مؤسسة أوروبية: الرئيس التونسي يسعى للانفراد بالسلطة بكافة أشكالها
خلصت مؤسسة “فنك” الهولندية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أن الرئيس التونسي قيس سعيد يسعى للانفراد بالسلطة بكافة أشكالها دون أن يسمح لأحد غيره بمشاركته إياها.
وقالت المنظمة في دراسة تابعها المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط، إن سعيد منذ وصوله إلى قصر قرطاج وحصوله على أغلبية كاسحة في الانتخابات الرئاسية، ما يزال يثير المفاجآت بشخصيته وأسلوبه المختلف في الحكم.
فبعد أن أظهر منذ فترة قصيرة تراجعاً بسيطاً في خطابه السياسي، خصوصاً بعد إعلانه نيّته إشراك الجميع في صياغة الإصلاحات الدستورية قبل عرضها على الاستفتاء، عاد سعيّد ليصدر مراسيم رئاسية جديدة يبدو أنها لا تشذّ عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمدها تونس منذ عام 1986.
الرئيس التونسي الذي سعى لإشراك التونسيين في صياغة الإصلاحات الدستورية، لم يلقَ استجابة واسعة من الشارع التونسي.
والاستشارة التي أطلق عليها بـ “الاستشارة الوطنية” الإلكترونية، لم يشارك فيها سوى 500 ألف تونسي، ما يعكس عدم اهتمام المواطنين المنشغلين بتدهور أوضاعهم المعيشية والاجتماعية.
أما المراسيم المرتبطة بالجوانب الاقتصادية، فقد اعتبرها سعيّد “خطوات تاريخية لاستعادة كرامة التونسيين وإنقاذ ما تم إفساده خلال السنوات الماضية”.
بيد أنّ هذه المراسيم أبقت الوضع على ما هو عليه، لا بل سعت إلى تحويل النظام السياسي في تونس إلى نظامٍ رئاسي ينخفض فيه دور الأحزاب السياسية.
وحيداً في القمة
نجح قيس سعيّد منذ استلامه مقاليد الحكم في وضع القوى السياسية الثلاثة التقليدية التي تتقاسم النفوذ في المشهد السياسي، تحت الضغط.
فحزب النهضة الإسلامي (وحلفاؤه) تلاحقه الاتهامات بالمسؤولية عن عشر سنوات من الأزمات والتوافقات الهجينة مع قوى النظام القديم، وقد تطاله إجراءات قضائية في ملفات تمويلات “خارجية” لحملته الانتخابية.
كما استدعت شرطة مكافحة الإرهاب ٣٠ عضواً من الحزب وعلى رأسهم زعيم الحزب ورئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي على خلفية عقد جلسة افتراضية للبرلمان المنحل في الأيام الأخيرة.
فيما تلاحق الأحزاب سليلة التجمع الدستوري الحاكم في عهد الرئيس بن علي، الاتهامات بالمسؤولية عن تركة النظام القديم من فساد سياسي واقتصادي.
أما أحزاب اليسار الوسطي والراديكالي والقوميين العروبيين، فتبدو في وضع لا يحسد عليه، فقد أظهرت انقساماً وتردّداً في مواقفها إزاء إجراءات الرئيس سعيّد، الذي لم يتردد من جهته في مهاجمتها تلميحاً وتصريحاً.
ولعل أبرز قراراته، هي “التدابير” التي نصت على مواصلة تعليق جميع اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، إلى جانب وضع حد لكافة المنح والامتيازات المسندة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي ونوابه.
وحتى عندما يُسأل من أطراف خارجية مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، يرد سعيّد بأنه بصدد إعداد إصلاحات للنظام السياسي وتحقيق ما “يريده الشعب”.
أما عندما تطرح عليه مسألة الحوار مع القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية، لا يخفي الرئيس التونسي استخفافه بتلك الأطراف ونعتها بالفساد والتآمر وحتى “الخيانة”، معتبراً أن الحوار يكون مع الشعب مباشرة.
وهذا يعني أن الرئيس سعيّد يسعى للانفراد بالسلطة بكافة أشكالها، دون أن يسمح لأحد غيره بمشاركته إياها.
آمال مجهضة
لم تكن تونس يوماً لاعباً إقليمياً رئيسياً، لكن لطالما نُظر إليها باعتبارها منارة أمل للتحول الديمقراطي في العالم العربي.
فهي الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع بدرجة معينة من الديمقراطية، خصوصاً إذا ما تمت مقارنتها بغيرها من دول المنطقة التي هي إما غارقة في حروب أهلية أو تعيش في ظل أنظمة ديكتاتورية.
لكن، معظم المشاكل التي يواجهها الشعب التونسي اليوم ناجمة عن الآمال والوعود التي لم يتم الوفاء بها منذ انطلاق شرارة الثورة الأولى وصولاً إلى وقتنا الحالي.
وكانت أغلب المراسيم الرئاسية بمثابة “لَي ذراع” للحياة الديمقراطية التونسية التي كان الشعب يحلم بها.
والمعلوم أنّ تونس تواجه اليوم مشاكل اقتصادية واجتماعية بالجملة، إذ انعكست أزمة فيروس كورونا بشكل مباشر على معدلات الفقر والبطالة، وعطلت مجمل النشاطات الاقتصادية والاستثمارية.
كما أثرت بشكل مباشر في المهن الصغرى، فضلاً عن تسببها في مسارعة الدولة إلى الاقتراض أكثر من مرّة لتسديد أجور موظفيها.
وتشكو محاسبات البلاد من عجز كبير في الموازنة، ومديونية خانقة، واستثمارات معطلة، وجيوش من المعطلين عن العمل، وحرائق بالجملة في الولايات المنكوبة، وارتفاعاً متواصلاً في مؤشر الفقر متعددّ الأبعاد، ناهيك عن استئساد جيوب الفساد والتهريب.
وفي الوقت الذي زاد فيه فقر الفقراء، وانضمت إليهم طوابير جديدة من المفقرين الذين كانوا ينتمون إلى المرحومة “الطبقة الوسطى”، انتعشت الأعمال غير المشروعة، وزادت معدلات الفساد الذي وصل إلى الأجهزة التنفيذية للدولة.
هذا كله، إضافةً للمراسيم التي لا تصب في مصلحة الشعب أبداً، يُشعرُ التونسيون باليأس من إمكانية تحقيق اختراقٍ لهذه المعادلة الغريبة، أو إعطائهم أملاً جديداً للعيش.
الانهيار الاقتصادي
كان الاقتصاد التونسي يعاني من أزمة قبل تفشي جائحة كورونا في البلاد. وكان تأثير الوباء على الاقتصاد الوطني وعلى الشركات الصغيرة المحلية كبيراً جداً.
وارتفعت نسبة البطالة بسببه إلى نحو 18 في المئة، وفقاً للإحصاءات الرسمية.
يقول خبراء الاقتصاد في تونس إن عجز ميزانية الدولة بلغ مستوى قياسياً وبأن تسديد رواتب الموظفين مهدد وبأن قانون موازنة العام الجديد سيحمل تدابير تقشفية تحد من الدعم الحكومي للمواد الأساسية والفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، وذلك ضمن خطة إصلاحات تتفاوض عليها الحكومة التونسية مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على تمويل الموازنة.
وأكبر المشاكل الاقتصادية التي تواجه تونس هي أن السياحة، وهي أحد أهم القطاعات الاقتصادية، تضررت بشدة بسبب جائحة كورونا وما زالت، سيّما وأن تونس بلد محدود الموارد وبحاجة إلى الاستثمار.
وقد تساهم التطورات الأخيرة في تفاقم مشاكل الاقتصاد المتعثر أكثر. فقد تركزت إجراءات الرئيس سعيّد، منذ إعلان التدابير الاستثنائية، على قضايا سياسية وقانونية وفي مقدمتها ملف مكافحة الفساد، متناسياً الأوضاع الاجتماعية الأخرى.
هذا الملف يراه الرئيس سعيّد حجر الزاوية لإنعاش الاقتصاد، حيث أعلن عن إحداث “شركات أهلية” وهي عبارة عن تعاضديات اجتماعية ينتظر أن يتم إحداثها في مختلف مناطق البلاد.
