مشروع واعد لتحويل العراق إلى مركز إقليمي للنقل
تمتلك الحكومة العراقيّة خطّة ناشطة لتحويل العراق إلى مركز إقليمي للنقل بما في ذلك السلع ومصادر الطاقة.
وذكرت مؤسسة “فنك” الأوروبية أن الخطّة العراقية ترمي الى الاستفادة من موقع العراق المميّز، الذي يمكن أن يربط إيران ودول الخليج التي تنتج مصادر الطاقة، بتركيا التي تسعى إلى أن تكون نقطة لإعادة توزيع هذه المصادر باتجاه أوروبا.
وبذلك، تتناسب هذه الخطّة العراقيّة الضخمة، مع الدور الذي يرغب الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بأن تلعبه تركيا في أسواق النفط والغاز.
وفي الوقت عينه، سيكون بإمكان العراق ربط أسواق الهند وشرق آسيا المنتجة بضائع استهلاكيّة أخرى، بتركيا ومن ثم أوروبا، المُستهلكة هذه السلع.
وهذا الجانب من الخطّة العراقيّة، سيتكامل بدوره مع “مبادرة الحزام والطريق” الصينيّة، التي تسعى إلى تعزيز روابط الصين التجاريّة بالعالم، عبر شبكة من مشاريع البنية التحتيّة العملاقة.
كما سيكون بالإمكان أيضًا نقل السلع الأوروبية بالاتجاه المعاكس، نحو دول الخليج المستهلكة بدورها هذه السلع.
إلا أنّ أهم ما في هذا الموضوع، هو التسابق الدولي على مشاريع البنية التحتيّة في العراق والذي اشتدّ مؤخّرًا بعدما كشفت الحكومة العراقيّة عن هذا الدور الاستراتيجي الذي ستحاول البلاد لعبه في المرحلة المقبلة.
وحاليًا، يتصدّر المشهد كل من الصين وتركيا وقطر والمملكة العربيّة السعوديّة، على مستوى الدول التي ترغب بأن تساهم وتستثمر في هذا الدور العراقي الطامح.
أمّا إيران، فما زالت تتريّث قبل الحكم على المشروع العراقي الجديد، الذي سيسهّل تجارة إيران مع الخارج، لكنّه سينافس في هذا الوقت مشروعًا إيرانيًا محمّلًا بالأهداف عينها.
التوقيت الجيّد والعوامل الإقليميّة المواتية
بالنتيجة، سيزيد هذا المشروع من أهميّة الدور الاقتصادي والجيوسياسي الذي يلعبه العراق اليوم، على المدى البعيد.
بل إنّ بعض التحليلات ذهبت إلى مقارنة الدور الحسّاس الذي سيلعبه هذا المشروع، بالدور الاستراتيجي واللوجستي الذي لعبته قناة السويس تاريخيًا، كنقطة عبور تقود العراق في المستقبل الى لعب دور مماثل.
وهذا ما جعل كثيرين يلمحون إلى غياب مصر عن المؤتمر الذي أعلن عن هذا المشروع في بغداد، في دلالة على تحسّسها من منافستها في دور قناة السويس، فيما حضر ممثلون عن جميع الدول الإقليميّة الأخرى.
تجاه هذا الواقع، اختارت الحكومة العراقيّة بعناية توقيت الإعلان عن هذا المشروع، في 27 أيّار/مايو 2023.
فهذا الإعلان، جاء بالتزامن مع المصالحة التي جرت بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران، والتي أفضت إلى عودة العلاقات الدبلوماسيّة بين الدولتين.
وبذلك، راهن رئيس الحكومة العراقيّة محمّد شيّاع السوداني على الاستقرار الناتج عن هذه التسوية الإقليميّة، لخلق إجماع عراقي محلّي على المشروع الضخم الجديد.
مع الإشارة إلى أنّ التوازنات السياسيّة العراقيّة الداخليّة غالبًا ما تتأثّر بمواقف وخلافات الأطراف الإقليميّة، وخصوصًا إيران ودول الخليج، التي تملك تأثيرات متفاوتة على القوى السياسيّة العراقيّة.
ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم الجهود الضخمة التي بذلها السوداني نفسه، للتوسّط شخصيًا وتسهيل المصالحة الإيرانيّة السعوديّة.
فسير السوداني في الخطط الاستراتيجيّة الكبيرة، وخصوصًا تلك التي تضع العراق في قلب المعادلات الجيوسياسيّة الإقليميّة، لم يكن ممكنًا في ظل تداعيات التجاذب الإيراني السعودي على الأوضاع السياسيّة العراقيّة الداخليّة.
ويدرك السوداني أنّ إيران بالتحديد، تملك الأثر الأكبر على الائتلاف السياسي الذي شكّل حكومته، والمعروف باسم “الإطار التنسيقي”.
مشروع “طريق التنمية” العراقي
أطلقت الحكومة العراقيّة تسمية “مشروع طريق التنمية”، على المشروع الذي يستهدف خلق مسار لنقل السلع ومصادر الطاقة من جنوب البلاد إلى شمالها.
