تحليل: صعود اليمين الأوروبي وتأثيره على ملفّات المنطقة العربيّة
تناول تحليل نشرته مؤسسة “فنك” الأوروبية، صعود اليمين الأوروبي وتأثيره على ملفّات المنطقة العربيّة، مؤكدة أنه لا يمكن إنكار أنّ صعود اليمين سيترك أثراً على وجهة الاتحاد العامّة والمنطقة العربية، رغم أن العديد من المحللين يتوقعون عقلنته.
وأفضت انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران 2024 إلى زيادة لافتة في حجم الكتل التي تنتمي إلى فئة أقصى اليمين، وهو ما أثار أسئلة كثيرة حول تأثير هذا التطوّر على السياسات العامّة للاتحاد.
وفي المنطقة العربيّة، دار النقاش حول التداعيات المحتملة على مستوى علاقة الاتحاد بالدول العربيّة، ومقاربته للحرب الدائرة على قطاع غزّة، بالإضافة إلى ملفّات الهجرة واللاجئين والاعتماد على مصادر الطاقة الخليجيّة.
درجة التأثير على السياسات العامّة
من الجدير الإشارة أولًا إلى أنّ تيّارات أقصى اليمين تنقسم بحدّة داخل البرلمان الأوروبي بين عدّة تكتّلات، تتباين توجّهاتها في أكثر من ملف.
وهذا ما يميّز هذه الأحزاب عن المعسكرات الإيديولوجيّة الأخرى، التي تتفق في العادة بسهولة أكثر على أجندات وكتل مشتركة داخل برلمان الاتحاد.
وحتّى هذه اللحظة، لا تزال أحزاب أقصى اليمين تغيّر تموضعاتها داخل البرلمان الأوروبي، وفق انقسامات وكتل مختلفة عن تلك التي كانت موجودة قبل الانتخابات.
وبطبيعة الحال، لم تتمكّن أحزاب أقصى اليمين –على الرغم من تقدّمها- من انتزاع الأغلبيّة داخل البرلمان الأوروبي، أو إفقاد كتل يسار الوسط ويمين الوسط والليبراليين القدرة على تكوين الأغلبيّة معًا.
وبهذا المعنى، ظلّت لعبة انتخاب المناصب العليا داخل الاتحاد محكومة بتفاهمات تلك الكتل التقليديّة، التي تصف نفسها بالمعتدلة، والتي تميل في العادة إلى استبعاد معظم أحزاب أقصى اليمين.
مع الإشارة إلى أنّ عمليّة انتخاب المناصب العليا تتم عبر تسويات داخل كلّ من البرلمان والمجلس الأوروبيَّين، بعد انتخاب البرلمان الجديد.
وعلى الرغم من كل ذلك، لا يمكن التقليل من أثر التقدّم الذي أحرزته قوى أقصى اليمين. فهذه الأحزاب قد تنقسم حول مسائل مختلفة كالعلاقة مع روسيا وحلف الناتو مثلًا، لكن غالبيّتها الساحقة تتشارك أجندات متشابهة في ما يخص قضايا الهجرة واللّجوء، والحذر من خطط التحوّل نحو الطاقة النظيفة.
ومن المعلوم أن قرارات البرلمان الأوروبي وتشريعاته غالبًا ما تخضع لمساومات متبادلة بين تكتلاته الكبرى، وهو ما سيعطي أحزاب أقصى اليمين دورًا رئيسًا في توجيه السياسات العامّة للاتحاد.
وفي الوقت عينيه، ستؤثّر شعبيّة هذه الأحزاب المتزايدة على توجّهات التكتلات الأخرى، وخصوصًا يمين الوسط، الذي يحظى اليوم بأكبر كتلة داخل الاتحاد الأوروبي.
فنزوح نسبة متزايدة من الأصوات باتجاه أحزاب أقصى اليمين، سيفرض على الأحزاب اليمينيّة الأخرى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا، لاستمالة القواعد الناخبة.
