أوروبا والتحدي الروسي
تتحول الحرب الروسية الأوكرانية إلى تحد جيوسياسي مفصلي بالنسبة لقارة أوروبا، فلم تعد تداعياتها تقتصر فقط على قطاع الطاقة، على أهميته الحيوية، بقدر ما أضحت كذلك موصولةً بموقعها في نظام دولي جديد قيد التشكل.
في بداية الحرب، شاع شعور عام بأن دول شرق أوروبا، التي كانت جزءاً من المعسكر الشرقي إبان الحرب الباردة، هي الأكثر عرضةً للتهديد الروسي لأسباب جغرافية وتاريخية.
بيد أن استمرار الحرب ودخولها منعطفاتٍ أكثر دراماتيكية، ونجاحَ الروس في إدارة أطوارها الميدانية والسياسية، على الرغم مما تكبدوه من خسائر، وغيابَ أي أفقٍ لتسوية سياسية، ذلك كله يُضاعف مخاوف الأوروبيين مما قد يحمله استمرار القتال واتساع رقعته من تطوراتٍ يصعب التكهن بشأنها.
وهو ما يهدد ليس فقط الاستقرار الذي تنعم به الدول الأوروبية، بل حتى ما يمكن تسميتها منظومةً أوروبيةً متكاملةً على مختلف الصعد الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية، يقع في قلبها نمط حياة جذاب لا يزال يغري ملايين الناس في الجنوب بالهجرة إلى أوروبا والاستقرار فيها.
تحولُ أوروبا إلى منظومة مؤسسية ومجتمعية يجعل الاتحاد الأوروبي معنياً بأي تغييرٍ قد يطرأ في بنية النظام الدولي.
ومن نافل القول إن الهدف الاستراتيجي للروس، من حربهم على أوكرانيا، كان إعادة بناء هذا النظام بما يُنهي الأحادية القطبية، ويفتح المجال أمام نظامٍ متعدد الأقطاب، تشكل فيه روسيا والصين محوراً رئيساً في مواجهة الغرب.
هذا الهدف، في حالة تحققه على أرض الواقع، سيكون أكبر تحد تواجهه أوروبا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، سواء فيما يرتبط بمصالحها الاقتصادية الواسعة أو بصعود تنظيمات اليمين القومي المتطرف التي تقترب شيئاً فشيئاً من مواقع السلطة واتخاذ القرار في غير بلد أوروبي، مستغلةً عجز الاتحاد عن بلورة سياسات ناجعة إزاء المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن ازدياد أعداد المهاجرين واللاجئين في أوروبا.
وإذا كان دعم هذه التنظيمات يقع ضمن أولويات الروس منذ سنوات، فإن الاتحاد يرى في ذلك تهديداً لقيمه الليبرالية التي تتعارض مع الخطاب الشعبوي الذي يتوسل به اليمين المتطرف.
من ثم، تمثل الحرب الروسية الأوكرانية نقطة مفصلية بالنسبة لمستقبل أوروبا، فهزيمة الروس ستعيد إلى الواجهة إمكانية تمدد حلف الناتو شرقاً، ضمن شروط جديدة ستفرضها علاقات القوة الجديدة التي ستتمخض عن هذه الهزيمة التي تبقى غير واردة، على الأقل حالياً.
وفي المقابل، انتصارهم واحتفاظهم بالأقاليم الأوكرانية الأربعة التي احتلوها سيفسحان المجال أمام وضع جيوسياسي جديد، سيكون الاتحاد أكبر الخاسرين منه في لعبة التوازنات الدولية، لا سيما في ما يرتبط بموارد الطاقة التي تشكل عصب اقتصاده وأمنه القومي.
من ناحية أخرى، يدرك الاتحاد أن بعد الولايات المتحدة جغرافياً عن أوروبا يجعل حساباتها بشأن الأزمة الأوكرانية لا تتقاطع تماماً مع حساباته، وبالأخص فيما يتعلق بمخاوفها المعلومة من التمدد الجيوسياسي الصيني في العالم، والذي يمثل نموذجاً يُحتذى به بالنسبة لبعض الدول (تركيا، إيران…)، التي تتوخى تغيير قواعد توزيع القوة على الساحة الدولية.
ومع ذلك، تبقى أوروبا محكومةً بالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، تفرضه عضويتهما داخل حلف الناتو وأيضاً مخاوفهما من نصر روسي يخلط الأوراق، ويمهد الطريق أمام حالة من الفوضى في العلاقات الدولية.
تواجه أوروبا مأزقاً حقيقياً، وتبدو بحاجة لخريطة طريق واضحة للتعاطي مع أي سيناريو تفرزه الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك احتمال توصل الطرفين إلى تسويةٍ سياسيةٍ متوازنة.
وهو أمرٌ مستبعد حالياً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القطيعة بين أوروبا وروسيا باتت أمراً واقعاً في ضوء العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، على الرغم من أن فئات واسعة داخل الرأي العام الأوروبي، وحتى الأميركي، تؤيد، حسب ما أوردته استطلاعاتُ رأي حديثة، إنهاء الحرب والبحث عن تسويةٍ سياسيةٍ، حتى لو كانت على حساب أوكرانيا، مدفوعةً في ذلك بالآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على هذه الحرب.
للكاتب/ محمد أحمد بنيس