الإعلام الفرنسي وشيطنة مونديال قطر
جرت منذ أيّام ملاسنة أثناء حلقة حوارية تلفزيونية ترفيهية في قناة فرنسية لصاحبها، رجل الأعمال الثّري المثير للجدل، بولوري، وبين برلماني يساري من “فرنسا الأبية” ومقدّم الحلقة (المذيع)، سيريل حانونة، المعروف بأنّه سليط اللّسان والأكثر متابعة على القنوات الفرنسية.
كان هذا شكل المعركة النّاعمة. ولكن من ورائها طامّات كبرى أساسها الولاء لرأس المال المالك للقناة والدّفاع الشّرس عن مستثمر في القارّة الأفريقية، بل منفذ للسّياسة الفرنسية في نهب خيرات القارّة وتحت غطاء شراء الموانئ، استغلال الغابات واستكشاف النّفط، إضافة إلى الاستحواذ على المعادن وغيرها.
من النّاحية الأخرى، نشهد على القنوات الفرنسية والإعلام الفرنسي، بصفة عامّة، منذ فترة، حملة لشيطنة مونديال قطر لكرة القدم، مع العلم أنّ ذلك الإعلام يشهد ظاهرة غريبة في الدّيمقراطيات الغربية، استحواذ تسعة أثرياء على جلّ المجلّات، والقنوات والمواقع، إضافة إلى شركات الإنتاج التّلفزيوني والإعلامي.
وهم معروفون بأنّهم جنوا تلك الثّروات من شركات مشبوهة تشتغل في القارة الأفريقية، في أغلبها، وتعمل على تحويل خيرات القارّة إلى فرنسا، تماماً كان الاستعمار يفعل قبل موجة الاستقلال في ستّينيات القرن الماضي في إطار اتّفاقيات سرّية، جرى الكشف عن مضمونها.
وعلم الجميع أنّها كانت تتضمّن الحصول على استقلال صوري في مقابل احتفاظ فرنسا باليد الطُّولى في الاقتصاد، والدّفاع والسّياسة الخارجية، أي أن تخرج فرنسا من الباب لتعود من نافذة الاستعمار الجديد صنع تحالف القارّة.
تشترك الحادثتان؛ ملاسنة الحلقة التلفزيونية المذكورة وشيطنة مونديال قطر، في أنّهما تثبتان النّفاق الفرنسي في التّعامل الإعلامي.
إذ إنّ تلك الملاسنة هي إبراز لظاهرة الولاء من المنشّطين وصنّاع الرّأي في الإعلام الفرنسي لمالكي القنوات ودفاعهم عنهم، ليكون ذلك جزءاً من سلطة الإعلام في الدّيمقراطية الفرنسية.
في حين أنّ الشّيطنة لمونديال قطر، التي سلطت حملتها على ظروف منح قطر شرف تنظيم الحدث الكُروي العالمي، ثم، حالياً، مسعاها إلى إبراز الوجوه السّلبية لمنح قطر ذلك الشرف من خلال المعارضة للثّقافة والتّقاليد، هي الوجه الثّاني للعملة ذاتها أي عملة النّفاق.
بالنّسبة للولاء الذّي جرى فيه الدفاع في الحلقة التلفزيونية عن أبرز مالكي الوسائل الإعلامية، في فرنسا، الثّري بولوري، فإنّ الأمر لا يتعدّى مجرّد صرف النظر عن قضايا اعترف بها الثرّي نفسُه، من أمثلة استغلال الغابات في الكاميرون والموانئ في أكثر من عاصمة أفريقية.
مع التّأكيد دوماً على الظُّروف الضّبابية التي نال بها بولوري تلك الصّفقات والطّريقة التي عامل بها الأفارقة، وكيف أنّه استخدم كل الوسائل، حتّى العنفية منها، من قبيل تنظيم الانقلابات وتزوير الانتخابات لصالح الزعماء الأفارقة الذين يمنحونه الامتيازات الاقتصادية من دون وجه حقّ وبالاستقواء بالنّفوذ الفرنسي السّياسي، الدّبلوماسي بل والعسكري، أيضاً.
لا يجب أن ننسى أنّه على الجهة المقابلة، في تلك الملاسنة، كان المنتقد تصرّفات بولوري هو نائب في الجمعية الوطنية (الغرفة السُّفلى للبرلمان الفرنسي)، ما يعطي لذلك الولاء جانبه السياسي الفاضح لأولوية المال في عهدة رئيسٍ يعرف أنه ممثل، في السُّلطة التّنفيذية الفرنسية، لعالم المال والبنوك، بل ويمنح لذلك التسلُّط كلّ النّفوذ الذّي أصبح يمثّله صانعاً للرّأي السياسي وللمواقف السّياسية في المجتمع الفرنسي، ولدى النُّخبة الإعلامية والسّياسية الفرنسية.
هذا هو الجانب الأول من النّفاق الإعلامي الفرنسي. أمّا الجانب الآخر فقد كان تلك الحملة الشّرسة على مونديال قطر بزعم أنّه لم يُمنح لقطر إلّا في ظروف ضبابية وبأنّ البلد غير منفتح على قبول الآخر بالنّسبة للجوانب المحيطة بتنظيم الحدث العالمي من عادات ثقافية ودينية تمنع الغربيين من تصرُّفات يعدُّونها من صميم ثقافتهم وعاداتهم، ويريدون فرضها في الدّوحة، إضافة إلى اعتبار أنّ الظروف التي تمّت فيها إنجازات الحدث العالمي ممّا له صلة بالعمّال الأجانب لم تكن وفق المعايير المقبولة في التّعامل مع المهاجرين.
