احتجاجات الضواحي في فرنسا وفاتورة العنصرية
تعيش معظم المدن في فرنسا ومناطقها منذ أيام، وخصوصا العاصمة باريس، على وقع احتجاجات عارمة وعنيفة، اندلعت على أثر مقتل المراهق نائل المرزوقي، المتحدر من أصول جزائرية، على يد أحد رجال الشرطة الفرنسية.
وتم قتل الشاب على الرغم من أنه لم يكن يشكل أي خطر على حياة الشرطي، وأن الأخير أطلق عليه النار من مسافةٍ صفرية، حسبما أظهره تسجيل مصور، ما يشي بأن القتل كان متعمداً، وأشبه بعملية اغتيال.
يعيد الحادث إلى الواجهة ملف عنف الشرطة الفرنسية، التي قتلت 13 شخصاً في حوادث مشابهة في العام الماضي.
لكن تلك الحوادث لم توثق بالصور، وجرى تعتيم عليها، فيما اختلف الأمر هذه المرة، حيث جرى تصوير القاتل متلبساً بجريمته، وتوثيق ظروف قيامه بالقتل.
وتبين أن المراهق لم يكن ينوي سوى الفرار بسيارته، لأنه لم يكن يملك رخصة قيادة لها، فيما هدده الشرطي بالقتل، وتنفيذ ما هدد به فوراً، وبالتالي، سقطت حجة “الدفاع عن النفس”، التي حاولت تسويقها وزارة الداخلية الفرنسية، وادعاء أن المرزوقي حاول دهس الشرطي بسيارته.
بالنظر إلى حجم الاحتجاجات الحالية، التي تتخللها أعمال عنف وتخريب ونهب كثيرة، فإنها تضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام أكبر أزمة يواجهها في فترتي رئاسته.
إذ على الرغم من أنه دان هذه المرة حادث القتل، واعتبره “غير مقبول”، إلا أنه ما زال يعتبر استخدام مصطلح “عنف الشرطة” غير مقبول، ويريد تركيزه على ضابط شرطة واحد، بدلاً من البحث عن مواضع الممارسات العنصرية داخل جهاز الشرطة بأكمله.
وسبق أن واجه ماكرون احتجاجات السترات الصفراء التي اندلعت في 2018 احتجاجاً على سياساته الليبرالية التي تخدم الأغنياء، وخرج، أخيرا، من حركة احتجاجية، تحولت إلى معركة سياسية طويلة، على خلفية فرضه قرار رفع سن التقاعد المرفوض شعبياً.
لكن الاحتجاجات الحالية تعد أصعب تحد سياسي له، في ظل قيادته حكومة أقلية الوسط، المحشورة بين كتلة في أقصى اليسار وأخرى في أقصى اليمين القومي المتشدد.
ويتولى وزارة الداخلية فيها اليميني المتشدد جيرالد دارمانان، الذي اشتهر بتعليقاته المثيرة للجدل عن المسلمين وثقافتهم، والذي لم يجد سوى الدعوة إلى “تغيير العقيدة”، كي تصير أكثر هجومية.
فراح يجند عشرات الآلاف من عناصر الشرطة والدرك لمواجهة الاحتجاجات، فيما تحدثت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن عن إمكانية إعلان حالة الطوارئ، وأن “كل الخيارات” مطروحة على الطاولة، “لضمان الوحدة الوطنية واستعادة النظام”.
ليس جديداً القول إن العنصرية في فرنسا تجد تجسيداتها في السياسات الحكومية المتبعة، ولم يسلم منها البرلمان بغرفتيه، ووصلت إلى بعض أحكام القضاء.
فضلاً عن تعبيراتها العلنية في هتافات جماهير الملاعب الرياضية، وتمددت لتطاول طرق اللباس وأنواع الطعام.
والأخطر أنها تكمن في عقلية معظم مسؤولي وعناصر مختلف قطاعات السلطات الفرنسية، وخصوصا أجهزتها ومؤسساتها الأمنية.
