دراسة أوروبية تتناول اتحاد المغرب العربي: التكامل الذي لم يحصل
ثلاثٌ وثلاثون سنة مرّت منذ تأسيس اتحاد المغرب العربي، الذي كان يُفترض أن يمثّل منصّة للتكامل الاقتصادي والمالي بين خمس دول، تمثّل الجزء الغربي من العالم العربي.
وقالت مؤسسة “فنك” الاوروبية إن اتحاد المغرب العربي مازال قائمًا شكليًّا، لكنّه بالتأكيد فشل في تحقيق أهدافه التي حلم مؤسسوه بالوصول إليها.
وذلك رغم امتلاك الدول الخمسة الأعضاء في الاتحاد كل مقوّمات التكامل المنشود، والذي يمكن –إذا حصل- أن يحقق لدول الاتحاد الاكتفاء الذاتي.
وفي واقع الأمر، يبدو من الواضح اليوم أن عوامل السياسة ونزاعاتها لعبت دورًا أساسيًّا في عرقلة مسار هذا الاتحاد، وتحجيم دوره تدريجيًّا.
وهذا ما جعله يصل إلى مرحلة الشلل التام اليوم، بالرغم من كل الفرص التي كان يمكن أن تستفيد منها شعوب الدول الأعضاء في الاتحاد.
تعثّر محاولات التعاون قبل تأسيس الاتحاد
ظهرت فكرة تأسيس اتحاد لدول المغرب العربي قبل أن تنال هذه الدول استقلالها، يوم جرى التداول بهذا الطرح سنة 1958 في مؤتمر جمع كل من حزب الاستقلال المغربي والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائريّة.
يومها، كانت الحركات السياسيّة الثلاث تخوض صراعها من أجل استقلال بلدانها في الوقت نفسه، وهو ما دفع هذه الحركات إلى عقد المؤتمر في مدينة طنجة المغربيّة لتنسيق عملها والبحث في مستقبل بلدانها بعد الاستقلال.
وفي خلاصة المؤتمر، تم الاتفاق على البحث في إمكانيّة تأسيس اتحاد فيدرالي يجمع كلا من تونس والمغرب والجزائر بعد الاستقلال، كما قرر المجتمعون تأسيس أمانة سر دائمة من ستّة أعضاء لمتابعة هذه المسألة.
بعد استقلال هذه الدول الثلاث، وتأسيس كلّ منها لسياسات اقتصاديّة وماليّة خاصّة ومستقلّة، انخفضت طموحاتها بالنسبة إلى مستوى التعاون الذي يمكن تحقيقه في ما بينها، فتخلّت عن فكرة الاتحاد الفيدرالي، وذهبت باتجاه أفكار أكثر براغماتيّة.
وهكذا، اقتصرت محاولات التعاون المشترك على توقيع معاهدة الرباط سنة 1963، التي هدفت لتوسيع نطاق التبادلات التجاريّة بين كل من المغرب والجزائر وتونس.
ثم تم تأسيس اللجنة الاستشاريّة للمغرب العربي بعد سنة واحدة، لمتابعة تقديم مقترحات لتطوير التعاون بين الدول الثلاثة.
إلا أن جميع هذه المبادرات ظلّت حبرًا على ورق، دون أن تتمكّن من تنفيذ الأهداف التي نصّت عليها، ربما بسبب حصول النزاع الحدودي المسلّح بين المغرب والجزائر خلال الفترة نفسها.
لاحقًا، توالت معاهدات التعاون بين دول شمال غرب أفريقيا، حيث تم توقيع “بيان جربة الوحدوي” بين كل من ليبيا وتونس عام 1974. ثم تم توقيع معاهدة مستغانم بين ليبيا والجزائر، ومعاهدة الإخاء والوفاق بين الجزائر وتونس وموريتانيا عام 1983.
وجميع هذه المعاهدات، كانت تحاول أن تعزّز أطر التعاون الاقتصادي بين الدول الموقعة عليها، بما يحقق المنفعة المشتركة في ما بينها.
لكنّ أيا من هذه المعاهدات لم يتمكّن فعلًا من تأسيس لاتحاد أو مجلس ذي صلاحيّات واضحة، يسعى لمتابعة المصالح المشتركة بين هذه الدول، كحال مجلس التعاون الخليجي الذي أبصر النور سنة 1980، وشمل دول الخليج العربي.
ولعلّ تعثّر جميع هذه المحاولات، وعدم نجاحها في التأسيس لاتحاد أو مجلس دائم، يعود تحديدًا للاختلاف الكبير بين الأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة المتبعة في دول المغرب العربي في ذلك الوقت، بعكس تشابه أنظمة دول الخليج السياسيّة والاقتصاديّة.
