تحليل أوروبي يبحث مصير مشروع قطار الخليج
بعد مرور 20 عاماً على وضع الخطط الأولية وتوقف دام 14 عاماً، يعود مشروع السكة الحديدية الخليجية إلى الواجهة، وهو المشروع الذي سيربط بين دول مجلس التعاون الخليجي ويُعرف إعلامياً باسم “قطار الخليج”.
فقد أظهرت دول المجلس اهتماماً متزايداً بإنجاز هذا المشروع. ويُتوقع أن يسهم مشروع السكة الحديدية بين سلطنة عمان والإمارات في إعادة قطار الخليج إلى مساره الصحيح.
وأبرزت مؤسسة “فنك” الأوروبية أنه في العام 2009 كلّفت قمة مجلس التعاون الخليجي وزراء النقل والمواصلات في دول الخليج العربية بتكثيف العمل لتنفيذ مشروع قطار الخليج بأسرع وقت.
ومع الإشارة إلى أنّ ذلك القرار استند يومها إلى دراسات جدوى اقتصادية بدأ العمل عليها منذ العام 2003 بتكليف من قمة المجلس التي انعقدت في تلك السنة.
ومنذ ذلك الوقت، حالت العديد من العوائق السياسية والاقتصادية دون المضي قدماً بإنجاز المشروع رغم أهميّته التي لا تقتصر على المنافع التجارية وحدها، بل تشمل كذلك أهدافاً استراتيجية وتكاملية وجيوسياسية بعيدة المدى.
إلا أنّ هذا المشروع بدأ يشهد –وللمرة الأولى- منذ العام 2023 خطوات جدية تتجه نحو تنفيذه على أرض الواقع. ففي أكتوبر منذ ذلك العام، وضع وزراء النقل والمواصلات الخليجيون القواعد الإدارية والقانونية والمالية المنظمة لعمل الهيئة الخليجية للسكك الحديدية، التي ستعمل على إدارة المشروع، كما صادقت دول مجلس التعاون على ميزانية الهيئة.
وفي الوقت نفسه، تمّ الاتفاق على ديسمبر 2030 ليكون الموعد النهائي لإنجاز وتشغيل السكك الحديدية. وخلال العام 2023 أيضاً، صادقت دول المجلس تباعاً على الاتفاقية العامة للمشروع، التي تحدد التزامات الدول الأعضاء ومسؤولياتها.
هكذا، بدت دول الخليج العربية مهتمة أكثر من أي وقت مضى بتسريع الخطوات التنفيذية المرتبطة بالمشروع الذي بات يُعرف في الإعلام الخليجي بمشروع “قطار الخليج”.
وعلى المستوى العملي، أعلنت شركة حفيت للقطارات في أبريل 2024 عن انتقالها إلى مرحلة تنفيذ مشروعها، الذي يُفترض أن يربط سلطنة عمان بالإمارات العربية المتحدة كجزء من شبكة قطار الخليج نفسها.
وأفادت الشركة أنّها لزّمت بالفعل عقود تنفيذ المشروع لمصلحة تحالف إماراتي عماني يضم شركات من البلدين. وبهذا الشكل، باتت فكرة ربط دول الخليج العربية بالسكك الحديدية تدخل حيز التنفيذ بالفعل.
تفاصيل المشروع والنموذج الاستثماري
وفقاً لخرائط المشروع التي نشرها مجلس التعاون الخليجي، من المفترض أن تنطلق شبكة سكك الحديد من الكويت باتجاه مدينة الدمام، على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، قبل أن تتفرّع الشبكة من هناك باتجاهين:
الأول نحو البحرين ثم قطر عبر جسرين بحريين، والثاني باتجاه جنوب الساحل السعودي بمحاذاة شواطئ المملكة الشرقية.