وهذا ما عكسته التوجّهات الأخيرة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي بدأت بتبنّي مقاربات أكثر حِدّة في ملف الهجرة واللّجوء.
وفي هذا السياق بالذات، جاءت الانتخابات التشريعيّة المبكّرة في فرنسا بعد انتخابات البرلمان الأوروبي، لتعكس بدورها اتساع قواعد أحزاب أقصى اليمين، في بعض الأوساط الشعبيّة.
فحزب التجمّع الوطني –المحسوب على أقصى اليمين الفرنسي- فشل في نيل الأغلبيّة داخل الجمعيّة الوطنيّة، بفضل التسويات المتبادلة بين اللّيبراليين واليساريين في الدورة الثانية من الانتخابات.
لكنّ هذا الحزب حلّ في المرتبة الأولى خلال الدورة الأولى، من حيث عدد الأصوات، وهو ما حوّله إلى قوّة رئيسة في المشهد السياسي الفرنسي.
أمّا في بريطانيا، فقد تمكّن حزب إصلاح المملكة المتحدة –المناهض للهجرة- من انتزاع 14% من أصوات المقترعين، فيما لم تسمح طبيعة النظام الانتخابي الأغلب بحصول الحزب على أكثر من أربع مقاعد.
وبهذا الشكل، كرّس الحزب نفسه كقوّة أساسيّة داخل الحياة السياسيّة في المملكة المتحدة، وهو ما أضعف حزب المحافظين الذي يمثّل اليمين التقليدي.
وعلى الرغم من أنّ بريطانيا لم تعد عضوًا في الاتحاد الأوروبي، جاءت تلك النتائج كدلالة على حضور اليمين المتشدّد في أوروبا.
التأثير على العلاقة مع الدول العربيّة
ثمّة الكثير من التحليلات التي تعتبر أن صعود اليمين المتشدّد في أوروبا قد يقود الاتحاد الأوروبي تدريجيًا نحو علاقات أكثر براغماتيّة مع بعض الأنظمة العربيّة.
فبينما يرفض الاتحاد الأوروبي حاليًا التطبيع مع نظام الأسد في سوريا، قبل الوصول إلى حل سياسي للأزمة السوريّة، يتبنّى حزب التجمّع الوطني في فرنسا مقاربة تدعو إلى التطبيع مع النظام السوري، بهدف معالجة أزمة اللاجئين في سوريا.
وكان حزب التجمّع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان قد أعلن في تمّوز/يوليو 2024 عن دخوله في تكتّل برلماني أوروبي موحّد مع حزب فيدس، الذي يتزعّمه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
ومن المعروف أن أوربان تميّز عن سائر قادة دول الاتحاد الأوروبي بالعلاقة الإيجابيّة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي لم تتأثّر باندلاع الحرب في أوكرانيا. كما احتفظت الحكومة المجريّة في عهد أوربان بعلاقة قويّة مع التيّار الوطني الحر اللّبناني، طوال سنوات تحالف التيّار مع حزب الله ومحور الممانعة.
لهذه الأسباب، يمكن القول إنّ التكتّل الجديد الذي سيضم فيدس والتجمّع الوطني سيدفع باتجاه مقاربات أوروبيّة أقل حدّة اتجاه محور الممانعة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدور الذي تلعبه روسيا حاليًا في سوريا.
وهذا ما ينسجم أيضًا مع توجّهات حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي تبنّى تاريخيًا مطلب التطبيع مع نظام الأسد، بل وسوّق لهذا الخيار خلال زيارات نوّاب الحزب إلى سوريا ولقائهم بمسؤولين في نظام الأسد.
على أي حال، تقتضي الإشارة هنا إلى أنّ الدعوة لعودة العلاقات مع نظام الأسد لا تقتصر على أحزاب أقصى اليمين.
فعلى سبيل المثال، يتبنّى جان لوك ميلانشون زعيم حركة “فرنسا الأبيّة” اليساريّة صراحة الدعوة لإعادة العلاقات مع النظام السوري، من باب محاولة تحقيق السلام بالحوار، بدل الاعتماد على العقوبات.