فالجزائر كانت لغاية تلك الفترة متمسّكة بسياساتها الاقتصاديّة الاشتراكيّة، وبميلها الواضح لأنظمة الكتلة الشرقيّة (الاتحاد السوفياتي وحلفائه)، بخلاف دول المغرب العربي الأخرى.
في الوقت نفسه، تنوّعت الأنظمة السياسيّة المعتمدة في هذه الدول، كما اختلفت توجهاتها واصطفافاتها الدوليّة، وهو ما صعّب مهمّة تأسيس اتحاد أو مجلس تعاون من هذا النوع.
تأسيس الاتحاد عام 1989
بعد تعثّر جميع محاولات التعاون، تم تأسيس اتحاد المغرب العربي في 17 شباط/فبراير 1989، من خلال معاهدة مرّاكش التي وقعتها كل من الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا.
ولعلّ نجاح الدول الخمس في تأسيس هذا الاتحاد في تلك المرحلة، بعد تعثّر جميع المحاولات السابقة، يعود تحديدًا إلى خشية هذه الدول من تهميشها، التي يمكن أن تنتج عن تأسيس اتحادات التعاون الإقليميّة الأخرى في كل مكان.
وفي ذلك الوقت، كان التحدّي الأبرز أمام دول المغرب العربي هو تنامي أطر التعاون والتكامل بين الدول الأوروبيّة وتكتّلها، وهو ما أثار خشية دول المغرب العربي من أثر هذا التكتّل على مصالحها، في ظل ارتفاع مستويات التبادل التجاريّة بين دول المغرب العربي وجيرانها الأوروبيين شمالًا.
ولهذا السبب، كان تأسيس اتحاد المغرب العربي في ذلك الوقت تعبيرًا عن حاجة الدول المنضوية إليه إلى تكتّل إقليمي يحمي مصالحها الاقتصاديّة والتجاريّة، في مقابل التكتلات الإقليميّة الأخرى.
وفي الوقت نفسه، ساهمت عودة العلاقات الدبلوماسيّة بين الجزائر والمغرب في تسهيل ولادة الاتحاد، بعد أن أخّرت التوترات بين الدولتين هذه المهمّة لغاية ذلك الوقت.
يومها، نصّت معاهدة تأسيس الاتحاد على أهداف اقتصاديّة وسياسيّة وماليّة طموحة، تصل لغاية العمل تدريجيًّا على تحقيق حريّة انتقال الأفراد والسلع والخدمات ورؤوس الأموال بين الدول الخمس، ما يعني التأسيس لسوق مشتركة.
كما نصّت المعاهدة على إقامة تعاون دبلوماسي بين الدول الخمس في الميدان الدولي، والعمل على صيانة استقلال الدول المنضوية في الاتحاد في ميدان الدفاع، بالإضافة إلى القيام بمشاريع اقتصاديّة مشتركة في الميدان الاقتصادي.
ومن ناحية الهيكليّة، يتكون الاتحاد من مجلس رئاسة يضم رؤساء الدول الخمس الأعضاء فيه، بالإضافة إلى مجلس شورى منتخب من الهيئات النيابيّة للدول الأعضاء.
كما يضم هيئة قضائيّة تبت بالنزاعات التي يمكن أن تنشأ عن تفسير وتطبيق المعاهدات بين الدول الأعضاء، وأكاديميّة علوم وجامعة ومصرف لتمويل الاستثمار والتجارة الخارجيّة.
وأخيرًا، يدير الشؤون التنفيذيّة في الاتحاد أمانة سر، مقرّها المغرب، ولجانا تنفيذيّة متخصصة بالملفات التي يشرف عليها الاتحاد.
الفرص الضائعة
لم يلعب اتحاد المغرب العربي حكمًا أيا من الأدوار التي كان من المفترض أن يلعبها، لا بل بلغ فشل الاتحاد درجة عدم انعقاد أي قمة جامعة لمجلس رئاسة الاتحاد منذ العام 1994.
إلا أنّ هذا الفشل، مثّل بحد ذاته فرصة ضائعة، لم تستفد منها شعوب منطقة المغرب العربي كما يجب. فمن الناحية العمليّة، بلغت مساحة دول هذا الاتحاد مجتمعةً حدود ال6.04 مليون كيلومترًا مربّعًا، ما يفوق مساحة الاتحاد الأوروبي، فيما يتجاوز عدد سكّان دول اتحاد المغرب العربي حدود ال100 مليون نسمة.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن الاتحاد كان قادرًا على تأمين الاكتفاء الذاتي لشعوبه، في حال تفعليه بما يؤمّن التكامل ما بين الدول المنضوية فيه.