وفي النتيجة، من المفترض أن يلتقي المساران مجدداً عند منفذ سلوى، الذي يفصل بين السعودية وقطر. بعد تلك النقطة، تواصل الشبكة مسارها جنوباً نحو الساحل الإماراتي، وصولاً إلى أبوظبي، قبل الانعطاف جنوباً في عمق الصحراء نحو مدينة العين على الحدود الإماراتية العمانية، ثم مدينتي صُحار ومسقط على شواطئ خليج عمان.
على هذا النحو، سيكون الطول الإجمالي للمسار 2117 كلم، بما يمكّن دول مجلس التعاون الخليجي من شحن السلع ونقل الأشخاص من الكويت شمالاً إلى مسقط جنوباً.
وبحسب خطة المجلس، ستصل سرعة نقل الركاب بالقطارات إلى 220 كلم/ساعة، فيما ستتراوح سرعة نقل السلع ما بين 80 و120 كلم/ساعة. أما الكلفة الإجمالية للشبكة عند إنجازها، فقد تصل إلى نحو 15 مليار دولار أمريكي، وفقاً لتقديرات وزراء اقتصاد دول مجلس التعاون.
وفقاً لنص الاتفاقية الناظمة للمشروع، تتحمل كل دولة خليجية تكلفة إنشاء المشروع في الأجزاء الواقعة في أراضيها، كما تملك كل دولة صلاحية تحديد الجهات (الخاصة أو الحكومية) التي ستشيد وتشغّل وتستثمر في السكك الحديدية ضمن حدودها.
أما الجسر الممتد بين السعودية والبحرين، فسيتم كمشروع مشترك بين الدولتين بالشراكة مع القطاع الخاص. مع الإشارة إلى أنّ هذا المشروع ما زال قيد التخطيط بين الطرفين منذ سنوات، من دون أن يتم تلزيم استثماره لأي جهة حتى الآن.
وبهذا المعنى، لم يلزم مجلس التعاون الخليجي الدول الأعضاء بأي شراكة أو نموذج استثماري موحّد لإدارة أو إنشاء السكك الحديدية، بل ترك صلاحية إدارة الاستثمار للسلطات المحلية في كل بلد وفقاً لقوانينها.
أما دور الهيئة الخليجية للسكك الحديدية، فسيتركز على تلقي خطط العمل من الدول الأعضاء، وتنسيقها، ومواءمة الجداول الزمنية، للتمكّن من تنفيذ المشروع وفق مواصفات ومعايير فنية موحدة، وبما يؤمّن إنجاز الشبكة في المهلة المتفق عليها.
بعد إنجاز الشبكة، ستتولى الهيئة الخليجية للسكك الحديدية مسؤولية التنسيق بين الدول الخليجية، لجدولة عمليات نقل الركاب والسلع العابرة للحدود.
أما السلطات المحلية، فستبقى مسؤولة عن صيانة ومراقبة عمليات السكك الحديدية، في مقابل رسوم العبور التي يسددها المستفيدون من الشبكة.
وفي جميع الحالات، لا يوجد في نص الاتفاقية ما يمنع أي دولة من تلزيم هذا القطاع لديها وفق نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو حتى الخصخصة الكاملة.
على سبيل المثال، وبالنسبة إلى الجزء الممتد بين صُحار (عمان) وأبوظبي، الذي أشرنا إليه سابقاً، تم تلزيم بناء وإدارة المشروع لشركة حفيت للقطارات، التي تستمد اسمها من جبل حفيت الممتد بين سلطة عمان والإمارات العربية المتحدة.
وتتشارك ملكية وإدارة الشركة ثلاث جهات هي: شركة قطارات عمان (شركة عامة عمانية) وشركة الاتحاد للقطارات (شركة عامة إماراتية) وشركة مبادلة للاستثمار (صندوق الاستثمارات التابع لإمارة أبوظبي).
وعلى هذا الأساس، باتت شركة حفيت للقطارات هي الجهة المخوّلة بتلزيم أعمال سكك الحديد بين البلدين لمصلحة شركات الخاص.