ويُعتبر ميلانشون حاليًا أبرز وجوه الجبهة الشعبيّة الجديدة في فرنسا، التي تصدّرت نتائج الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، وهو ما يعطي الجبهة تأثيرًا في عمليّة تشكيل الحكومة الفرنسيّة المقبلة.
الاعتماد على الدول النفطيّة العربيّة
في الوقت عينيه، تتبنّى الغالبيّة الساحقة من أحزاب أقصى اليمين أجندات متوجّسة ومتشائمة إزاء سياسات التحوّل نحو الطاقة النظيفة وتقليص الأثر البيئي.
بل إن جزءًا وازنًا من شعبيّة هذه الأحزاب في العديد من الدول الأوروبيّة نتج عن استياء شرائح معيّنة من الناخبين من كلفة السياسات البيئيّة، التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي.
كما فاقم من استياء الناخبين تعرّض سياسات الطاقة التي تبنّاها الاتحاد سابقًا لنكسات كبيرة، بسبب أثرها على معدلات التضخّم وكلفة الإنتاج.
ولهذا السبب، من المتوقّع أن تُسهم أحزاب أقصى اليمين بدفع الاتحاد إلى سياسات أكثر تحفّظًا وأقل طموحًا، في ما يخص الأهداف المناخيّة.
وهذا ما قد يجعل الاتحاد أكثر اعتمادًا على المدى الطويل على مصادر الطاقة الأحفوريّة، بما فيها تلك التي تعتمد على الصفقات مع الدول العربيّة المنتجة للنقط والغاز.
مع العلم أن الاتحاد بات أكثر اعتمادًا على إمدادات النفط والغاز العربيّة منذ العام 2022، أي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وتضاؤل إمدادات النفط والغاز الروسي في أوروبا.
كما تعرّضت أهداف المناخ التي وضعها الاتحاد للعديد من التحديات، بمعزل عن قوّة أحزاب أقسى اليمين داخل البرلمان الأوروبي.
التداعيات على اللاجئين والمهاجرين
أهم المطالب التي يركّز عليها اليمين المتطرّف في أوروبا، هي تلك المرتبطة بمناهضة اللّجوء والهجرة. فجميع أحزاب هذا المعسكر، تُجمع على خطابات قوميّة معادية للمهاجرين والأقليّات، ومتوجّسة من أثر هذه الفئات على الثقافات المحليّة الأوروبيّة.
فعلى سبيل المثال، تبنّى بعض مرشحي حزب البديل من أجل ألمانيا نظريّة “الاستبدال الكبير”، التي تقول بأن غلبة السكّان المسيحيين البيض باتت معرّضة للخطر في أوروبا، بسبب تنامي أعداد المهاجرين من المسلمين وأصحاب البشرات السمر.
كما طرح هؤلاء شعارات حماية أوروبا من “التغيّر السكاني بفعل البشر”، بدل الاهتمام بأمر “التغيّر المناخي بفعل البشر”.
أمّا مارين لوبان في فرنسا، فاشتهرت بمطالبها المتطرّفة التي تدعو إلى توسيع قانون منع ارتداء الرموز الدينية في المدارس ليشمل الأماكن العامة، وصولًا إلى منع الحجاب.
كما رفعت مطالب منع ذبح الحيوانات وفق الشريعة الإسلاميّة، وتجميد بناء المساجد والتشدّد في مراقبة مصادر تمويلها. أمّا بالنسبة للمهاجرين، فهي تتبنّى فكرة إمهال الأجانب الذين لا يجدون عملًا مدة ثلاثة أشهر، قبل الترحيل.
وفي واقع الأمر، وبمعزل عن حصّة أحزاب أقصى اليمين في البرلمان الأوروبي، من الواضح أنّ هذه الأحزاب تمكنت من دفع المعسكرات الأخرى لتبنّي مقاربات أكثر تشددًا في ملف الهجرة، لمحاولة امتصاص الناخبين المتجهين نحو أقصى اليمين.
