العواصف بين المغرب وأوروبا.. ترقب توتر دبلوماسي في العلاقات
يتطلّع المغرب إلى المتغيرات السياسية في أكثر من دولة في القارّة الأوروبية، بعين الترقب والانتظار، فالتطوّرات الأخيرة تُنذر بعودة توتر في علاقات الرباط الدبلوماسية مع أكثر من عاصمة أوروبية.
خصوصاً بعد اختيار المغرب، في خطاب ملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، ملفّ الصحراء معياراً واضحاً يحدّد على أساسه شركاءه من خصومه، ويضبط العلاقات التجارية والاستراتيجية مع باقي الدول بناء على وضوح المواقف من قضية الصحراء.
تبقى تطوّرات المشهد السياسي في المملكة الإسبانية أحدث هذه المتغيّرات، فالعاصفة السياسية التي أعقبت نتائج الانتخابات المحلية، يوم الأحد 28 مايو/ أيار الماضي، ودفعت رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز؛ إلى حلّ البرلمان، وإعلان انتخابات تشريعية مبكّرة في 23 يوليو/ تموز المقبل.
وذلك بعد التراجع اللافت للاشتراكيين (%28,1) مقابل تقدّم الحزب الشعبي اليميني (%31,5)، أوجدت هذه العاصفة هواجس لدى الرباط بشأن مستقبل العلاقات المغربية الاسبانية، مع تزايد فرص وصول الحزب اليميني؛ القوة السياسية الرئيسية في البلاد حالياً، إلى رئاسة الحكومة أواخر الشهر المقبل.
نجح المغرب، أخيراً، في فكّ شيفرة ما عُرِف تاريخياً باسم “الجوار الصعب”، بعد تدشين الطرفين، في ربيع العام الماضي، مرحلة جديدة، قوامها شراكة استراتيجية، جعلت كلا منهما “حليفاً وشريكاً موثوقاً” بالنسبة للآخر.
فمدريد في صدارة الشركاء التجاريين للرباط، وتمثل الأخيرة ثالث شريك تجاري لها بعد بكّين وواشنطن. فضلاً عن ثمار عديدة أفرزتها دينامية هذه المرحلة، مثل: مشروع الربط البحري ومشروع الترشّح الثلاثي (المغرب واسبانيا والبرتغال) لاستضافة مونديال 2030 … هذه الروح الإيجابية التي طبعت علاقة مدريد بالرباط، باتت مهدّدة في حال كسب الحزب الشعبي الاستحقاق المقبل.
كان هذا الحزب من أشرس معارضي اتفاق إبريل/ نيسان 2022 بين البلدين، وذهب حد اتّهام الحكومة اليسارية بالتفريط في الحياد التاريخي لإسبانيا في نزاع الصحراء، والانحياز لصالح المغرب بقرارها دعم مقترح الحكم الذاتي.
وشكّلت المطالبة باستعادة مدريد موقعها التقليدي في شمال أفريقيا، مع الاقتصار على دعم قرارات الأمم المتحدة في ملفّ الصحراء، جزءا أساسيا من النقد الموجّه لحكومة سانشيز.
يعزّز ذلك كله من فرص مراجعة الحكومة المقبلة، متى كانت يمينيّة، موقف الحكومة الاشتراكية، والاستعاضة عنه بمواقف إسبانيا التاريخية في هذا النزاع.
لا سيما وأن الحزب يمتلك أكثر من ورقة لتبرير تغيير مواقفه، لعل أبرزها تأخّر المغرب في تنفيذ مخرجات اتفاق الشراكة، خصوصا نقطة تحويل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين إلى معبر جمركي رسمي، ما حدا صحيفة “إل باييس” إلى الحديث عن “عرقلة مغربية”.
يحمل هذا الكلام جانباً من الصحّة، فالمغرب في ما يبدو واع بتبعات القرار، فهو يخشى تكرار خطأ تاريخي شبيه بذاك الذي ارتكبه السلطان محمد الرابع عند توقيعه “اتفاقية واد راس” (1860).
وما احتجاج الرباط، في الأسابيع الماضية، على تصريح لنائب رئيس المفوضية الأوروبية؛ مارغريتيس شيناس؛ اعتبر فيه سبتة ومليلية أراضي إسبانية سوى دليل على ذلك.
ليس الحزب من موقع المعارضة ذاته في الحكم والتسيير، دفْعٌ يعتبره كثيرون كافياً للاطمئنان إلى أنّ تولي الحزب الشعبي قيادة الحكومة المقبلة، سيكون بناء على مصالح ووفق حسابات الدولة العميقة (الاقتصاد، الهجرة، الأمن…)، لا على مواقف وأيديولوجيا الأحزاب السياسية.