تقدّم سير المشروع
من المهم الإشارة أوّلاً إلى أنّ أجزاء كبيرة من شبكة سكك الحديد المُشار إليها في مشروع قطار الخليج، هي عبارة عن مشروعات محلية يُفترض إنجازها –أو هي مُنجزة- أساساً ضمن مخططات شبكات سكّك الحديد داخل كل دولة، بمعزل عن المشروع الجامع.
ويمكن القول إن امتلاك دول مجلس التعاون الخليجي مشروعات محلية متقدّمة من هذا النوع، مثّل عاملاً مساعداً للخطّة الجامعة المتمثّلة بقطار الخليج. وهذا ما يمكن ملاحظته سريعاً عند مراجعة تقدّم سير المشروع.
على سبيل المثال، وعلى مستوى سكك الحديد الممتدة على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، والتي تشكّل جزءاً مهماً من مشروع قطار الخليج، أنجزت المملكة قسماً أساسياً من هذا المسار، عبر ربط مدينتي رأس الخير والدمّام، بسكك بلغ طولها الإجمالي قرابة الـ 200 كليومتر.
وهذا الربط هو أساساً جزء من الشبكة المحلية السعودية، التي تصل كذلك هذا الجزء من البلاد بأجزاء أخرى مثل الرياض وجدّة ورابغ وصولاً إلى الحدود الأردنية.
وهذا تحديداً ما سيسمح لمشروع قطار الخليج بربط الدول الخليجية الواقعة في شرق شبه الجزيرة العربية (قطر، الإمارات، عمان، الكويت)، بغرب ووسط شبه الجزيرة.
على النحو نفسه، يمكن الإشارة إلى أنّ الإمارات استكملت مسار سكة الحديد لديها باتجاه الحدود السعودية، من دون أن ترتبط بالشبكة السعودية بَعد، كجزء من برنامجها الوطني للسكك الحديدية، الذي يربط جميع الإمارات السبع بمسار يبدأ من الحدود السعودية ويصل إلى ميناء الفجيرة شرقاً.
ولذلك، باتت الإمارات حاضرة لإنجاز الجزء المرتبط بها من مشروع قطار الخليج، بمجرّد إنهاء القسم الذي يربط أبوظبي بمدينة صحار في سلطنة عمان، وهو تحديداً ما تقوم به شركة حفيت للقطارات حالياً.
تمتلك قطر شبكة سكك حديدية حديثة وفق المعايير المنصوص عنها في مشروع قطار الخليج. ولإنجاز الجزء الخاص بها في مشروع قطار الخليج، لم يتبق إلى ربط الشبكة القطرية بمدينة الدمام في السعودية عبر منفذ سلوى.
أما البحرين، فما يزال مشروع نظام القطار الخفيف في مرحلة التخطيط، ومن المتوقع ربط الشبكة البحرينية بالشبكتين القطرية والسعودية عبر الجسور البحرية.
مع الإشارة إلى أنّ البحرين اتفقت مع قطر في نوفمبر 2023 على إعادة إحياء مشروع “جسر المحبّة” البحري، الذي يحقّق هذا الربط بينهما بالسكك الحديدية. في حين أنّ البحرين تتصل أساساً بالسعودية عبر جسر الملك فهد البحري، وهو ما يسهّل الربط بين البلدين بالسكك الحديدية عبر إنشاء مسار جديد موازي للجسر القائم بالفعل.
أخيراً، وعلى مستوى الكويت، تخطط الدولة لإنشاء شبكة حديثة لسكك الحديد، وهو ما يسهّل عملية الربط مع السعودية، بمجرّد إنجاز السكك الحديدية بين منفذ النويصيب من الجهة الكويتية، ومنطقة الخفجي جنوباً من الجهة السعودية.
وفي يونيو 2023، وقّع الجانبان الكويتي والسعودي الاتفاقية التي تسمح بهذا الربط، واعتمدا مخرجات دراسة الجدوى في يوليو 2024.
على هذا الأساس، يمكن القول إن السعودية والإمارات أنجزتا الجزء الأهم من شبكة سكك الحديد الإقليمية، عبر إنجاز شبكاتهما الداخلية، التي ستربط بدورها مستقبلاً دول مجلس التعاون على امتداد الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية.
وهذا الربط، سيتحقّق بمجرّد اتصال الشبكات السعودية والإماراتية بشبكات الدول المجاورة، تماماً كما يجري اليوم في مشروع سكك الحديد الذي يصل أبوظبي بسلطنة عمان.
مشروع قطارات حفيت
يُعتبر مشروع قطارات حفيت، الذي يربط أبوظبي بصُحار في سلطنة عمان، الجزء الأول من مشروع قطار الخليج الذي يصل إلى مرحلة التلزيم وبدء التنفيذ. وعلى نحوٍ أدق، سيمثّل قريباً أوّل عملية ربط عابرة للحدود للسكك الحديدية، في دول الخليج العربية.
ومن المقدّر حالياً أن تبلغ كلفة المشروع الإجمالية نحو 3 مليار دولار، بينما يعمل مجلس إدارة شركة حفيت للقطارات على وضع الجدول الزمني لتنفيذ الأعمال التي تم تلزيمها لمقاولين إماراتيين وعمانيين.
وكان واضحاً أنّ سلطات البلدين أصرّت على إبقاء ملكية وإدارة وتمويل المشروع بيد ثلاث شركات إماراتية وعمانية، وهم شركة مبادلة التي تُعتبر الصندوق السيادي والاستثماري الأساسي لإمارة أبوظبي المُنتجة للنفط، بالإضافة إلى شركة قطارات عمان (شركة عامة عمانية) وشركة الاتحاد للقطارات (شركة عامة إماراتية).
ومن الناحية العملية، لم يكن غريباً أن يكون هذا الجزء من مشروع قطار الخليج الجزء الأول الذي يدخل حيز التنفيذ، بالنظر إلى جدواه الاقتصادية الواضحة وقلة التعقيدات السياسية المحيطة به، إذ تشير الأرقام إلى حجم التبادل التجاري الضخم بين الإمارات وعمان، والذي تجاوز حدود الـ 111.1 مليار دولار خلال العام 2023.
وبشكل عام، كانت الإمارات الوجهة النهائية لأكثر من 20% من الصادرات العمانية، بينما مثّلت الإمارات مصدر 40% من الواردات العمانية. وهذا ما جعل الإمارات الشريك الاقتصادي الأول لسلطنة عمان، مقارنةً بباقي الدول.
وعند إتمام المشروع، تشير شركة “قطارات الاتحاد” إلى أنّ سكك الحديد ستسمح بتخفيض وقت رحلات الشحن بين الدولتين بنسبة 50%، وخفض التكلفة بنسبة 40%، مقارنةً بوسائل النقل البري المتاحة اليوم.
ومن المرتقب أن يمتد طول السكك الحديدية على مسافة أكثر من 303 كيلومتر، لتعبر من أبوظبي باتجاه مدينة العين عند الحدود الإماراتية العمانية، ولتصل من بعدها إلى مدينة صُحار على شواطئ عمان. أما ربط صُحار بمدينة مسقط على شواطئ سلطنة عمان، فيبقى من اختصاص ومهام السلطات العمانية وحدها.
العراقيل التي أخّرت تنفيذ المشروع
بعد الاتفاق على إعداد دراسات الجدوى عام 2003، ظلّ هذا المشروع يراود الكثير من صناع القرار والاقتصاديين الخليجيين، بالنظر إلى أهميته الاستراتيجية والاقتصادية. ومع ذلك، وعلى مر العقدين الماضيين، حالت بعض العوامل السياسية والمالية والاقتصادية دون استكمال المشروع.
ففي المرحلة الأولى، بعد مصادقة قمة مجلس التعاون عام 2009 على المشروع، أدت الضغوط التي تلت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 إلى تأخير معظم المشروعات المتصلة بالبنية التحتية في منطقة الخليج، ومنها مشروعات سكك الحديد.
إذ من المعلوم أن الصناديق السيادية الخليجية خسرت في أعقاب تلك الأزمة الاقتصادية قيمة تتراوح بين 450 و600 مليار دولار أمريكي جرّاء هبوط قيمة أصولها الاستثمارية أو فقدان هذه الأصول الملاءة الائتمانية.
عانت الأنظمة المالية الخليجية –شأنها شأن جميع الاقتصادات العالمية الأخرى- من بعض أزمات شح السيولة، وهو ما أثّر في قدرتها على تمويل المشروعات الضخمة. وتقاطعت كل هذه العوامل مع انخفاض كبير في أسعار النفط العالمية التي تمثّل عصب الاقتصادات الخليجية.
وعلى أي حال، ظلّت الدول الخليجية تعاني من نتائج تلك التطوّرات القاسية على اقتصاداتها لسنوات عدة قبل أن تشهد أسواق المال العالمية والخليجية علامات التعافي التدريجي.
ثم عادت العراقيل الاقتصادية لاحقاً، كما حصل عام 2015 في أعقاب تدهور أسعار النفط العالمية، عندما سجّلت الميزانيات العامة المجمعة لدول الخليج عجزاً إجمالياً قارب الـ 160 مليار دولار أمريكي، بحسب أرقام شركة “كامكو” للاستثمار.
بينما انخفضت العوائد السنوية للدول المصدّرة للنفط في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنحو 390 مليار دولار أمريكي، مقارنة بالسنة السابقة، وذلك وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.
ثم تكررت هذه الصعوبات المالية بشكل أقسى بين عامي 2020 و2021، في ضوء التداعيات المالية لتفشّي وباء كورونا، والتي تركت أثرها في معظم المشروعات الاستراتيجية في الخليج.
في مراحل أخرى، اتسمت العراقيل التي أخّرت المشروع بطابع سياسي. وهذا ما حصل عام 2014، مع سحب السعودية والبحرين والإمارات سفراءها العاملين في قطر لأسباب تتصل –بحسب هذه الدول- بتدخل الدوحة “في شؤون دول الخليج الداخلية، ما يؤدي إلى تهديد الاستقرار الأمني والسياسي.
وكان من الواضح أنّ أسباب هذه القطيعة الدبلوماسية اتصلت بخلاف دول الخليج العربية حول كيفية مقاربة بعض الملفّت الخارجية، مثل العلاقة مع تنظيم الإخوان المسلمين، وكيفية التعامل مع نظام الرئيس عبد الفتّاح السيسي في مصر، بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي.
تم الاتفاق على عودة السفراء الثلاثة إلى الدوحة في السنة نفسها إثر قمة خليجية استثنائية أفضت إلى فتح صفحة جديدة بين قطر وهذه الدول.
إلا أنّ الازمة عادت وانفجرت على نحو أكبر عام 2017، مع إعلان نفس الدول الخليجية –إلى جانب مصر وبعض الحلفاء الآخرين- حصاراً برياً وبحرياً وجوياً على قطر، إلى جانب قطع العلاقات الدبلوماسية. ولم تنته هذه الأزمة إلّا بحلول عام 2021، بعد توقيع اتفاق “تضامن واستقرار” أفضى إلى مصالحة أنهت الخلاف الحاصل.
بهذا الشكل، لم يكن من المتوقّع أن تتمكّن دول الخليج العربية من إنجاز مشروع طموح من هذا النوع في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تتالت بين عامي 2009 و2023.
جدوى هائلة لقطار الخليج
من الواضح أنّ ثمّة مجموعة من المصالح التي أعادت طرح الملف وتحريكه منذ العام 2023 بما وضعه قيد التنفيذ بالفعل. إذ بحلول العام 2023، بات حجم التجارة البينية التي تجري ضمن إطار دول مجلس التعاون الخليجي يتجاوز 107 مليار دولار سنوياً، وهو ما يقارب 9% من إجمالي التجارة الخارجية لدول الخليج العربية.
