السعودية ومصر: بين طموح النفوذ الإقليمي والخشية من الانفجار المجتمعي
تناولت مؤسسة فنك الأوروبية توتر العلاقات مؤخرا بين المملكة العربية السعودية ومصر في ظل المصالح المتضاربة الحالية بين البلدين والتي أصبحت واضحة من خلال الخلاف الإعلامي الأخير.
وبحسب مقال تحليلي للمؤسسة ترجمه المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط، يبدو أن العلاقات بين السعودية ومصر تشهد منعطفاً جديداً قد تصطدم فيه مصالح الجانبين ببعضها البعض.
وذكر المقال أن العلاقات بين البلدين اتسمت منذ منتصف 2013 بالدعم المتبادل، لا سيّما بعد عودة العسكر إلى سدّة الحكم في القاهرة. بيد أنّ التراشق الإعلامي الأخير بين الجانبين كشف عن صدعٍ كبير في العلاقات السعودية المصرية.
ويبدو أن هذا الصدع يرتبط بطموح الرياض في تعزيز نفوذها الإقليمي وخشية النظام المصري من وقوع انتفاضة شعبية أو حتى انقلاب داخل الجيش جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد.
التراشق الأخير بدأ بتصريحٍ قال فيه وزير المالية السعودي محمد الجدعان: “اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة دون شروط. ونحن نغير ذلك. المساعدات التي ستقدمها المملكة للدول الأخرى ستكون مشروطة بإصلاحات. نحن بحاجة لأن نشهد إصلاحات. نريد المساعدة، لكننا بحاجة لأن تقوموا بدوركم”.
وإذا كان الجدعان لم يذكر مصر بالاسم، إلا أن تركي الحمد الصحفي والكاتب السعودي المقرّب من دوائر الحكم في الرياض كان أكثر وضوحا. وقال الحمد في سلسلة من التغريدات: “مصر أسيرة صندوق النقد الدولي.. واقعها الحالي المتردي يعود لأسباب أبرزها هيمنة الجيش المتصاعدة على الدولة وخاصة الاقتصاد. فلا شيء يمر إلا عن طريق الجيش وبإشرافه ومؤسساته ولصالح المتنفذين منه. أما السبب الثاني فهو البيروقراطية الهرمة التي تقف حجر عثرة في وجه أي استثمار ناجح. وثالث الأسباب الثقافة الشعبية المستكينة”.
تصريح الوزير السعودي وتغريدات الحمد تطرح مفارقة مهمة لجهة المضمون والتوقيت. فدول الخليج بقيادة السعودية ضخّت ما يقارب 92 مليار دولار في سبيل إعادة الجيش المصري إلى سدة الحكم. وها هي اليوم تحمّل هذا الجيش مسؤولية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، علما بأنّ سيطرة الجيش على مناحي الحياة الاقتصادية واحتكاره الحياة السياسية ليست وليدة هذه الفترة.
ديون مصر كانت في عام 2011 لا تزيد عن 34.9 مليار دولار. ومع وصول السيسي إلى سدّة الحكم في عام 2013 ارتفعت الديون لتصل إلى 43.2 مليار دولار. واستمرت الديون بالتنامي لتصل إلى 48.1 مليار دولار في عام 2015 و108.7 مليار دولار في عام 2019.
ويعني تنامي الديون أنّ ما وصلت إليه مصر جاء ضمن مسارٍ متسلسل له “مقدمات ونتائج” ولم يكن مفاجئا لأي مراقب.
والأزمة الاقتصادية التي انعكست على الواقع المعاشي للمواطنين في مصر مع بلوغ سعر صرف الدولار أكثر من 30 جنيها، أصبحت الشغل الشاغل للقيادة المصرية. وفي هذا السياق، حدّد الرئيس السيسي ما أسماها بـ “الفجوة الدولارية” بنحو 30 مليار دولار. وبحسب الرئيس المصري، فإن سدّ هذه الفجوة يتطلب استثمار 100 مليار دولار على مدى سبع سنوات.
هذا التصريح تمت قراءته على أنه رسالة لدول الخليج وفي مقدمتها السعودية للمساهمة في سدّ الفجوة، وبما يحول دون وقوع حالة من الانفجار المجتمعي.
