الانكشاف الذاتي الأوروبي… عجز مزمن ومجد يتهاوى
عرّت الحرب الروسية على أوكرانيا ما بقي من مثالب دول القارّة الأوروبية، بعدما تحوّلت إلى لحظة كاشفة للحقائق أمام الأوروبيين. فما لبِث حلم الوحدة الأوروبية أن استوى، حتى توالت المشكلات في الانبلاج تباعا؛ للداخل قبل الخارج.
تعاقُب الأزمات، في السنوات الأخيرة، فتح أعين الأوروبيين على حجم (ونوعية) التهديدات التي تحُف بهم من كل جانب، وفضح مستوى الانكشاف الأمني متعدد الأوجه في القارّة العجوز.
“المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيوش”، مقولة لشكسبير يردّدها هذه الأيام الأوروبيون، بعدما انهمرت عليهم تداعيات الحرب الأوكرانية، في وقتٍ لا تزال حكوماتهم تواجه مخلفات وباء كورونا.
يتزامن ذلك كله مع أسوأ موجة جفاف تشهدها أوروبا منذ حوالي خمسة قرون، فقد عانى أكثر من نصف أراضي القارّة، هذا الصيف، من موجة قحط، لا محالة ستؤثر بأشكال مختلفة على حياة الأوروبيين.
ولّد ما سبق شعورا بالعجز وسط أعضاء النادي الأوروبي، وأحيا النقاش في صفوف الخبراء وصنّاع القرار بشأن سبل التغلب على أعجُز متعدّدة؛ ساد الاعتقاد، حتى وقت قريب، أنها أصبحت جزءا من التاريخ، قُدّام كيان بقوة الاتحاد الأوروبي وحجمه.
فعلا، كان الأمر مجرّد أمانيّ، فاختلال الموازين بيِّن في التفاوت ما بين القدرة الاقتصادية للكيان الأوروبي والوهن السياسي والعسكري، المفوتين للولايات المتحدة، منذ 1947، ضمن صفقة مشروع مارشال.
بدأ طُول الحرب الروسية على أوكرانيا، عكس كل التوقعات، يثير أسئلة في الدوائر الأوروبية بشأن تبعات عملية تسليح أوكرانيا، لا سيما بعد حديث وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرشيت؛ بجرأة وقسوة نادرتين؛ معلنةً بلوغ برلين الحدود القصوى في مستوى تسليح كييف.
وتحدّث قبلها رئيس أركان الدفاع البريطاني عن أن إعادة مخزون المملكة المتحدة من الأسلحة، في “الحرب من أجل الحرية”، إلى مستوياتٍ ما قبل الصراع، قد يستغرق سنواتٍ عديدة، بسبب القيود المفروضة على القدرات الصناعية للبلد.
واتسمت مساندة فرنسا؛ أول قوة عسكرية في القارّة، والسابعة عالميا، لأوكرانيا بالتواضع الشديد، نتيجة تورّطها في حرب استنزاف طويلة في منطقة الساحل والصحراء.
يبدو أن المعادلة في أوروبا قد انقلبت، فهذه أمثلة لثلاث إمبراطوريات استعمارية، غزَت جيوشها كل بقاع العالم، صارت اليوم شبه عاجزة عن ضمان ما يكفي من السلاح للدفاع عن نفسها، فكيف لها أن تتحمَّل الكلفة المادية واللوجستيكية لدعم حلفائها، للدفاع عن أنفسهم في حالة الضرورة.
أظهرت الحرب الصورة الحقيقية للاقتصاد الأوروبي، فالمجد المزعوم قائم، من ناحية، على التقدّم العلمي والتقني، بسواعد وعقول مستوردة (هجرة الأدمغة)؛ ولنا في جنسيات أطقم البحث من أجل لقاح كورونا المثال الأوضح.
ومن ناحية أخرى، على استغلال ثروات بلدان آسيوية وأفريقية وخيراتها، بأبخس الأثمان، وأحيانا عنوةً وبلا نظير، ما عدا توفير الحماية ومنح الشرعية للأنظمة الحاكمة (فرنسا في أفريقيا).
وتبقى أزمة الطاقة التي تهزّ أوروبا خير شاهد على ارتهان أوروبا للخارج، فالتوقعات ترسم صورةً قاتمةً للاقتصاد الأوروبي، مع تنامي المخاوف من تراجع كبير في النمو الاقتصادي، جرّاء سياسة التقشّف في استعمال الطاقة. بعد كل ما حدث، هل يستقيم وصف الأوروبيون أنفسهم بالقوة الاقتصادية، أي أمن طاقي بقي لديهم؟
بدأ الانكشاف الأوروبي مبكّرا، حتى قبل الحرب باعتبارها حدثا طارئا، فقد كانت جائحة كورونا أولى محطات اختبار قيم الحلم الأوروبي المثالي؛ فبعد أن تهاوت إيطاليا في قلب القارّة العجوز، سارع الإخوة الجيران إلى صد الأبواب، وإغلاق الحدود في وجه روما.
