أكبر تمرد ثقافي ضد إسرائيل: أربع دول أوروبية تقاطع يوروفيجن 2026

يشكّل قرار أربع دول أوروبية هي إسبانيا، أيرلندا، هولندا، وسلوفينيا، مقاطعة مسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن” لعام 2026 بسبب مشاركة إسرائيل، واحدة من أهم اللحظات السياسية في تاريخ المسابقة الممتد لسبعين عامًا.
فالمسابقة التي لطالما روّج لها منظموها كحدث فني «غير سياسي»، تجد نفسها من جديد في قلب عاصفة دولية تتشابك فيها الثقافة بالدبلوماسية، والغناء بالصراع المسلح، والرمزية الفنية بالعدالة الأخلاقية.
وتأتي المقاطعة في وقت تتواصل فيه تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، رغم وجود وقف إطلاق نار هش لا يزال مهددًا بالانهيار. ورغم الضغوط المتزايدة، لم تُظهر هيئة الإذاعة الإسرائيلية “كان” أي نية للانسحاب من المسابقة أو مراجعة مشاركتها، ما يُنذر باستمرار الأزمة حتى موعد الحدث.
وفي الوقت نفسه، فإن انسحاب أربع دول محورية — بينها إسبانيا، إحدى الدول الخمس الأكثر دعمًا للمسابقة ماليًا، وأيرلندا صاحبة الرقم القياسي في عدد مرات الفوز — يضرب قلب الحدث الأكبر للموسيقى الحية في أوروبا.
ورغم الزخم الذي أثاره هذا القرار، فإن المقاطعات السياسية ليست جديدة في تاريخ يوروفيجن. فقد شهدت المسابقة أزمات مشابهة في السبعينيات، أبرزها مقاطعة اليونان وتركيا المتبادلة عامي 1975 و1976 بسبب الغزو التركي لقبرص، كما انسحبت أرمينيا عام 2012 حين استضافت أذربيجان الحدث.
ومع ذلك، تختلف المقاطعة الحالية من حيث حجمها ورمزيتها. فأربع دول ذات ثقل تاريخي وثقافي ومالي تقاطع في عام واحد، وفي سياق واحد، احتجاجًا على حرب إسرائيل في غزة، وهو رقم لم يسبق له مثيل.
ويؤكد المؤرخ الثقافي بول جوردان أن تداخل يوروفيجن مع السياسة أمر «متجذر» في تاريخها، وأن الادعاءات المتكررة بأنها حدث «لا سياسي» مجرد «أسطورة» تتهاوى عند كل اختبار.
والمفارقة الأكبر تكمن في أن إسبانيا الأكثر صراحة في المقاطعة الحالية، كانت أول دولة استهدفت بدعوة مقاطعة في تاريخ المسابقة. ففي يوروفيجن 1964 بكوبنهاغن، اقتحم ناشط دنماركي المسرح رافعًا لافتة كتب عليها «قاطعوا فرانكو وسالازار»، احتجاجًا على السماح لإسبانيا والبرتغال بالمشاركة رغم الحكم الديكتاتوري.
وبعد أعوام قليلة، وعندما فازت إسبانيا عام 1968 واحتضنت النسخة اللاحقة، قاطعت النمسا المسابقة رفضًا لنظام فرانكو. واليوم، تأتي هذه الخلفيات التاريخية لتغذي الاتهامات بالنفاق، لكن آخرين يرون أن موقف مدريد يعكس تحولاً في الوعي السياسي والثقافي.
فبحسب دنكان ويلر، رئيس قسم الدراسات الإسبانية في جامعة ليدز، دخلت إسبانيا المسابقة في الوقت ذاته تقريبًا الذي مُنعت فيه من الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية.
وقد كان الهدف، كما يقول، «كسر العزلة والانضمام لنادٍ نخبوي». واليوم، بعد عقود من المشاركة، تدرك مدريد جيدًا أن الثقافة الشعبية مثل يوروفيجن يمكن أن تتحول إلى قوة ناعمة فعالة.
وتثير مشاركة إسرائيل سؤالًا شائعًا: ما علاقتها بمسابقة أوروبية؟ فيما الجواب أن هذا التساؤل بحسب الخبراء يسيء فهم أصول المسابقة. فـ”يوروفيجن” لم تُنشأ أصلًا لبناء هوية ثقافية أوروبية موحدة، بل كانت تجربة تقنية لبث عابر للحدود، اكتسبت لاحقًا أبعادًا سياسية وثقافية لم تكن متعمدة.
إضافة إلى ذلك، فإن اتحاد البث الأوروبي يضم دولاً من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، منها الجزائر والمغرب ولبنان وتونس وليبيا، وجميعها أعضاء كاملون. إسرائيل انضمت عام 1973، وشارك المغرب مرة واحدة عام 1980، بينما انسحب لبنان عام 2005 لأنه رفض بث العرض كاملاً بما يشمل مشاركة إسرائيل.
بهذا المعنى، فإن مقاطعة الدول العربية بسبب إسرائيل ليست جديدة؛ لكنها بقيت ثابتة لدرجة أن أحدًا لم يعد يلتفت إليها.
غير أن المقاطعة الحالية مختلفة نوعيًا. فهي أول مقاطعة تأتي من داخل «قلب» يوروفيجن: دول غربية مؤثرة، بعضها من المؤسسين وبعضها من كبار الممولين. وبانسحاب هذه الدول الأربع، تواجه المسابقة أزمة شرعية لأول مرة بهذا الحجم.
وقد تستغرق هذه الأزمة سنوات لحلها، خصوصًا إذا أصرّ المقاطعون على ربط عودتهم بوقف استغلال المسابقة لتطبيع صورة دولة متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة في غزة.
ورغم خطورة الوضع، يرى بعض المحللين أن مصير يوروفيجن ليس مهددًا وجوديًا. فالمسابقة لم تكن يومًا قائمة على مبادئ صلبة أو رؤية موحدة. قيمها تتمثل في مجموع القيم التي تجلبها الدول المشاركة معها، أكثر من كونها إطارًا ثقافيًا ثابتًا.
وعليه، عندما تعود الدول الأربع يومًا ما سواء بعد تسوية سياسية أو تحت ضغط جماهيري ستسهم عودتها في إعادة تشكيل روح المسابقة وإعادة تعريف وظيفتها الثقافية.