بيد أنّ دعوات السيسي لم تلق آذاناً صاغية من السعودية، وهو ما دفع مصر، بحسب مراقبين، لتصعيد خطابها الإعلامي.
هذا التصعيد جاء عبر الإعلام الرسمي ومن خلال افتتاحية صحيفة الجمهورية كتبها رئيس التحرير عبد الرزاق توفيق. وكال توفيق في مقالته شتائم غير مسبوقة للسعوديين ووصفهم بـ”الحفاة العراة الأنذال”.
وبعد عدّة أيام، حذف توفيق المقالة من الموقع واعتذر عمّا جاء فيها. وجاء ذلك على إثر دعوة الرئيس السيسي الإعلام إلى عدم التصعيد، علما بأن المقال نُشِر في جريدةٍ تخضع عادة لتوجيهات رسمية تسبق النشر.
الاعتذار الأخير لم يحرّك ساكنا في الموقف السعودي. كما أنّ محاولة السيسي الواضحة إرسال إشارات إيجابية خلال مؤتمر الحكومات الذي عُقِد في 13 فبراير 2022 لم يعد بالنتائج المرجوة. وعلى هامش هذا المؤتمر، قال السيسي إنّ مواقع التواصل تسهم في الوقيعة بين بلاده ودول الخليج، مطالبا بـعدم السماح لها بالتأثير على “وحدتنا”. وأضاف: “أول ما أسلّط الضوء عليه هو الدعم الذي تلقيته من أشقائنا”.
السياق الاقتصادي ليس الوحيد الحاضر في توتر العلاقات بين القاهرة والرياض. وبحسب ما نقله موقع أكسيوس عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين، فقد مصر أوقفت صفقة نقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية.
واحتلت إسرائيل هذه الجزر عام 1967. وبموجب اتفاقية كامب ديفيد، انسحبت إسرائيل من الجزيرتين وأعادتهما إلى الحماية والإدارة المصرية. وتتواجد في الوقت الراهن قوات دولية متعددة الجنسيات في هاتين الجزيرتين.
السعودية طالبت مصر بتبعية الجزيرتين في أكثر من مناسبة. وفي 8 أبريل 2016، وقّعت مع مصر اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين البلدين. وطبقاً لبنود الاتفاقية، فإن الجزيرتين تقعان داخل الحدود البحرية السعودية. إلا أنّ محكمة القضاء الإداري في مصر أصدرت حكمها في 21 يونيو 2016 ببطلان توقيع الاتفاقية. وأيدتها في ذلك دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا بحكمها الصادر في 16 يناير 2017.
هذا المسار القضائي قابلته أحكام قضائية لمسارٍ قضائي موازٍ، تمثل في حكم محكمة الأمور المستعجلة الصادر في 2 أبريل 2017 بإسقاط أسباب حكم المحكمة الإدارية العليا واستمرار سريان الاتفاقية. وأيدها في ذلك حكم محكمة مستأنف الأمور المستعجلة الصادر في 28 مايو 2017.
ودفع ذلك رئيس المحكمة الدستورية العليا لإصدار أمر وقتي في 21 يونيو 2017 بوقف تنفيذ كلا الحُكمين للمسارين القضائيين، وذلك لحين الفصل في تنازع الأحكام القضائية.
أما البرلمان المصري فقد أقرّ الاتفاقية في 14 يونيو 2017. وقام عبد الفتاح السيسي بالتصديق عليها في 17 يونيو 2017. وهذا يعد مكسبا اقتصاديا للسعودية لجهة خطوط الطيران المدني من جهة. كما يمكن اعتبار ذلك بمثابة مقدّمة عملية لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب.
مسؤولون إسرائيليون يرون، بحسب أكسيوس، أنّ تردد مصر في تنفيذ الاتفاق يتعلق بالعلاقات الثنائية الأمريكية – المصرية والدعم العسكري الأمريكي لمصر. وجمدت الولايات المتحدة نسبة 10% من المساعدة السنوية لمصر، وهي 1.3 مليار دولار، لأسباب تتعلق بالقلق على حقوق الإنسان.
