آخرون
من الواضح أنّ مصالح أردوغان ستحتك إيجابًا أو سلبًا بمصالح لاعبين آخرين في منطقة القرن الأفريقي. فالإمارات العربيّة المتحدة مثلًا، تتصل بعلاقات سياسيّة وثيقة جدًا بالحكومة الإثيوبيّة. حيث ساهمت أبوظبي منذ العام 2021 في تسليح الجيش النظامي الإثيوبي، ضد الجماعات المسلّحة المتمرّدة ضدّه.
وهذا التقارب، انعكس تلقائيًا في اتفاقيّة الشراكة التي وقّعتها الإمارات مع حكومة أرض الصومال، المدعومة بدورها من إثيوبيا، لتوسيع وتطوير ميناء بربرة.
كما أنشأت أبوظبي قاعدة عسكريّة قرب الميناء، لتدريب جيش أرض الصومال والمساعدة على تجهيزه.
ولهذا السبب، من البديهي الاستنتاج بأن مصالح أبوظبي ستكون على طرف النقيض في مواجهة مصالح أنقرة، الداعمة حاليًا لسيادة حكومة الصومال، والتي ترفض بدورها الاعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال وتفاهماته المعقودة مع إثيوبيا.
بل ومن المرتقب أن تتصادم أنشطة أنقرة في مجال الطاقة مع مصالح إقليم أرض الصومال بشكلٍ مباشرٍ، إذا حاولت تركيا التنقيب عن الغاز والنفط في المناطق الاقتصاديّة التي يسيطر عليها –بحكم الأمر الواقع- الإقليم الانفصالي. وهذا ما سيضع أنشطة أنقرة هناك في تعارض مع المصالح الأثيوبيّة أيضًا.
في المقابل، ستنسجم التوجّهات التركيّة في القرن الأفريقي مع السياسة الخارجيّة المصريّة، التي تتجه منذ سنوات لدعم الحكومة الصوماليّة، وذلك لاستيعاب الطموحات الإثيوبيّة في القرن الإفريقي ومواجهتها. وهذا يتصل أساسًا بخلافات مصر مع إثيوبيا على مياه نهر النيل، بعد شروع إثيوبيا ببناء سد النهضة.
مع الإشارة إلى أنّ الحكومة الصوماليّة أقرّت في يوليو/تمّوز 2024 اتفاقيّة دفاعيّة جرى توقيعها مع مصر، لتأمين المساعدة في تدريب وتجهيز الجيش الصومالي.
وبالشكل عينيه، من المفترض أن تتكامل السياستان الخارجيّة القطريّة والتركيّة، عند مقاربة ملف العلاقة مع الصومال. حيث تُعتبر قطر من الدول الرئيسة الداعمة للحكومة الصوماليّة، وذلك من خلال المساعدات الموجهة إلى أنشطة التعليم والتنمية وتأهيل البنية التحتيّة وإعادة إعمار المرافق العامّة والمؤسسات الحكوميّة.
كما تنشط على الأراضي الصوماليّة المؤسسات والجمعيّات الخيريّة القطريّة، التي تركّز على الاستجابة للأزمات الناتجة عن الجفاف والفيضانات وغيرها من تداعيات تغيّر المناخ.
في النتيجة، ستكون الصومال في موقع أقوى خلال السنوات المقبلة، عند مقاربة ملفّي إقليم أرض الصومال وولاية بونتلاند. حيث باتت السيادة الصوماليّة على المياه البحريّة في تلك المناطق متعلقة بالمصالح التركيّة، وبتواجد الجيش التركي هناك.
كما سيكون بإمكان الصومال الاستفادة من التعاون الدفاعي المشترك مع تركيا، لتعزيز تماسك قوّاتها النظاميّة، في وجه حركة الشباب.
ومع كل ذلك، سيكون من المفترض انتظار تفاصيل الاتفاقيّات التجاريّة المرتبطة بالنفط والغاز، بين الطرفين، لتبيان مدى ضمانها لحقوق الصومال الاقتصاديّة.