من المفارقة أنّ القناة، بل والسُّلطة الإعلامية الفرنسية التّي، هذه الأيّام، بصفة مركّزة، لا حديث لها إلّا العنصرية والدّعوة إلى القسوة المعنوية والفعلية ضدّ الآخرين، هي نفسها التي اضطلعت بقيادة الحملة الشّرسة ضدّ مونديال قطر بتلك المزاعم، وكأنّها المدافعة عن أخلاقيات العالم، وهي المنتهكة الفعلية لها، ولولا تلك التّجاوزات التّي ينتقدونها، زعماً في حالة قطر، لما كان للغرب وجود اقتصادي ولا التقدم الذي يعيشون فيه.
عندما نجمع بين الحادثتين نصل إلى نتيجة أنّ النفاق الفرنسي، والغربي بصفة عامّة، لا يريد الحريّة إلّا لنفسه، وهي، شئنا أم أبينا، مفترق طرق تلتقي عنده الأفكار العنصرية المتمثّلة في الاستبدال الكبير التّي ظنّنا، في البداية، أن معتنقيها هم العنصريون، فقط.
في حين أنّ تتبُّع الإعلام، شكلاً ومضموناً، بل والتّتبُّع لممتلكيه وما يعرضه، على مرّ السّاعات، يوحي بوجود عنصرية غربية رافضة وجود الآخر، وبأنّ الصّراع الذي، ربما ظنناه فكرياً، وأنّ جزء صغيراً من الغرب هو المعني به، فقط، لتصل إلينا الحقيقة مُرّة، بارزة وظاهرة للعيان وهي الرّفض التامّ والكامل لكلّ من هو الآخر، أيّاً كانت ديانته أو لون بشرته، لأنّ التفوُّق هو للعنصر الأبيض فقط.
في الحقيقة، لم يكن الولاء لهذا الإعلام ولأصحابه غريباً عن نخبة كتبنا عنها، في مقالات كثيرة، إذ إنّ ما يشهده الغرب هو غلبة لرؤية حضارية، حافظت على خط بياني صنعته الرّأسمالية والليبرالية، معاً، ولكن في إطارٍ يعلي من الجنس الأبيض، ويريد للعالم أن لا يكون إلّا تحت هيمنته أو ما سماه عبد الوهّاب المسيري، رحمه الله، الانحياز المعرفي والحضاري.
تماماً مثل ما سماها، أيضاً، المرحوم أنور الجندي محاولة الغرب فرض المنهج الوافد والمتّصف بالمادّي بأداتيه المعرفية والحضارية المنتشية بالتفوُّق العلمي والتّكنولوجي اللّذين أدّيا إلى مسار هيمنةٍ وطغيان برزا، كلاهما، في صورة الاستعمار والاستيطان، ولم ينتهيا، بل صنعا لهما تحوُّلاً للتّكيُّف مع المتغيّرات الجديدة، تولّد عنها ذلك الحلف بين المال والإعلام، لصنع مشهدٍ يبرّر للحالة التي يوجد العالم عليها، الآن، ومنها واقعة الولاء الذي تبيّن لنا من خلال الحادثتين اللّتين ركّزنا عليهما في المقالة.
وبينما يحمل الغرب رسالة الأخلاق في العالم فإن هذا التّشريح بشأن ذلك الإعلام وطبيعة النّفاق، سواء في الولاء لأصحاب وسائل الإعلام من أثرياء رأسماليين من شاكلة بولوري، أو من خلال الحملة الشرسة ضد مونديال قطر، يكشف عن ازدواجية المعايير في التّعامل مع الأحداث نفسها، شكلاً ومضموناً، تماماً مثل ما شاهدنا في الأيّام الأولى للحرب بين أوكرانيا وروسيا بالنّسبة لاستقبال اللاجئين واستمرار الانحياز الكامل والكلّي.
كما استخدام الكيان الصهيوني القوّة المفرطة ضدّ الفلسطينيين، من دون أدنى تنديد أو استنكار لذلك من الغرب منذ إنشاء الكيان في 1948.
لا يمكن إنهاء هذه المقالة من دون الإشارة إلى قمّة ذلك النّفاق في حديث ضيف فرنسي، يحمل صفة الصحافي، موجود في الدوحة، تحدثت إليه قناة ملك لبولوري، أيضاً، إخبارية، هي “سي نيوز”، قال فيها إنّ ما يميّز قطر كثرة المساجد فيها، متعجّباً وكأنّه لا يعلم أنّ تلك المساجد هي ذاتها التي تتزيّن بها مدن كثير من البلدان العربية والإسلامية، في إشارة إلى هويّة البلاد الدينية، تماماً مثل فرنسا التّي فيها آلاف من الكنائس، بل يُقال عنها إنّها ابنة الكنيسة الكبرى.
ذلك هو ذاته النّفاق الفرنسي والغربي، والذي قال عنه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، إنّه ازدواجية معايير، وإنّ على الغرب الاعتذار عن تجاوزاته في حقّ هويّة قطر وهوية من يحمل معه الهويّة نفسها وأبعادها المعرفية والحضارية.
للكاتب/ محمد سي بشير