وعبارة “طريق” المجازية، تشير إلى مجموعة واسعة من الاستثمارات على امتداد هذا المسار، في مجالات السكك الحديديّة وخطوط النقل البرّي، كما يشمل المشروع توسعة ميناء الفاو الكبير في جنوب البلاد، وإنشاء مدن صناعيّة وسكنيّة جديدة.
واختارت الحكومة أن تشبّه المشروع بالقناة الجافّة، في تلميح مجازي آخر لدور المسار، المشابه لدور الربط الذي تلعبه القنوات المائيّة مثل قناة بنما وقناة السويس.
تتوقّع الحكومة العراقيّة أن تبلغ تكلفة المشروع نحو 17 مليار دولار أميركي، على أن يتم تنفيذه خلال الفترة الممتدة بين عامي 2024 و2028.
ومن ضمن هذه التكلفة، ثمّة 10.5 مليار دولار أميركي ستُخصص لإنشاء خطوط سكك الحديد، فيما ستخصص الحكومة العراقيّة نحو 6.5 مليار دولار أميركي لإنشاء الطرق البريّة على امتداد هذا المسار.
أمّا سائر أجزاء المشروع، مثل المدن الصناعيّة والسكنيّة ومراكز تخزين ونقل الطاقة، فستعتمد على مبادرات القطاع الخاص، الذي سيستفيد من طرق الربط البرّي في هذا المشروع.
ومن المتوقّع أن يدر المشروع على العراق نحو 4 مليارات دولار سنويًا، بفعل رسوم عبور السلع بالاتجاهين، بالإضافة إلى الرسوم والضرائب التي ستنتج عن النشاط الصناعي على امتداد المسار.
كما تنتظر الحكومة العراقيّة أن يولّد هذا المشروع نحو 100 ألف فرصة عمل محليّة، في المرحلة التي ستلي إنجازه.
أمّا إجمالي طول المسار، فسيبلغ نحو 1200 كيلومتر، تبدأ من مرفأ الفاو في الجنوب وتنتهي على الحدود التركيّة.
ورغم ارتفاع تكلفة النقل البرّي عبر سكك الحديد، مقارنة بالنقل البحري، ستسعى السلطات العراقيّة إلى جذب الحركة التجاريّة عبر المشروع من خلال تقليص مدّة الرحلات التجاريّة بين شرق آسيا وأوروبا إلى النصف، مقارنة بالرحلات البحريّة التقليديّة.
فعلى سبيل المثال، تستغرق الرحلة التجاريّة من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء روتردام الهولندي نحو 33 يومًا بالبحر.
بينما يمكن تقليص هذه المدّة إلى 15 يومًا فقط عندما يتم نقل البضائع بالبر من الصين إلى ميناء جوادر الباكستاني، ومنه إلى ميناء الفاو الكبير، ثم إلى أوروبا عبر مشروع “طريق التنمية”.
كما تراهن الحكومة العراقيّة على الحركة السياحيّة التي سيكون بالإمكان استقطابها إلى العراق ودول الخليج، من الدول الأوروبيّة، من خلال الرحلات عبر سكك الحديد.
مع العلم أنّ خطط الحكومة العراقيّة الحاليّة تنص على وضع قطارات عالية السرعة، تسير بسرعة 300 كيلومتر في الساعة لنقل الأفراد، بالإضافة إلى قطارات نقل تجاريّة تسير بسرعة 140 كيلومترًا في الساعة.
وعلى هذا الأساس، سيكون بإمكان قطارات الأفراد أن تعبر المسار بأسره من شمال العراق إلى جنوبه خلال أربع ساعات، بينما ستحتاج القطارات التجاريّة إلى 8 ساعات لعبوره.
أمّا النقطة الأهم، فهي أنّ المسار العراقي سيوفّر طريقًا سريعًا لنقل النفط والغاز المُسال المُنتج في منطقة الخليج العربي، باتجاه أوروبا، عبر تركيا التي تضخ استثمارات للتحوّل إلى مركز لإعادة توزيع مصادر الطاقة، باتجاه السوق الأوروبيّة.
مع الإشارة إلى أنّ أوروبا زادت منذ العام 2022 اعتمادها على الغاز المُسال القطري، كبديل عن الغاز الروسي، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وانقطاع امدادات الغاز الروسي عن أوروبا.
وعلى امتداد المسار، تتضمّن المخططات العراقيّة مناطق حرّة ومدنًا صناعيّة ومراكز لتخزين السلع ومصادر الطاقة.
ومن المفترض أن تشهد جميع هذه المناطق طفرة صناعيّة كبيرة، بالاستفادة من سهولة شحن السلع والخدمات والمواد الأوّليّة باستخدام “طريق التنمية”.
كما تتوّقع العراق أن تتحوّل إلى مركز تجاري مهم في أسواق النفط والغاز، بفعل قدرتها على شراء هذه السلع وتخزينها، ومن ثم بيعها باتجاه السوق الأوروبيّة بحسب طلب كل دولة.
التسابق الدولي على الاستثمار في العراق
أدرك العديد من الدول أنّ مشروع العراق الجديد ينطوي على فرص استثماريّة هامّة، وخصوصًا بالنسبة إلى الدول المنتجة النفط والغاز، التي تحاول تطوير وسائل تصدير إنتاجها من البترول.