فضلاً عن أن مواقف الحزب اليميني تاريخياً في تناغم تمام مع مواقف الدولة، بإعلانه الحياد السلبي من دعم أيّ حركة انفصالية داخل أوروبا وخارجها.
عكس مجريات الأحداث في إيطاليا تماماً، حيث دشّنت الحكومة اليمينية، بقيادة جورجيا ميلوني من حزب “إخوة إيطاليا” (FDI)؛ اليميني القومي الشعبوي، بحضور سفير روما في الجزائر، جيوفاني بولييزي، في 16 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، مكتباً قنصلياً في مدينة تندوف، حيث توجد المراكز الإدارية لجبهة بوليساريو.
بغرض منح امتيازات للصحراويين، وتسهيل تقديم طلبات التأشيرات لصالح سكان مخيّمات اللاجئين الصحراويين.
وبذلك تكون إيطاليا أول دولة في منطقة شنغن تتّخذ خطوة بهذه الجرأة، وتفتح منشأة قنصلية في مدينةٍ تعداد سكّانها 160 ألف نسمة، في أقصى جنوب شرق البلاد، على بعد 1800 كلم من العاصمة، قرب حدود المغرب وموريتانيا.
وفي معرض تبريره دواعي اتخاذ حكومة روما مثل هذه المبادرة، أكّد ممثل الدبلوماسية الإيطالية، في تصريح له، على وجود “تاريخ مهم من التضامن مع القضية الصحراوية وأوضاع اللاجئين الصحراويين في المخيمات”.
وكأنه بذلك يحيل، ولو بشكل ضمني، على دعم جورجيا ميلوني ومناصرتها التاريخية جبهة البوليساريو، فقد خصّت رحلتها إلى مخيمات اللاجئين، عام 2002، بصفحاتٍ في سيرتها الذاتية، جاء فيها: “هناك فهمت ما يعنيه أن تحب أرضك حقاً… شربتُ الشاي في الصحراء مع النساء الصحراويات اللواتي ينتمين إلى هذا الشعب الفخور بنفسه”.
وتبقى تقلبات الأزمة المفتوحة مع الاتحاد الأوروبي أعقد هذه التطورات، فزيارة ممثل الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، المملكة، مطلع العام الجاري، لم تضع حدّا لسوء الفهم الكبير بين الطرفين، رغم تواتر الأحاديث، هنا وهناك، عن فتح صفحة جديدة بين الرباط وبروكسل.
سيما بعد رفض الاتحاد الأوروبي، مارس/ آذار الماضي، طلباً تقدّمت به مجموعة التحالف الأوروبي الحر لإنشاء قسم خاص بالصحراء، داخل دائرة العمل الخارجي الأوروبي.
لكن تعزيز الثقة بين الطرفين سرعان ما تراجع، بعد رفض الاتحاد الأوروبي الدخول في مفاوضات مع المغرب لتجديد اتفاقية الصيد البحري، المرتقبة نهايتها في 17 من الشهر المقبل (يوليو/ تموز)، مبرّراً ذلك بانتظار معرفة مضمون الحكم يتوقع صدوره أواخر العام الجاري، عن محكمة العدل الأوروبية بشأن الاتفاقية، بسبب الصيد في مياه الصحراء.
واهتزّت الثقة من جديد، يوم الخميس؛ 15 يونيو/ حزيران الحالي، بعد مصادقة البرلمان الأوروبي، بأغلبية مطلقة (417/97)، على التوصيات المرفقة بتقرير يتهم دولاً أوروبية (اليونان وإسبانيا وبولندا) باستخدام “بيغاسوس” ويتحدّث عن مؤشّراتٍ واضحةٍ عن تجسّس المغرب ورواندا على رؤساء دول أوروبية.
واضحٌ أنّ الدبلوماسية المغربية على موعدٍ مع صيفٍ ساخن، فما سبق ذكرُه من تطوّرات يهدّد بفتح جبهات توتر في علاقات الرباط بأكثر من عاصمة في أوروبا.
ويحمل في طياته، رسالة طالما قوبلت بالتجاهل من صنّاع القرار في المملكة، مفادها بأنّ حلّ ملف الصحراء داخلي في الرباط، قبل أن يكون موضوع مساومة وابتزاز من الخارج.
للكاتب/ محمد طيفوري