Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تقارير

تحول تجاري أم غطاء للقمع؟ دول الخليج والتواطؤ الدولي في انتهاكات حقوق الإنسان

خلال السنوات الأخيرة، برزت دول مجلس التعاون الخليجي كلاعبٍ أكثر فعالية في التجارة والاستثمار العالميين، مستثمرة ثرواتها النفطية وبرامج “التحوّل الاقتصادي” لجذب رأس المال الأجنبي والعقود الضخمة.

لكن هذا النجاح الاقتصادي لا يجب أن يُطوى على حساب حقوق الإنسان: فالاتفاقيات التجارية والتقارب السياسي مع هذه الدول كثيرًا ما يتحوّل إلى وسيلة لتطبيع الانتهاكات وتحويلها إلى “تكلفة مقبولة” على طريق المصالح التجارية.

والمحادثات حول اتفاقية تجارة حرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون نموذج صارخ لهذا الخطر. على الورق، تهدف مثل هذه الاتفاقيات إلى تعزيز التبادل التجاري وتيسير الاستثمار.

عمليًا، عندما تُجرى المفاوضات بسرية ويُعطى الجانب الاقتصادي الأولوية المطلقة، يصبح الملف الحقوقي هامشيًا أو غائبًا تمامًا. هذا الفراغ يسمح للدول ذات السجل الحقوقي المتردّي بأن تواصل سياساتها القمعية دون محاسبة حقيقية، فيما تتحول الدول الشريكة إلى شركاء في هذا الصمت.

ومن أكثر الملفات إيلامًا في دول الخليج هو وضع العمالة المهاجرة. نظام “الكفالة” الذي يربط العامل بصاحب العمل، وظروف العمل القاسية في مواقع البناء والمشروعات العملاقة، والاستغلال الذي يتضمن ساعات طويلة من العمل، وغياب الحماية القانونية الفعلية، كل ذلك يشكل صورةً واضحة للانتهاك الممنهج لحقوق الملايين من العمال.

مشاريع مثل “نيوم” أو مشاريع البنى التحتية الضخمة غالبًا ما تُروّج كرموز للتقدّم، بينما يبقى عمالها في مواجهة استغلالٍ شبه مؤسسي.

ويذكر التاريخ الحديث أن علاقات الدول الغربية مع دول الخليج تضمنت بيع أسلحة وصفقات دفاعية ضخمة، حتى في فترات تشهد فيها هذه الدول سجلات مليئة بالانتهاكات.

مثل هذه الصفقات تُغذي مناخًا سياسيًا يسمح بصون الحكومات المتهاونة في حماية الحقوق، مقابل مصالح اقتصادية واستراتيجية قصيرة الأمد. هكذا يصبح الدعم التجاري والدفاعي شريكًا ضمنيًّا في إفلات من يرتكبون الانتهاكات من أي مساءلة حقيقية.

والمخاوف الحقوقية حول اتفاقيات التجارة مع دول الخليج لم تظهر من فراغ. إذ طُلب من الحكومات الشريكة، وعلى رأسها لندن، أن تُدخِل فقرات واضحة وملزمة لحماية حقوق العمال وحرية التعبير وحقوق المرأة، وأن تضمن آليات مراقبة وشفافية وشرطًا لإيقاف التعاون في حال ثبوت انتهاكات. لكن المضمون الفعلي للحوارات الرسمية يميل إلى التغاضي عن هذه الضمانات، ما يفتح الباب أمام مزيد من التواطؤ الرسمي.

والتعاون الاقتصادي مع دول الخليج يصاحبه أيضًا تبنٍّ إعلامي وسياسي لرواية “الاستقرار والتنمية” التي تتجاهل القمع السياسي وحالات التضييق على الحريات. هذا التحول في الخطاب لا يقصي فقط أصوات المجتمع المدني داخل الدول الخليجية، بل يغيّر أيضًا وعي الرأي العام الدولي، ويُجنّب الحكومات المحلية مساءلةً جدّية.

وإذا كانت دولٌ مثل المملكة المتحدة وغيرها مصممة على تطوير علاقات اقتصادية مع الخليج، فمن الضروري أن تُقرّن ذلك بشروطٍ حقوقية ملزمة: نصوص واضحة في الاتفاقيات تضمن احترام حقوق العمال والالتزام بالمعاهدات الدولية، آليات شفافة للتفتيش والمساءلة، إمكانية تعليق أو إنهاء التعاون عند ثبوت الانتهاكات، ودعم فعلي لمنظمات المجتمع المدني المستقلة. دون هذه الضمانات، ستبقى الاتفاقيات التجارية بمثابة غطاءٍ شرعي لانتهاكاتٍ لا تُرى.

لا يُمكن للأمم والحكومات أن تختار النمو الاقتصادي على حساب كرامة البشر. حين تتحول المصالح التجارية إلى مبرر لتجاهل الاعتداء على الحقوق الأساسية، فإن المجتمع الدولي بأكمله يكون شريكًا في هذا التجرّد الأخلاقي.

لذلك، يتوجب على الدول المفاوضة أن تختار بوضوح: إمّا تجارة تحترم الكرامة والحقوق، أو مصالح تُبنى على صمت الضحايا وتواطؤ الدول. في معادلة السياسة الدولية، لا ينبغي أن يُباع الضمير بأرخص الأثمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى