دراسة أوروبية تحذر: الحرب الأهلية “الباردة” في سوريا قد تشتعل مرة أخرى
نشرت مجلة “وورلد بوليتكس ريفيو” دراسة أعدّها أليكساندر كلاركسون، المحاضر في الدراسات الأوروبية بجامعة لندن، استعرض فيه الحديث عن مدى سهولة اشتعال الحرب الأهلية مرةً أخرى في سوريا.
وذكرت الدراسة بحسب ما ترجمها المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط، أنه منذ يونيو 2011، عندما بدأت الأخبار تتسرَّب من سوريا عن مؤشراتٍ أولية تفيد بوجود مقاومة مسلحة ضد النظام البعثي للرئيس السوري، آنذاك، بشار الأسد، لم يكن بوسع كثيرٍ من المراقبين للأوضاع أن يتنبؤوا بحجم الفوضى التي ستضرب النظام العالمي من جرَّاء ذلك الصراع الدائر في سوريا.
وبعد مرور أشهر من ممارسة نظام الأسد أعمالَ عنفٍ وحشية ضد المحتجين، سيطر سكان محليون في محيط مدينة جسر الشغور بمحافظة إدلب، التي تقع شمال البلاد، على مركز شرطة في 4 يونيو، ما أدَّى إلى تحوُّلٍ كبيرٍ لم يفهم تداعياته إلا قليل من المراقبين للأوضاع في سوريا.
وبعد يومين، ومع نشوب مقاومةٍ مسلَّحةٍ بقيادة ضباط الشرطة المنشقين الذين انضموا إلى المعارضة في مواجهة وحدات عسكرية سورية قريبة تابعة للنظام، كان ذلك بدايةَ صراعٍ يهدف إلى إعادة تشكيل سياسات الشرق الأوسط وأوروبا.
وأسفرت المعاناة الإنسانية التي تفاقمت بسبب الأعمال الوحشية التي يرتكبها النظام السوري، بما في ذلك استخدام الغازات السامة، فضلًا عن الدمار الذي يُحدثه تنظيم داعش والتناحر الداخلي في صفوف حركة معارضة مُشتَّتة ومحاولات مليشيات كردية سورية تشكيل شبه دولة، عن تمزُّق أوصال المجتمع السوري، الذي يبدو أنه لن يجد حلًّا للخروج من هذه المشكلة في أي وقتٍ قريبٍ.
وأدَّت موجات كبيرة من الهجرة السورية، التي أذكى لهيبها قتال لا نهاية له وانهيار اقتصادي، إلى إنشاء شبكة جاليات سورية تضم ما يصل إلى 11 مليون لاجئ منتشر في جميع أنحاء لبنان وتركيا وألمانيا وغيرها من الدول التي أصبحت سياساتها مرتبطة بالتطورات الجارية في سوريا التي فرَّ منها هؤلاء اللاجئون.
وبعد أن وصلت الحرب على ما يبدو إلى ذروتها في عامي 2016 و2017، تحوَّل انتباه كل من صُنَّاع السياسة في الغرب ومجموعة كبيرة من مراكز الفكر والأبحاث التي تُشكِّل المناقشات المتعلقة بالسياسات الخارجية إلى تحدِّيات جيوسياسية أخرى.
غير أن التوازن الظاهر الذي دفع سوريا عن صدارة جداول الأعمال السياسية واهتمامات وسائل الإعلام نتج من أن عِدَّة قوى خارجية عمَّقت اهتماماتها بالتطورات الجارية منذ أمد بعيد في سوريا.
وكان ذلك بطرق تشير إلى أن تلك القوى لا تستطيع أن تتحاشى تأثير التغييرات التي تستجد على أرض دمشق، مع أنها تأمل أن لو استطاعت ذلك.
ووفق الدراسة كان التدخل العسكري الأمريكي للوقوف إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية أو “قسد” ذا أهمية حاسمة لطرد جهاديي داعش من المدن الكبرى إلى مناطق نائية في وسط سوريا بحلول أغسطس (آب) 2017.
وأدَّى سقوط المناطق التي يسيطر عليها معارضون في مدينة حلب في أواخر عام 2016 في هجوم عسكري للنظام، مدعوم من قوات المدفعية والغارات الجوية الروسية إلى جانب آلاف من المقاتلين بقيادة قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في لبنان، إلى أن أحكم الأسد قبضته على المدن الكبرى في سوريا.
وفي الوقت ذاته، ضمن التدخل التركي في المناطق الشمالية من محافظتي حلب وإدلب نجاة المجموعة الأخيرة من مناطق المعارضة التي تخضع لحماية أنقرة العسكرية.
وتمسَّكت حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بموقفها الجديد في سوريا. وفي عام 2018، سيطرت تركيا على منطقة عفرين، شمال شرق البلاد، وانتزعتها من أيدي مليشيات وحدات حماية الشعب الكردية السورية، التي كانت سابقًا شريك واشنطن الرئيس على الأرض، ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا أيضًا بأعمال التمرد التي ينفذها حزب العمال الكردستاني التركي.
وبعد مرور عام، أعقب هذا التدخُّل عملية نشر أخرى للقوات العسكرية التركية من أجل منع هجوم لنظام الأسد تدعمه روسيا من التوغُّل العميق في محافظة إدلب.
وترى الدراسة أن الأهم من كل هذه المستجدات هو أن استعداد مليشيات جبهة النصرة الجهادية للانفصال الحاسم عن تنظيم القاعدة وإعادة تشكيل صفوفها تحت راية “هيئة تحرير الشام” التي تركز على سوريا بقيادة أبي محمد الجولاني هو ما مكَّنها من بناء شبه دولة في محافظة إدلب تحت أعين القوات التركية.
ومع انهيار جماعات المعارضة الأخرى وتركيزها على الصراعات الداخلية، تُظهِر مناورة الجولاني أن الديناميات المتغيرة في سوريا لا تزال تتيح للمستفيدين الأذكياء من هذه الأوضاع فرصًا للوصول إلى مواقع هيمنة.
وقد تسبَّب تقسيم سوريا الفعلي إلى ثلاث ساحات سياسية مستقلة في اقتناع صنَّاع السياسات في أوروبا والولايات المتحدة بأن الصراع السوري جرى تسويته إلى حد كبير.
ولكن حتى مع استمرار الاهتمام العالمي بالأوضاع الجارية في سوريا، يستمر اندلاع مناوشات على امتداد خطوط التماس بين مجموعات معارضة تخضع للحماية التركية وقوات نظام الأسد.
وفي وسط سوريا، تقوِّض الهجمات التي يشنُّها تنظيم “داعش” ضد قوات النظام السوري، فضلًا عن المدن التي تسيطر عليها “قسد”، الجهود الرامية إلى إنعاش اقتصاد البلاد.
ويتسبَّب تبادل القصف بين “قسد” والمجموعات المدعومة من تركيا، فضلًا عن التناحر الداخلي بين فصائل المعارضة، في شعور آلاف من المدنيين بالبؤس.
وحتى في المناطق التي استعادتها قوات الأسد بالكامل في محافظة درعا جنوب البلاد، تشير أعمال السطو وإطلاق النار التي يشارك فيها معارضون سابقون، من المفترض أنهم تصالحوا مع النظام، إلى مدى ضُعف سيطرة الأسد على مناطق كثيرة.
وتنوِّه الدراسة إلى أنه في ظِل استمرار هذه التوترات في الخفاء، يحتوي كل فصيل من الفصائل السورية الثلاثة مصادر عدم الاستقرار الداخلي ونقاط الضعف الخارجية التي قد تؤدي إلى جولة أخرى من التصعيد الوحشي الذي يتجاوز الحدود السورية.
وعلى الرغم من أن قوات سوريا الديمقراطية لا تزال تستفيد من الحماية التي يوفرها وجود القوات الأمريكية، فضلًا عن بعض الوحدات العسكرية الروسية المتمركزة بالقرب من مدينتي تل رفعت ومنبج، فإنها تبدو مُعرَّضة لمحاولة تركية أخرى للاستيلاء على الأراضي التي تسيطر عليها.
وعلاوةً على ذلك، نجد أن العداء في أنقرة تجاه العلاقات التي تربط قوات سوريا الديمقراطية بوحدات حماية الشعب وأنصار النزعة الوحدوية الكردية في حزب العمَّال الكردستاني يتجاوز حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي أسَّسه أردوغان.
ولذلك، وعلى الرغم من ادِّعاء المعارضة التركية بأنها تفُضِّل الانسحاب من سوريا، فإن عدم الموثوقية التي يتَّسم بها الأسد إلى جانب الضغوطات التي تمارسها وحدات حماية الشعب على طول الحدود التركية ومخاطر تدفق مزيد من المهاجرين إلى أنقرة يزيد من احتمالية أن تشعر أي حكومة تركية بأنها مضطرة للتصدي لأي تهديد على الوضع الراهن في سوريا من خلال مزيد من التوغل العسكري.
وتتفاقم نقاط ضعف قوات سوريا الديمقراطية بسبب حالة الإحباط التي أعربت عنها شرائح كبيرة من السوريين العرب، فضلًا عن المجموعات الكردية التي تنافسها في أراضيها، إزاء كيفية سيطرة شبكات متحالفة مع حزب العمال الكردستاني على حكم شمال شرق سوريا.
وهذا الغضب يجعل الأشخاص الذين يشعرون بأنهم منعزلين عن النظام السياسي لدى قوات سوريا الديمقراطية أهدافًا محتملة لأعمال التخريب التي ينفذها تنظيم داعش أو عَقْد اتفاقات تركية أو الرشوة التي يقدمها نظام الأسد، وهو ما قد يؤجج مزيدًا من الصراعات في الأراضي التي تنتشر فيها القوات الأمريكية.