وستكون وظيفة هذه الشركات إنجاز مشاريع لصالح السكان بحسب أولويات تنموية، وبالاعتماد على تحصيل تمويلات للمشاريع من رجال أعمال، ضمن قانون – مرسوم “الصلح الجزائي” الخاص بملفات الفساد المالي التي توصلت إليها لجنة تحقيق أحدثت بعد الثورة وبقيت توصياتها حبراً على ورق.
تداعيات المراسيم السياسية
تشير سامية حسني وأميرة فتح الله، المختصتان في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في قسم المراقبة الإعلامية في بي بي سي، إلى أن قيس سعيد لا يزال يحظى بتأييد شعبي كبير.
وبحسب حسني وفتح الله، فإن “سعيد جاء إلى السلطة بتأييد شعبي كبير حيث حصل على أكثر من 72٪ من الأصوات، مما يعكس استياء الناس من المؤسسة السياسية في البلاد”.
كما أنّ سعيّد “يتمتع بقاعدة شعبية كبيرة بين الشباب التونسي الذين أصيبوا بخيبة أمل من السياسات الحزبية”، الأمر الذي سيساعده ويساعده دائماً في تمرير أي مرسوم أو قرار يريده.
لكن، ثمة مشكلة مهمة ورئيسية في المشهد السياسي التونسي ألا وهي أن الرئيس والبرلمان يتم انتخابهما عن طريق التصويت الشعبي.
فالتصويت الذي لم يؤدِ عندما تم في عام 2019، إلى تحقيق أي حزب للأغلبية البرلمانية المطلقة وهو الوضع الذي لم يترك خياراً آخر سوى تشكيل حكومة ائتلافية من عدة أحزاب من مختلف الأطياف السياسية وأحياناً لها مواقف متباينة في مختلف المجالات والقضايا السياسية.
أما الاشتباكات بين المؤيدين والمعارضين، فما تزال محدودة حتى الآن، لكن لا يمكن استبعاد خطر اندلاع أعمال عنف خلال الأيام المقبلة.
لا سيما بعد هذه المراسيم الجديدة، إضافةً لمشكلة مجلس النواب التي لم يتم حلها أساساً، والمرسوم الرئاسي الذي يقضي رسمياً بإقالة الوزراء الرئيسيين، بمن فيهم المسؤولين عن الداخلية والدفاع والعدل، الذي أصدره الرئيس سعيّد خلال الفترة الماضية.
وفي هذا الإطار، حذّر سعيّد أي شخص يحرض الناس على الاحتجاج ضد قراراته، مؤكداً على أن القوات المسلحة ستواجه بالرصاص كل من يفكر في اللجوء إلى العنف.
يميل غالبية الخبراء والمحللين للحياة السياسية في تونس، إلى الاعتقاد بأن الرئيس سعيّد ماضٍ في تغيير قواعد اللعبة كلها في البلاد، أولاً بانتهاجه هذا الأسلوب الفردي في اتخاذ القرار، وهو الأسلوب الذي يكتفي في أفضل الحالات فيه باستشارة دائرة ضيقة ومقربة جداً منه في قصر قرطاج.
وثانياً في الإعداد لتغييرات للنظام السياسي لتحويله من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي صريح، حيث يتداول أنصار سعيّد عبر شبكات التواصل تسريبات عن مشروعه بإقامة حكم مجالسي يشبهه البعض بحكم “المؤتمرات الشعبية” في عهد العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
وفي ظل هذا النوع من الحكم، سيتم تهميش دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي قامت عليها المنظومة السياسية ودستور 2014.
ولتمرير تغييراته، من المرجح أن يعتمد سعيّد على استفتاء شعبي، يدرك أنه سيكسب رهانه بفضل شعبيته التي ما تزال مرتفعة نسبياً رغم بداية تآكلها وارتفاع الأصوات في الإعلام المنتقدة لسياسته.
فتبدو هكذا ملامح مستقبل بلد مهد الربيع العربي، في ظل انسداد قنوات الحوار بين القوى الأساسية المؤثّرة داخلياً وخارجياً في المشهد السياسي التونسي واستحواذ الربّان سعيّد على دفة القيادة، غير واضحة المعالم.