فبعد أقل من ثلاثة أسابيع من الإعلان عن مشروع “طريق التنمية”، قام أمير قطر تميم بن حمد بزيارة رسميّة إلى العراق، وقّع خلالها عددًا من الاتفاقيّات الاستثماريّة ومذكّرات التعاون، معلنًا عزم بلاده ضخ 5 مليارات دولار من خلال الاستثمار في عدد من القطاعات.
وارتبطت الغالبيّة الساحقة من مذكرات التفاهم الاستثماريّة القطريّة مع العراق بالمشاريع المكمّلة مشروع “طريق التنمية”، وخصوصًا تلك المتصلة بقطاع الطاقة وخطط توريد الغاز المُسال، بالإضافة إلى مشاريع تكرير النفط الخام وإعادة تصديره.
ومن المرتقب أن يتم إنجاز جميع هذه المشاريع بحلول العام 2028، أي بالتوازي مع إنجاز مشروع “طريق التنمية”.
من جهتها، دخلت المملكة العربيّة السعوديّة باكرًا على خط التنافس مع قطر في هذا المجال. فبالتوازي مع الكشف عن مشروع “طريق التنمية”، استضافت مدينة جدّة قمّة للمجلس التنسيقي بين السعوديّة والعراق، حيث تم التوقيع على مجموعة من الاتفاقيّات ومذكرات التفاهم في قطاعات النفط والغاز والنقل، كما تم الاتفاق على الشراكة الاستثماريّة في مشاريع الخدمات اللوجستيّة المسهّلة عمل شركات النفط.
وخلال القمّة أيضًا، تم الإعلان عن تأسيس “الشركة السعوديّة العراقيّة”، لتكون ذراع صندوق الاستثمارات العامّة السعودي، للاستثمار في قطاعات البنية التحتيّة والتعدين والتطوير العقاري في العراق.
كما هو واضح، تناسبت كل هذه الاستثمارات مع وجهة مشروع “طريق التنمية”، وخصوصًا من جهة خلق البنية التحتيّة المطلوبة لنقل مصادر الطاقة عبر العراق.
أمّا الصين، فبدت أكثر الدول غير العربيّة اهتمامًا بهذا المشروع، لكونه يكمّل فكرة مشروع “الحزام والطريق” الصينيّة، كما أنّه يسهّل ويسرّع عمليّة تصدير السلع الصينيّة باتجاه أوروبا.
ولهذا السبب، حرص السفير الصيني في العراق تسوي وي على زيارة رئيس الحكومة العراقيّة محمد شيّاع السوداني، بعد أقل من أسبوع من الإعلان عن المشروع، لإبلاغه اهتمام بلاده بدراسة الفرص الاستثماريّة في “طريق التنمية”، واستعدادها لتقديم المشورة الفنيّة للحكومة العراقيّة في هذا المجال.
وبعد أيّام من هذا اللقاء، التقى كبار أعضاء الحكومتين العراقيّة والصينيّة، في سلسلة من الاجتماعات التي بحثت إمكانيّة تطوير آليّة “النفط مقابل البنية التحتيّة”، التي تسمح باستثمار الشركات الصينيّة في البنية التحتيّة المتعلّقة بمشروع “طريق التنمية”، مقابل استفادة الصين من النفط العراقي.
من جهة أخرى، كانت تركيا الدولة الإقليميّة الأولى التي أبدت اهتمامًا بدعم هذا المشروع والاستثمار فيه، نظرًا لاستفادتها منه على المدى البعيد، عبر توريد مصادر الطاقة من الخليج عبر العراق، ومن ثم تصديرها إلى أوروبا.
ولهذا السبب، تعامل الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان مع المشروع العراقي وكأنّه مشروع تركي، فكلّف وزراءه -بعد اجتماع مع السوداني- بالتنسيق مع الجانب العراقي للسعي من أجل “تحقيق مشروع طريق التنمية”، واعدًا بالتنسيق مع العراق “للعمل معًا لإنجاز المشروع”.
الغائب الأكبر عن الصورة، هو الدولة الأكثر تأثيرًا على الأوضاع داخل العراق، أي إيران. فإيران تملك أساسًا مشروعًا خاصًا لربط شواطئها الجنوبيّة المطلّة على خليج عُمان ببحر قزوين، بمسار تجاري يفترض أن يحقق غايات المشروع العراقي عينها.
ولهذا السبب، من المحتمل أن تخشى إيران منافسة المشروع العراقي مصالحها، وهذا ما قد يدفعها إلى إمكانيّة التدخّل لعرقلة المشروع، باستخدام نفوذها داخل العراق وقدرتها على التأثير على الأحزاب السياسيّة الشيعيّة.
مع الإشارة إلى أنّ إيران يمكن أن تستفيد في المقابل من المشروع العراقي، عبر تصدير نفطها وغازها المُسال إلى تركيا وأوروبا، إلا أنّ ذلك سيبقى مرهونًا برفع العقوبات عن طهران، والتوصّل إلى تفاهم جديد حول البرنامج النووي الإيراني.