قراءة في قرار الاتحاد الأوروبي تحريك ملف مفاوضاته التجارية مع دول الخليج
على هامش فعاليّات افتتاح الغرفة التجاريّة الأوروبيّة في السعوديّة، خلال شهر أيّار/مايو 2024، قرّر الاتحاد الأوروبي تحريك ملف مفاوضاته التجارية مع مجلس التعاون الخليجي.
وبحسب مؤسسة “فنك” الأوروبية فإن الهدف النهائي، هو التوصّل لاتفاق تجارة حرّة بين دول الخليج العربيّة ودول الاتحاد الأوروبي، بعدما فشل التكتّلان سابقًا في تحرير التجارة بينهما على الرغم من جولات التفاوض المتكرّرة بهذا الشأن، منذ العام 1988.
ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يسعى فيها الطرفان إلى اتفاق تجاري من هذا النوع. إذ تعود أولى هذه المحاولات إلى العام 1988، حين وقّعت دول مجلس التعاون الخليجي اتفاقيّة إطاريّة مع الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة، بهدف إطلاق مفاوضات حول كيفيّة تحرير التجارة بين التكتلين.
وبالفعل، بدأت المفاوضات على هذا الأساس منذ العام 1991، دون أن تشهد أي تقدّم يُذكر في السنوات المقبلة.
منذ ذلك الوقت، وعلى مدى السنوات الـ 17 العتيدة، أي لغاية العام 2008، ظلّ الملف معلقًا بفعل الشروط والهواجس المتبادلة.
وخلال هذه المدّة، لم تنجح العديد من المبادرات والقِمَم واللّجان الفرعيّة المتخصصة في تذليل العوائق، التي كانت تتبدّل وتتغيّر في كل مرحلة.
وفي النتيجة، قرّر مجلس التعاون الخليجي في قمّة مسقط عام 2008 تعليق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشكلٍ نهائيّ، بشأن اتفاقيّة التجارة الحرّة.
منذ العام 1988، تمثّلت أبرز العوائق في طلب الاتحاد الأوروبي تشكيل اتحاد جمركي بين الدول الخليجيّة العربيّة، أي اندماج هذه الدول في تكتّل اقتصادي متجانس يعتمد على رسوم وإجراءات جمركيّة موحّدة، على المستويَين الداخلي والخارجي.
بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، كان من الضروري تحقيق هذا الانسجام بين دول الخليج العربيّة، كي تتمكّن هذه الدول من الدخول في اتفاقيّة تجارة حرّة كمجموعة واحدة، لا كدول يعتمد كلّ منها سياساته الجمركيّة الخاصّة.
غير أنّ هذه العقبة تم تذليلها في يناير/كانون الثاني 2003، حين تحوّلت دول مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد جمركي يطبّق سياسة موحدة، إزاء السلع المستوردة من الخارج.
وبهذا الشكل، بات بإمكان دول المجلس التفاهم مع تكتّلات اقتصاديّة أخرى، كالاتحاد الأوروبي، على اتفاقيّات تجاريّة وجمركيّة يمكن أن تصل إلى حد تحرير عمليّات الاستيراد والتصدير.
شروط وحجج أوروبيّة إضافيّة
بعد تذليل تلك الإشكاليّة عام 2003، أضاف الاتحاد الأوروبي شرطًا إضافيًا، يتمثّل في انضمام جميع دول مجلس التعاون الخليجي إلى منظمة التجارة العالميّة.
وكان من الواضح أنّ هذا الشرط جاء ليصوّب على السعوديّة بالذات، التي كانت في تلك المرحلة الدولة الخليجيّة العربيّة الوحيدة غير المنضمّة إلى المنظمة.
ومن المعلوم أن الضغط على الرياض للانضمام إلى المنظّمة جاء بهدف لجم بعض سياساتها الاقتصاديّة، وتحديدًا تلك المتجهة إلى دعم بعض الصناعات البتروكيماويّة بالمساهمات الماليّة المباشرة، أو إلى تقييد حركة الرساميل الأجنبيّة في القطاع الخاص السعودي.
امتعضت الرياض يومها من هذا الشرط غير المفهوم، خصوصًا أن الاتحاد الأوروبي كان قد وقّع اتفاقيّات للتجارة الحرّة مع دول لم تنضم إلى منظمة التجارة العالميّة، مثل الجزائر ولبنان.
ومع ذلك، تم تذليل هذه العقبة تلقائيًا بعد انضمام السعوديّة إلى المنظّمة عام 2005، وبعد التزام المملكة بالامتثال لجميع معايير وقواعد عمل المنظمة خلال فترة انتقاليّة لا تتجاوز الثلاث سنوات.
عندها، انتقل الاتحاد الأوروبي إلى رفع شروط ومطالب جديدة: من تحرير بعض القطاعات الاقتصاديّة الخليجيّة وخصخصتها، وفتحها أمام الرساميل الأوروبيّة، إلى إلغاء دعم الأسعار الممنوح لبعض السلع والمواد الأوليّة، وصولًا إلى بعض الشروط والمطالب السياسيّة والاجتماعيّة المرتبطة بحقوق الإنسان ومشاركة المرأة الاقتصاديّة وتطبيق الديمقراطيّة.
وهذا ما دفع جميع الدول الخليجيّة إلى التحسّس من هذا الملف، وتعليق المفاوضات عام 2008.
بعيدًا عن الأسباب والحجج المعلنة، كان من الواضح أنّ لوبي الصناعات البتروكيماويّة في أوروبا يخشى من منافسيه في دول الخليج العربيّة، بالنظر إلى انخفاض أسعار المشتقّات النفطيّة في تلك الدول.
وذلك الهاجس، لعب دورًا رئيسًا في دفع الاتحاد الأوروبي إلى تشديد شروطه، المتعلّقة بتوقيع اتفاق التجارة الحرّة.