وانكفأت كل دولةٍ على نفسها بحثا عن حلول فردية للنجاة والوقاية، غير مباليةٍ بقائمة من الشعارات، طالما تغنّى بها الجميع. أدركت إيطاليا، لحظتها، أن البعيدين أرحم بها من رفاقها في النادي الأوروبي.
بالتوازي مع الانهيار القيمي، اكتشف الأوروبيون أن الأدوات اللازمة لتحقيق سلامتهم الصحية باتت بين أيدي الآخرين؛ فتوفر أمهر العقول في مهن الطب والتمريض والصيدلة غير مجدٍ لضمان الأمن الصحي، في ظل ارتهان دولٍ صناعية كبرى، بشكل كلي، للصين، مصنع العالم، فطيلة الأشهر الأولى للجائحة، لم تتمكّن أي دولة في النادي الأوروبي “العملاق”، حسب زعمهم، من تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الصحي.
هكذا، أضحت الأبصار في ربوع أوروبا شاخصةً إلى ما قد تجود به سلاسل التوريد القادم من بكين، من أبسط الأشياء حتى أعقدها في المجال الصحي.
بعيدا عن الطوارئ (الحرب والجوائح) التي قد لا تصلح وقائعها، في نظر بعضهم، قرائن على الوهن الأوروبي، نذكر أن الأوروبيين، باستثناء دول الجنوب المطلة على المتوسّط، كانوا ينظرون إلى قضايا التغير المناخي من باب الترف الفكري، الذي يُخاض من باب تأكيد مركزية العقل الأوروبي فقط، فهذه الدول، وبناء على أسانيد التاريخ ومعطيات الجغرافية، في منأى عن أي تداعياتٍ من شأنها أن تتولد عن معضلة التغير المناخي.
ناهيك عن أنها على أهبة الاستعداد، أو هكذا تظن، لمواجهة الكوارث البيئية الناجمة عن المناخ. لكن وقائع الأعوام الأخيرة بيّنت للأوروبيين حقائق أخرى، فشمال القارّة كما جنوبها، مهدّد بتداعيات أزمة كونية، لا تعير معطيات الجغرافية وافر الاهتمام.
وذلك بعد اجتياح ظواهر الطقس المتغيرة عموم أوروبا؛ من شرقها حتى غربها. وتراوح الأمر بين الفيضانات الصيفية (ألمانيا، إيطاليا…) والحرائق الملتهبة (اليونان، البرتغال، إسبانيا…) وموجات الجفاف والحر (فرنسا، بريطانيا…) التي سُجلت في عدد من المناطق الأوروبية أرقاما قياسية غير مسبوقة.
أظهر تعاطي أوروبا مع مشكلة الحرارة المرتفعة هذا العام، والفيضانات الجارفة العام الماضي، أن مساعيها في مجال الأمن البيئي نظرية أكثر منها عملية.
فموجة الحر أخيرا شلت مظاهر الحياة في عدة دول، كانت المملكة المتحدة أبرزها، لأن البنية التحتية المنتشرة في البلد (سكك حديدية، مطارات، مستشفيات، مدارس…) قديمة وعتيقة، لم تخضع لأي تحديثٍ أو تطوير يأخذ بالاعتبار ما يُحذّر من قرب حدوثه خبراء المناخ.
هكذا بدا حال الأمن البيئي في دول أوروبا، بعد مشاهد الحرارة والحرائق والفيضانات، أقرب ما يكون إلى واقع الحال في دول العالم الثالث.
نظر الأوروبيون هذه الأيام إلى صورتهم الحقيقية أمام المرأة، خصوصا بعد طول أمد الحرب الروسية الأوكرانية، وتأمّلوا فيها جيدا، حد التّألم على ما يبدو، حين اكتشفوا أن الأمن الأوروبي بمختلف الأشكال (العسكري، الاقتصادي، الطاقي، الصحي…) بين أيدي جهاتٍ أخرى خارج نطاق قارّتهم العجوز. حقيقة تصلح تفسيرا لما قاله مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: “أوروبا حديقة، وأغلب باقي العالم أدغال .. ويمكن للأدغال أن تغزو الحديقة”؟!
محمد طيفوري