ويرى إعلاميون محسوبون على المعارضة المصرية أن هذا الأمر يأتي أيضا في سياق محاولة “ابتزاز” للسعودية ودفعها لتقديم الدعم المالي لإنهاء الأزمة الاقتصادية التي تشكل التهديد الحقيقي لمؤسسة الحكم في مصر.
السعودية لم تشر في أيٍّ من تصريحات مسؤوليها الأخيرة إلى مسألة تيران وصنافير بل ذهبت إلى التركيز على الجانب الاقتصادي ومعها الكويت.
وقال وزير الخارجية الكويتي سالم عبدالله الصباح إن بلاده تعتزم “مراجعة الطريقة التي تنتهجها في تقديم المساعدات للدول العربية والنامية عبر الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية”.
أما الإمارات فلم يصدر منها ما يشير إلى أنها تسير في الطريق السعودي. واستضافت أبوظبي قمة جمعت قادة الإمارات والبحرين وقطر وسلطنة عمان والأردن ومصر، فيما غاب عنها التمثيل السعودي. كما أنجزت الإمارات مؤخرا عبر إحدى شركاتها صفقة استحوذت بموجبها على نصف محطات وقود شركة توتال انيرجي في مصر.
المعارضة المصرية المتواجدة خارج البلاد أشارت عبر منصاتها الإعلامية إلى ما اعتبرته خمس شروطٍ سعودية لعودة الأمور إلى مجاريها بين الرياض والقاهرة. ومن هذه الشروط إقالة جميع الإعلاميين الذين تصدّروا التراشق الإعلامي، لاسيّما رئيس تحرير صحيفة الجمهورية الرسمية.
أما الشرط الثاني فيشمل تسريع نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية. ويتمثل الشرط الثالث بوقف دعم إقامة قاعدة روسية في السودان. وتشمل الشروط منح السعودية حق استضافة المراكز الرئيسية لمنتدى البحر الأحمر، فضلاً عن عدم منافستها في حل الأزمة السودانية.
وذهبت بعض وسائل الإعلام المعارضة في طروحاتها إلى حد زعم السعودية سرّبت خبر لقاء جمال مبارك بجوناثان كوهين، السفير الأمريكي السابق لدى القاهرة. واعتبرت أن هذه الخطوة السعودية تأتي كتلويح للرئيس السيسي بأن لدى الرياض من يمكن أن يحل محله.
ومع ذلك، فإنّ هذا الطرح لم تأخذه جميع أطراف المعارضة على محمل الجد، لاسيما وأن الجيش المصري الذي انقلب على الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك فعل ذلك لمنع ابنه جمال من أن يرث منصبه.
تحرص السعودية على تعزيز نفوذها على المستوى الإقليمي. وهي تستند في ذلك على ما تملكه من إمكانيات اقتصادية هائلة وما لها من وضع إسلامي يتعلق بوجود الأماكن المقدسة لدى المسلمين تحت إدارتها. وبطبيعة الحال، فإنّ تطلعات الرياض تأتي على حساب انحسار قوّة القاهرة.
في المقابل، يحرص الجيش المصري، وعلى رأسه السيسي، على البقاء في سدّة الحكم، في ظل واقعٍ سياسي عصيب وقبضة أمنية استبعدت قوى المعارضة التقليدية وحتى الشخصيات المؤثرة من داخل الجيش كالفريق سامي عنان والمرشح السابق للانتخابات المصرية أحمد شفيق.
وعلى هذا الأساس، فإن الانتخابات الرئاسية المقرّر عقدها في عام 2024 لن تأتي بالجديد، سيّما وأنه لم تعد هناك شخصياتٌ مصرية تمتلك قوة التأثير على الشارع وتستطيع منافسة السيسي في هذه الانتخابات.
وعلى وقع هذا الوضع العصيب، يعيش الشعب المصري بعمومه معارك طاحنة مع تكاليف المعيشة التي تشهد قفزاتٍ غير مسبوقة. ومع أن البعض قد يستبعد وقوع حالة من الانفجار المجتمعي خوفاً من القبضة الأمنية، إلا أنّ الوضع العصيب الذي يعيشه المصريون قد يقود إلى مآلاتٍ غير متوقعة أو محمودة العواقب.