فالموارد الاقتصاديّة والطبيعيّة الموجودة اليوم ضمن الاتحاد تتنوّع ما بين الحديد في موريتانيا والجزائر والمغرب، والغاز الطبيعي في الجزائر، والنفط في ليبيا، والقمح في الجزائر والمغرب، بالإضافة إلى الذهب في المغرب، وواردات السياحة وتحويلات المغتربين في تونس.
وكما هو واضح، كان بإمكان اتحاد من هذا النوع تأمين تكامل كبير ما بين الدول الخمسة، لو تم بالفعل تحقيق أهدافه، وأهمها فتح السوق المشتركة وزيادة التبادلات التجاريّة بين الدول الأعضاء في الاتحاد.
هكذا، فوّتت دول اتحاد المغرب العربي على شعوبها فرصة هذا التكامل، وهو ما يظهر بشكل واضح في الأرقام التي تشير إلى أنّ نسبة التجارة البينيّة داخل هذا الاتحاد –أي بين الدول الأعضاء- لا تتجاوز حدود ال5% من إجمالي التداولات التجاريّة التي تقوم بها دول الاتحاد.
وهذا الرقم بحد ذاته، يدل على أنّ الاتحاد لم يحقق أي فائدة على مستوى تعزيز التبادلات التجاريّة بين الدول المنضوية فيه، نتيجة عدم تنفيذ الغالبيّة الساحقة من المعاهدات التجاريّة والاقتصاديّة المعقودة بين هذه الدول.
مع الإشارة إلى أنّ أرقام صندوق النقد الدولي تشير إلى أنّ دول المغرب العربي ستكون قادرة على القضاء على 20% من معدلات البطالة لديها، بمجرّد وصولها إلى مرحلة الاندماج والتكامل الاقتصادي في ما بينها.
كما تشير أرقام الصندوق إلى أن دول المغرب العربي قادرة على التحوّل إلى مركز جذب للعمال الأجنبيّة، بعد سبع سنوات من بلوغها هذه المرحلة.
بمعنى آخر، تدفع شعوب المغرب العربي اليوم كلفة عدم تفعيل الاتحاد ومؤسساته ومعاهدته، من خلال معدلات النمو التي خسرتها نتيجة عدم تكامل واندماج اقتصادات دول المغرب العربي، وعدم التأسيس لسوق مشتركة تفتح أبواب التبادلات التجاريّة بين دول المنطقة.
أسباب الفشل
تتنوّع أسباب الفشل التي أدّت إلى شلل مؤسسات الاتحاد منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعدم أدائها أي من الأدوار المتفق عليها.
السبب الأوّل يرتبط بالنزاعات السياسيّة التي نشبت طوال هذه المدّة بين الدول الأعضاء في الاتحاد، كالنزاع الذي اندلع بعد تأسيس الاتحاد بين الجزائر والمغرب، إثر حصول هجمات استهدفت فندق بمراكش المغربيّة، واتهام المغرب للمخابرات الجزائريّة بالتورّط في الهجوم.
وهذا النزاع بين الدولتين، بلغ حد إقفال الحدود بينهما، ما تعارض بشكل بديهي مع فكرة الاتحاد القائمة على تعزيز التعاون بين دوله.
من ناحية أخرى، ساهمت العقوبات التي تم فرضها على ليبيا في عزل نظام القذافي عن المجتمع الدولي، كما حالت دون انخراط ليبيا في أي مشاريع استثماريّة مشتركة مع دول الجوار.
ولاحقًا، شهدت كل من تونس وليبيا والجزائر مجموعة من الخضّات السياسيّة والأمنيّة خلال العقد الأخير، ما قلّص من اهتمامها بأي محاولات لتطوير أطر التعاون الإقليمي.
هكذا، تبدو دول المغرب العربي اليوم في حاجة ماسّة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه اتحاد المغرب العربي، وخصوصًا في ظل الأزمات الاقتصاديّة التي تفرض وجود تعاون إقليمي من هذا النوع.
لكن في الوقت نفسه، يبدو من الواضح أن مرور بعض هذه الدول بمخاضات سياسيّة عسيرة حتّى اللحظة، كحال تونس وليبيا مثلًا، مازال يعرقل اندفعاتها باتجاه تفعيل مشاريع طموحة من هذا النوع.
فالعمل على أطر التكامل الاقتصادي بين الدول، يحتاج في العادة إلى استقرار سياسي يسمح بالتعاون لصياغة سياسات ماليّة وجمركيّة مشتركة، وفقًا للمصالح المشتركة بين الدول.
ولهذا السبب بالتحديد، لا يوجد حتّى اللحظة ما يشير إلى إمكانيّة تفعيل مهام اتحاد المغرب العربي في القريب العاجل.