وفي المقابل، كانت دول الخليج العربيّة تصر في جميع جولات التفاوض على إعفاء منتجاتها البتروكيماويّة من الرسوم الجمركيّة في إطار اتفاق التجارّة الحرّة المقترح، كحال جميع السلع الأخرى، دون ربط ذلك بأي فترة انتقاليّة أو شروط إضافيّة.
أسباب تحريك الملف عام 2024
والسؤال الأهم اليوم، يتمحور حول أسباب الحماسة الأوروبيّة لتحريك المفاوضات مع مجلس التعاون الخليجي، حول ملف اتفاقيّة التجارة الحرّة.
فإثارة الموضوع حاليًا، يأتي في ظل اتجاه التكتلات الاقتصاديّة الكبرى نحو الحروب التجاريّة المتبادلة، بما فيها تلك تجري بين الاقتصادات الغربيّة اللّيبراليّة عينيها.
وبهذا الشكل، باتت العولمة الاقتصاديّة والإيديولوجيّات التي تتبنّى منطق تحرير الأسواق تتعرّض الآن لانتكاسات كبرى، بعدما هيمن هذا التوجّه على عقول صنّاع القرار خلال الحقبات السابقة.
فلماذا يراهن الاتحاد الأوروبي على إنجاح طرح تحرير التجارة مع دول الخليج العربيّة في هذا الوقت، فيما فشل هذا المشروع بالذات في عزّ موجة العولمة وتحرير الأسواق العالميّة في الماضي؟
النظر في أرقام العام 2022، أي في العام الذي شهد بداية الحرب الأوكرانيّة، يكشف أن قيمة صادرات دول الخليج العربيّة إلى أوروبا قد ارتفعت خلال تلك السنة إلى أكثر من 92 مليار دولار، مقارنة بـ 43 مليار دولار فقط خلال العام السابق.
أمّا قيمة صادرات أوروبا إلى دول الخليج العربيّة، فارتفعت إلى 93.5 مليار دولار عام 2022، مقارنة بـ 77 مليار دولار في العام السابق.
وخلال العام 2023، قفزت الصادرات الأوروبيّة إلى أكثر من 101 مليار دولار، بينما استوردت أوروبا أكثر من 82 مليار دولار من السلع الخليجيّة.
مع الإشارة إلى أنّ الانخفاض المحدود في قيمة الواردات الخليجيّة إلى أوروبا عام 2023، جاء بفعل انخفاض متوسّط أسعار مصادر الطاقة، مقارنة بالعام السابق.
تشرح هذه الأرقام المصالح التي تدفع باتجاه تحريك ملف اتفاقيّة التجارة الحرّة. فالحرب الأوكرانيّة زادت من اعتماد الاتحاد الأوروبي على المشتقات البتروليّة الخليجيّة إلى حدٍ بعيدٍ، وهو ما انعكس على حجم الصادرات الخليجيّة إلى أوروبا.
في المقابل، ارتفع الطلب الخليجي على المنتجات التكنولوجيّة الأوروبيّة، في إطار المشاريع الاستراتيجيّة التي تقوم بها دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا في قطاعات الخدمات الصّحيّة والكهرباء وتقطير المياه وتوليد الطاقة النظيفة وتطوير المؤسسات الأكاديميّة.
في الوقت عينيه، باتت دول الاتحاد الأوروبي تراقب بقلق مسار المفاوضات بين الصين ومجلس التعاون الخليجي، والذي يمكن أن يفضي أيضًا إلى اتفاقيّة لتحرير التجارة بين المنطقتين.
وهذا ما يدفع الاتحاد الأوروبي إلى استباق هذا الاحتمال، ومحاولة توقيع اتفاقيّة تجارة حرّة مماثلة مع مجلس التعاون، خوفًا من خسارة السلع الأوروبيّة قدرتها التنافسيّة في سوق دول الخليج العربيّة.
وفي جميع الحالات، يبدو أن روسيا تحاول بدورها الدخول في هذا السباق، حيث أعلنت في مايو/أيّار 2024 سعيها لإعداد اتفاقات تجارة حرّة مشابهة مع دول الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.
أخيرًا، يبدو أن بعض التطوّرات في السوق الأوروبيّة عالجت العائق المرتبط بالخشية من الصناعات البتروكيماويّة الخليجيّة.
إذ أنّ الشركات الأوروبيّة باتت تتجه مؤخرًا إلى استيراد المواد الرئيسة لصنع البلاستيك من الخارج، بدل إنتاجها داخل أوروبا، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتزايد كلفة الإنتاج.
وذلك ما يجعل اللّوبيات المؤثّرة داخل الاتحاد أكثر تقبلًا للانفتاح على الأسواق الخليجيّة، بدل الخشية من تحرير التجارة معها. وهنا، يمكن لاتفاقيّة التجارة الحرّة أن تصبَ في مصلحة دول الخليج العربيّة.
من المتوقّع أن يشهد هذا الملف مسارًا طويلًا من المفاوضات، قبل أن تنضج جميع تفاصيل الاتفاقيّة، هذا إذا تمكّن الطرفان من الوصول إلى تفاهم من هذا النوع.
لكنّ نجاح دول الخليج العربيّة في تحرير وتطوير تجارتها مع أوروبا، مع الاحتفاظ بعلاقاتها التجاريّة المميّزة مع الهند والصين، قد يسمح لها بأن تصبح أحد اقتصادات الربط ما بين الشرق والغرب، خصوصًا إذا استمرّت بالإنفاق على تطوير البنى التحتيّة المرتبطة بالشحن التجاري. وهذا ما يمثّل أحد أهداف الإمارات والسعوديّة وعمان بالتحديد.