مع الإشارة إلى أنّ هذا الرقم لم يكن يتجاوز 15 مليار دولار عام 2002، قبل أن يرتفع تدريجياً منذ العام 2003 بالتوازي مع انضمام دول الخليج العربية إلى الاتحاد الجمركي الموحد.
هكذا، ومع تزايد حجم التجارة البينية بين دول الخليج، تزايدت الجدوى الاقتصادية لمشروع قطار الخليج، الذي يُفترض أن يقدّم خدمات الشحن التجاري بين هذه الدول.
وتشير تقديرات بعض الخبراء إلى أنّ نسبة التجارة البرية تتجاوز 80% من أصل إجمالي قيمة التجارة البينية التي تجري ضمن أسواق مجلس التعاون الخليجي.
وبهذا المعنى، يمكن لهذا المشروع أن يسهم في تخفيض كلفة شحن نسبة كبيرة من السلع المتداولة في السوق الخليجي، والتي يجري شحنها عبر البر، كما سيسمح بتعزيز التكامل بين اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي.
أما القطاعات الصناعية بالتحديد، فستستفيد من تخفيض كلفة الإنتاج بمجرد تأمين وسائل أقل كلفة لربط سلاسل التوريد المنتشرة بين دول مجلس التعاون الخليجي.
وهذا ما يتكامل أساساً مع فكرة الاتحاد الجمركي التي استهدفت إزالة الحواجز التجارية، وتسهيل تدفق السلع على امتداد دول مجلس التعاون، تحقيقاً للتكامل الاقتصادي في ما بينها. وهنا، يتناسق مشروع قطار الخليج مع سياسات التحوّل الاقتصادي التي تقوم بها السعودية والإمارات، عبر الرهان على مناطق اقتصادية حرة تستقطب المشروعات الصناعية الكبرى.
وعلى مستوى الخطط والرؤى الاستراتيجية التي وضعتها الدول الخليجية العربية خلال العقد الماضي، كان من الواضح انتقال قطر والسعودية والكويت وعمان إلى التركيز على دور القطاع السياحي في إطار جهود هذه الدول لتنويع اقتصاداتها المحلية. وهذا ما يحاكي التجربة الإماراتية، التي كانت سبّاقة بين الدول الخليجية في العمل على تطوير هذا القطاع منذ التسعينيات.
ولهذا السبب، خلال العام 2024، من المتوقع ارتفاع إنفاق السيّاح الدوليين على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي إلى 151.1 مليار دولار أمريكي، بنسبة 11.6% قياساً بالعام السابق، وفقاً لأرقام مجلس السفر والسياحة العالمي.
هذا العامل بالتحديد هو ما أعاد تسليط الضوء على أهمية ربط دول الخليج بمشروع السكك الحديدية، الذي يمكن أن يقلص كلفة انتقال السياح الخليجيين والدوليين بين المقاصد السياحية المنتشرة في أكثر من دولة خليجية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تجربة الاعتماد على القطارات لتنقّل الأفراد لمسافات البعيدة أظهرت نجاحاً في السعودية، إذ ارتفع عدد ركاب الخطوط الحديدية في المملكة بنسبة 55% خلال العام 2023 مقارنة بالعام 2022، ليصل إلى نحو 11.2 مليون راكب.
في هذا الجانب، يتكامل مشروع قطار الخليج مع فكرة التأشيرة الخليجية الموحدة التي ستدخل حيز التنفيذ عام 2025، والتي ستسمح للسياح الأجانب بالتنقّل بين دول مجلس التعاون الخليجي بمجرد الحصول على إقامة أو تأشيرة لدخول إحدى هذه الدول.
ومن المهم التنويه إلى أن السيّاح الخليجيين لا يحتاجون إلى أي إقامة أو تأشيرة للتنقّل بين دول المجلس، إذ يكفي اعتماد بطاقة الهوية الذكية لإثبات الهوية والانتقال من دولة خليجية إلى أخرى. وفي جميع الحالات، من المتوقّع أن يأتي جزء من الطلب على خدمات قطار الخليج من الحجاج الخليجيين الذين يتجهون سنوياً لأداء المناسك الدينية في مكة المكرمة.