والمحافظات التي تخضع للحماية التركية تتعرض لضغوط اجتماعية خطيرة. إذ أسفر الارتفاع العالمي في أسعار السلع والطاقة إلى ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، وهو ما تسبَّب في اندلاع أعمال شغب على نطاق واسع ضد الحكومات المحلية في مدينة عفرين.
كما أدَّى انهيار قيمة الليرة التركية، وهي العملة الرئيسة في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة، إلى ارتفاع أسعار السلع المُستورَدة، مما تسبَّب في تأجيج حالة الاستياء وزيادة صعوبة أن تحكم تركيا هذه المناطق من خلال وكلاء محليين.
ونظرًا إلى إدماج التعليم والرعاية الصحية والمرافق العامة ووسائل النقل في هذه الأراضي السورية التي تسيطر عليها تركيا في الهياكل الحكومية التركية عبر الحدود، تواجه أنقرة، سواء في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه أردوغان أو أي حزب لاحق، أحد خيارين إما إعادة مدينة عفرين إلى نظام الأسد الذي لا يمكن الوثوق به في إقصاء وحدات حماية الشعب، وإما استمرار الاستيعاب الفعلي للمدينة في تركيا.
كما تُفسِح الصعوبات التي تواجهها تركيا في إرساء حكم فعَّال في محافظة إدلب مجالًا إضافيًّا لهيئة تحرير الشام حتى تسعى إلى تحقيق طموحاتها على نطاق أوسع في شمال سوريا.
وتضع حالة الفوضى التي سادت في الاقتصاد العالمي نظامَ الأسد تحت ضغط. وفي ظِل عجز النظام عن مكافحة الفساد المُستشري من خلال المحسوبية، التي تُعد أمرًا حاسمًا في إحكام قبضته على السلطة، لا يزال النظام يعتمد على الموارد العسكرية الإيرانية والروسية للحفاظ على موقفه.
وفي الآونة الأخيرة، تشير دلائل ضخِّ الإمارات استثمارًا في سوريا إلى احتمالية توفُّر مصدر آخر للتمويل اللازم لدرء الانهيار الاقتصادي.
غير أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الخبز وغاز الطهي أدَّى إلى شعور أنصار النظام العلويين بالإحباط. كما تسبَّب الانهيار الكارثي للقطاع المالي اللبناني في إلحاق ضرر بالوضع المالي الخاص بالموالين للنظام السوري المؤثرين، الذين ينقلون رؤوس الأموال ويهرِّبون البضائع عبر بيروت.
وفي ظِل شنِّ خلايا داعش غارات بصورة دورية على المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، قد يؤدي السيناريو الذي تقوِّض فيه الاضطرابات الداخلية أو التوسع الإمبريالي لإيران أو روسيا قدرتهما على دعم نظام الأسد، ومن ثم الإسراع بقلب موازين القوى في سوريا.
وقد يُعيد هذا الوضع بدوره طرح أسئلة حول مستقبل البلاد التي اعتقد صُنَّاع السياسة في الغرب أنهم وجدوا حلًّا له عام 2017.
وهناك سوابق كثيرة للحروب الأهلية التي افترض كثير من المراقبين للأوضاع أنها تلاشت، إلا أنها تصاعدت فجأة مرةً أخرى بعد أن تسبَّبت صدمة خارجية أو تحدٍّ داخلي في إفشال التوازن السياسي.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1976، نظر كثير من الأشخاص في ذلك الوقت إلى التدخُّل السوري الكبير في الحرب الأهلية اللبنانية على أيدي حافظ الأسد، والد رئيس النظام السوري الحالي بشَّار الأسد، بصفته الحلقة الأخيرة في ذلك الصراع.
غير أن التنافس بين المليشيات إلى جانب إصرار منظمة التحرير الفلسطينية أدَّى إلى تصعيد أكبر بلغ ذروته مع الغزو الإسرائيلي عام 1982 ودوَّامات الأعمال القتالية التي استمرت حتى أدَّت حالة الإنهاك الجماعي إلى إبرام اتفاق سلام عام 1990.
وإذا أخذنا في الاعتبار جميع المصادر المحتملة لحدوث كارثة في سوريا، والتي انتشرت تداعياتها في كل فصيل من فصائلها الثلاثة، يُعد ميل كثير من صُنَّاع السياسة الأوروبيين والأمريكيين إلى افتراض انتهاء الحرب الأهلية في سوريا أمرًا خياليًّا.
ولسوء الحظ، إذا كان الرد العالمي على الحروب الأهلية الماضية، بداية من لبنان ومرورًا بالبوسنة وصولًا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، شيئًا يمكن القياس عليه، فسيعرب الأشخاص الذين ينبغي أن يكونوا عقلاء عن دهشتهم عندما تخرج سوريا عن السيطرة مرةً أخرى.