من هذه الزاوية مثلًا يمكن فهم إقرار الميثاق الأوروبي الجديد للهجرة في أيّار/مايو 2024، الذي يسمح للدول الأوروبيّة باحتجاز المهاجرين على الحدود وأخذ بصمات الأطفال. كما يفتح الميثاق الباب أمام إعادة اللاجئين إلى بلدانهم الأم في حال رفض طلب اللّجوء، أو ترحيلهم إلى بلدان أخرى أكثر “أمانًا“.
تبنّي المقاربة الإسرائيليّة
على مستوى القضيّة الفلسطينيّة، كان من اللافت اتجاه معظم أحزاب أقصى اليمين للتماهي مع المقاربة الإسرائيليّة خلال الفترة الماضية، في محاولة للتقرّب من الكتلة الناخبة اليهوديّة في أوروبا.
وهذا ما فعلته مثلًا مارين لوبان في فرنسا، حين اتخذت موقفًا متطرفًا يدعو إلى إخلاء غزّة من السكّان، لتمكين إسرائيل من القضاء على حركة حماس.
أمّا حزب البديل من أجل ألمانيا، فسارع عند اندلاع الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة إلى تقديم مقترحات للبرلمان الألماني تدعو إلى وقف التبرّعات الممنوحة إلى وكالة “الأونروا”، كما طالب بخفض المساعدات الممنوحة إلى الفلسطينيين.
هكذا، وجدت العديد من أحزاب أقصى اليمين الحرب الدائرة فرصة للتصويب على المقاومة الفلسطينيّة، بوصفها تعبيرًا عن الإسلام السياسي، الذي تناهضه هذه الأحزاب في أوروبا.
وفي هولندا، توجّه خِيرت فيلدرز إلى الرأي العام الإسرائيلي عبر مقابلة مع صحيفة ” جورسلم بوست” العبريّة، معتبرًا أن مشاعر معاداة الساميّة في أوروبا هي نتيجة للهجرة الكثيفة وعدم الاندماج، في إشارة إلى الاحتجاجات المتضامنة مع قطاع غزّة في المدن الأوروبيّة.
على هذا النحو، تناسى اليمين المتشدّد الارتباط التاريخي ما بين معاداة الساميّة والمشاعر القوميّة المتطرّفة في أوروبا، وهو ما سهّل أساسًا مهمّة الحركة الصهيونيّة في استقطاب اليهود للاستيطان في فلسطين.
وفي المقابل، حرص بعض القادة الإسرائيليين، مثل رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، على مخاطبة جمهور أقصى اليمين بلغته، عبر الإعلام الأوروبي، مستغلًا مشاعر العداء للمسلمين في أوساط هذا التيّار.
وفي هذا الإطار، لم يقتصر التماهي مع الرواية الإسرائيلية على أحزاب أقصى اليمين وحدها. فموقف حزب العمّال البريطاني مثلًا، والمحسوب على معسكر اليسار، لم يختلف كثيرًا عن موقف حزب المحافظين بخصوص الحرب. وهذا ما أدّى إلى خسارة الحزب العديد من المقاعد لمصلحة مستقلّين، في دوائر تتسم بكثافة الناخبين العرب.
في النتيجة، ثمّة الكثير من التحليلات التي تتوقّع عقلنة قوى أقصى اليمين بمجرّد دخولها دائرة التأثير السياسي، ومن ثم اضطرارها للدخول في تسويات ومساومات داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
غير أنّ المؤكّد أيضًا هو أنّ هذه القوى ستترك أثرها على وجهة الاتحاد العامّة، وإن لم تتمكّن من الوصول إلى مناصب الاتحاد العليا في الوقت الراهن. فتجربة رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني، قد عكست تأثّرها بالتسويات التي عقدتها داخل سقف الاتحاد، كما عكست تأثيرها على مؤسسات الاتحاد عينيه.