إلا أنّ هذه المصالح الواضحة تقاطعت في هذه المرحلة مع تأسيس جميع دول الخليج العربية خلال العقدين الماضيين شركات لتقديم خدمات النقل والشحن بالقطارات داخل حدود كل دولة. وبذلك بات تحقيق المشروع القديم متاحاً بمجرد تنفيذ عدد محدود من عمليات الربط على امتداد السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية.
وهذا ما جعل المشروع اليوم أكثر واقعية ومرونة وأقل كلفة، مقارنةً بالفترة التي طُرح فيها للمرة الأولى قبل أكثر عقدين، أي عام 2003. أما الاستقرار الاقتصادي الذي تشهده دول الخليج العربية اليوم، فبات يسمح بتوظيف فوائضها المالية في هذا النوع من المشروعات.
التكامل مع المشروعات والأهداف الاستراتيجية الكبرى
بمعزل عن الأهداف والسياسات الاقتصادية المحلية، يتكامل مشروع “قطار الخليج” مع الكثير من المشروعات والأهداف الاستراتيجية على المستوى الإقليمي، وبما يخدم مصالح الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.
فعلى سبيل المثال، يعمل العراق منذ يوليو 2023 على تحقيق مشروع “طريق التنمية” الذي يهدف إلى جعل الأراضي العراقية ممراً لنقل السلع ومصادر الطاقة من الكويت جنوباً إلى تركيا شمالاً، ومنها إلى أوروبا.
وسيعتمد المشروع على شبكة كبيرة من السكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز، وعلى مبادرات القطاع الخاص التي ستتولى إنشاء المدن الصناعية ومراكز التخزين وإعادة الشحن على طول الممر. أما جدوى المشروع، فستنطلق من توسطه ما بين أحد أبرز التكتلات الصناعية المصدّرة للسلع، أي الاتحاد الأوروبي، وأحد أبرز التكتلات المصدّرة لمصادر الطاقة، أي دول الخليج العربية.
بهذا الشكل، يصبح مشروع قطار الخليج جزءاً مكمّلاً لمسار تجاري يصل إلى حدود الاتحاد الأوروبي شمالاً، عبر العراق. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم اهتمام جميع دول الخليج العربية بالمشروع العراقي إلى حد الاستعداد لتأمين الاستثمارات المطلوبة لإنجازه.
وعلى هذا الأساس أيضاً، يمكن قراءة الاهتمام الأوروبي والخليجي بإعادة طرح ملف تحرير التجارة ما بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، منذ مايو 2024، بعدما ظلّ هذا الملف معلّقاً منذ ثمانينيات القرن الماضي. باختصار، زاد المشروع العراقي من جاذبية مشروع قطار الخليج وأهميته الاستراتيجية بعدما تكامل المشروعان في أهداف ربط الخليج بالسوق الأوروبية.
ثمة مشروع استراتيجي آخر يتكامل بدوره مع مشروع قطار الخليج، وهو مشروع الممر الاقتصادي، الذي تم توقيع اتفاقيّته على هامش قمة مجموعة العشرين في سبتمبر 2022. هذا المشروع، يُفترض أن يفضي في النهاية إلى ربط الهند بأوروبا تجارياً، عبر شبكة من الموانئ والسكك الحديدية والمراكز اللوجستية، التي تمرّ بالإمارات والسعودية وإسرائيل.
ومن المعلوم أنّ ربط الإمارات بالهند، وإسرائيل بأوروبا، سيحتاج إلى بنى تحتية متصلة بوسائط الشحن البحري. غير أنّ عملية الربط التجاري من الإمارات باتجاه إسرائيل ستحتاج إلى وسائط النقل البري بشكل أساسي، ومن خلال السكك الحديدية على وجه الخصوص.