وهي تنعكس في تعاملهم التمييزي والعنيف والعدائي مع جميع الفرنسيين المتحدرين من أصول عربية أو أفريقية، إضافة إلى المهاجرين واللاجئين، وباتت تؤثر سلبيا على مختلف جوانب حياتهم اليومية، وخصوصا الشباب والمراهقين، الذين باتوا عرضةً لمعظم عمليات نظام التحقق من الهوية، بوصفه أحد أشكال التمييز المنهجي من الشرطة ضدهم.
والذي اعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش، في تقرير أصدرته عام 2012، نظاماً “مفتوحاً على انتهاكات الشرطة الفرنسية، التي تنطوي أحياناً على الإساءة الجسدية واللفظية”.
ولم تُعر الحكومة الفرنسية أي آذانٍ صاغية لتقارير المنظمات الحقوقية، وخصوصا لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري، التي شجبت في ديسمبر/ كانون الأول 2022، “الخطاب العنصري للسياسيين في فرنسا”.
لذلك تقع المسؤولية الأساسية على عاتق الدولة الفرنسية، التي تجاهلت مظاهر العنصرية وتبعاتها، وتعامت كلياً عن عنف الشرطة العنصري منذ عقود عديدة.
اللافت أن الاحتجاجات امتدت إلى أقاليم ما وراء البحار الفرنسية، وخصوصا جزر الكاريبي، ولم تقتصر على سكان الضواحي، بل شاركت فيها مجموعات عديدة من الفرنسيين.
وباتت أكبر من مجرد احتجاجات على مقتل مراهق من أصول جزائرية، وشاركت فيها أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية ومدنية عديدة، الأمر الذي يشي بأن أسباب تفجر الاحتقان الشعبي عديدة، ولا تتوقف على حادث قتل نائل المرزوقي، وأن فرنسا تدفع ثمن سياسات حكوماتها المتعاقبة عبر التظاهرات الاحتجاجية وأعمال العنف.
المشكلة أن للحركات الاحتجاجية تاريخاً طويلاً في فرنسا، وأضحت احتجاجات سكان الضواحي والفئات المهمشة والفقيرة تتكرر بشكل شبه دوري، منذ الاحتجاجات التي شهدتها مدينة ليون عام 1979.
وفي كل مرة تحاول السلطات الفرنسية مداراة الأمور، بدلاً من معالجة المشكلات، وتجفيف منابع العنصرية، فاحتجاجات الضواحي في عام 2005 استمرت قرابة ثلاثة أشهر، واندلعت اعتراضاً على السياسات التمييزية لوزارة الداخلية الفرنسية، التي كان يتولاها نيكولا ساركوزي، الذي اعتبر المحتجين “حثالة”، وأن الضواحي تحتاج “تنظيفاً صناعياً”.
ثم تكررت الاحتجاجات عام 2015، بعد مقتل شابين طاردتهم الشرطة الفرنسية، ولم تجد الحكومة وقتها سوى إعلان حالة الطوارئ، وهو الخيار الذي تنوي الحكومة الحالية تكراره.
لم تسعَ الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ عقود عديدة، بيمينها ويسارها، إلى إيجاد حلول تعالج النزعات والممارسات العنصرية المنتشرة بقوة في أجهزة الدولة الفرنسية الأمنية ومؤسساتها، وبما يمنع تكرار الاحتجاجات العنيفة.
وذلك على الرغم من أن الطبقة السياسية الفرنسية تعي تماماً الأسباب التي تدفع شباب الضواحي وسواهم للشعور بالتهميش والانتقاص والانتهاك.
لكن الحكومات الفرنسية تلجأ على الدوام إلى سياسة شراء الوقت، باتباعها استراتيجية الاحتواء الأمني، مع التعويل على إنهاك المحتجين، وعدم تلبية مطالبهم، والتخلص من أعباء الحراك الاحتجاجي.
وبالتالي، لن يعمل ماكرون شيئاً حيال تجفيف منابع الحراك الاحتجاجي، التي يشرب من مياهها، في كل مرحلة، جيل جديد من المهمشين والمقصيين، الذين ينتفضون على الممارسات العنصرية، ويجددون حراك من سبقهم بقوة أكبر، بغية استرجاع كرامتهم ونيل حقوقهم.
للكاتب/ عمر كوش