بهذا الشكل، يحقق مشروع قطار الخليج شبكة النقل المطلوبة ما بين الإمارات والسواحل الشرقية للسعودية، بينما تسمح شبكة السكك الحديدية السعودية الداخلية –الموجودة أصلاً- بنقل السلع باتجاه الحدود الأردنية.
وهذا ما يجعل قطار الخليج جزءاً مكمّلاً لمشروع الممر الاقتصادي الذي سيحتاج حتماً إلى استثمارات إضافية في مجال التخزين وإعادة الشحن على طول مساره. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ ولادة مشروع الممر الاقتصادي الذي أُعلن عنه في اجتماع مجموعة العشرين، ساهم في إحياء فكرة قطار الخليج. كما باتت السعودية -بسبب مشروع الممر الاقتصادي- معنية أكثر من السابق بتسهيل إنجاز مشروع قطار الخليج ضمن إطار مجلس التعاون الخليجي.
وعلى أي حال، يكتسب الحديث عن مشروع الممر الاقتصادي حساسية خاصة على المستوى الاستراتيجي في هذه المرحلة بالذات، بالنظر إلى اتصاله بملفات أخرى، مثل التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والمعاهدة الدفاعية الأمريكية السعودية، والدور السعودي في قطاع غزة بعد الحرب الدائرة اليوم. وجميع هذه الملفات باتت جزءاً من سلة شاملة من التفاهمات الإقليمية التي عملت عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ العام 2023.
إلى جانب كل هذه المشروعات الاستراتيجية، يحقق مشروع قطار الخليج أهدافاً ومصالح لا تقل أهمية، على مستوى الأمن الجماعي الخليجي. إذ سيسمح هذا المشروع بتأمين ممر تجاري مستدام، يصل الأسواق الخليجية بمدينة مسقط مباشرةً، وبمينائي الدقم وصلالة، من دون المرور بمضيق هرمز.
وهذا ما سيقلص المخاطر التي قد تتعرّض لها الدول الخليجية العربية في المستقبل، إزاء أي اضطرابات قد تؤثّر على خطوط الإمداد التجاري داخل منطقة الخليج أو عند مضيق هرمز. وبعبارة أوضح، سيسمح المشروع بتنويع خطوط الإمداد الخليجية، بعيداً عن الهيمنة الإيرانية المباشرة داخل منطقة الخليج أو عند مضيق هرمز.
وعلاوة على ذلك، سيسمح قطار الخليج بربط مشروعات السعودية الاستراتيجية في غرب المملكة، أي على شواطئ البحر الأحمر، بموانئ الإمارات وسلطنة عمان.وتشمل تلك المشروعات السعودية الكبرى مدينة نيوم والتجمعات الصناعية المحيطة بها، بالإضافة إلى المنتجعات والمجمعات السياحية التي تُشيد هناك.
ومن خلال قطار الخليج، سيتمكّن بن سلمان من وصل هذه المشروعات الكبرى بممرات بحرية إضافية غير خاضعة لتأثير الحوثيين الذين يستعرضون حالياً قدراتهم من خلال العمليات البحرية في جنوب البحر الأحمر.
أخيراً، ورغم جميع المصالح التي تدفع باتجاه تنفيذ مشروع قطار الخليج، يبقى من المهم الإشارة إلى جملة من التحديات التي قد تعرقل تقدمه خلال السنوات المقبلة. إذ سيبقى إنجاز المشروع وتقدمه معتمداً على حفاظ دول مجلس التعاون الخليجي على الحد الأدنى من الهدوء السياسي الذي يحكم علاقاتها اليوم.
أما عودة حالة الاشتباك السياسي بين دول المجلس، كما حصل عامي 2014 و2017، فستؤدي حكماً إلى عرقلة المشروع من جديد. وفي الوقت الراهن، يخشى كثيرون أن يؤثر التنافس الإماراتي السعودي، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، في المشروعات الهادفة إلى تحقيق التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي.